صدر مؤخرا منجز أدبي موسوم ب ” الداخل والخارج ” عن مطابع التيسير. للكاتب المغربي المقيم بالديار الكندية السّعيد الحمّولي، عبارة عن نصوص قصصية كُتبت على فترات متباعدة، تُوثق أحداثا وحكايات وتجارب شكلت شخصية القاص ورمت به إلى عالم الإبداع السردي، لكنه تأخر في نشر مجموعته الأولى رغم احترافه للكتابة منذ شبابه. طولُ المدة التي استغرقها انتظار الإصدار كان تهيبا من الخارج، من الضغط الذي قد يُشكله الخارج على حروف ظل الكاتب محتفظا بها في داخله يناجيها ويداعبها، ويعيد كتابتها، ويخاف عليها من الخارج، الذي يجعلها حُرة تسبح مستقلة عنه، وإصرارا منه على الحفاظ على لمعانها وهي تخرج من داخله إلى الوجود في حلة تليق بها.
تضم المجموعة ثلاثة عشر نصا تختلف وتلتقي. تختلف من حيث المضمون السردي والمتخيل الحكائي، الذي يأخذنا إلى عمق الواقع، ينقله ويعيد كتابته بطريقة تُجلي المستور، وتُسهل مرور المتواري بين السطور. وتلتقي في الانتقاء والبناء. تم انتقاء الجمل والمفردات بعناية، لبناء جدار سردي سميك متراص مطلي بمعاني وأبعاد دلالية متعددة. عنونت المجموعة ب “الداخل والخارج” للإشارة إلى الطريقة التي تعالج بها مضامين النصوص، ولكون المرويات القصصية اعْتُمد في صياغتها على مفهوم الضد، الذي يُجاور تجلي الواقع، وينبع من قلب الظاهر الذي لا يعكس بدورها الحقيقة كما هي، حُجبتْ من أجل تسويق وهم يرسم السعادة على وجوه تحلم بها. اعْتُمد على الضد أيضا لترسيخ الاختلاف، الذي تقوم عليه العلاقات الإنسانية منذ البداية بصفة عامة رغم تشابهها وتعددها وتنوعها وتشابكها
الداخل والخارج مفهومان غنيان ينفتحان على عدة احتمالات، وقادران على فتح حوارات متشعبة، وطرح تساؤلات متعددة، حين ينظر إليهما خارج تعريفهما اللغوي العادي البسيط. كذلك يكشفان عن عمق وامتداد دلالي حين يُنظر إليهما في سياقهما وبعدهما الرمزي، الذي ينفتح على أفق متعددة، مما يجعل التفكير يُحلق ويبتعد ليلامس الحلم والأمل اللذان يشدان نحو التغيير، الذي يحلم به القاص وكذلك جيل بأكمله يعاني من صعوبة التعايش. هذا التغير الذي يرفضه واقع يكرس الحرمان والمعاناة.
تنطلق النصوص بشكل مباشر، دون مقدمات تعرض حالات إنسانية في تجليات مختلفة، يتداخل فيها الزمان والمكان والذاكرة، وتبقى مفتوحة على عدة احتمالات. يجلو ذلك نفسه بنص” الداخل والخارج ” ص (12 /13): ” في الداخل، في ساحة المدرسة، لقيّهُ المعلّم، ربت على كتفه، وسأله عن أمه.. تطلع إليه بعينين غضوبتين، وصمت ولم يجبه. وعندما قال له أخبرها سأزورها اليوم، قال له لست متاجرا في الأعراض. أنا لست قودا.(…)
في الخارج(…) وفي رأس الدرب عرف من اجتماعهم ومن ملامحهم أنهم ينتظرون قدومه. فكر في الهروب. لكن الأطفال لحقوا به، وأشبعوه سبا وركلا وضربا.(…)
في الداخل وجد أمه نائمة
في المطبخ وجد سكينا
وفي الخارج الأطفال يلعبون
المعلم الذي يمثل الخارج، أو المجتمع ويرمز إلى تنشئة اجتماعية معينة، على الأقل تضمن لرجال المستقبل ما يمهد لهم الطريق، نجده قد زاغ عن الطريق المرسوم، بمحاولته استخدام التلميذ لتلبية رغباته الشاذة. حين رفض، عاقبه بقسوة أمام باقي التلاميذ، زارعا بذلك عُقدا تنسف شخصية الطفل، وتبخس قيمته كإنسان. أما الأم، الحضن الدافئ والأمان والحماية تمثل الداخل. تجلس ملطخة بالأصباغ تنتظر الزبائن الراغبين في جسدها، غير آبهة بما يتحمله صغيرها من إهانات ومشاكل بسبب تصرفاتها التي أصبح لا يحتملها وتدفعه إلى التفكير في ارتكاب جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد. رغم أنها هي الأخرى مجبرة على تلك الحياة التي سيقتْ إليها بعنف، بسبب وفاة الزوج والمجتمع الذي دفع بها إلى ذلك العالم الدامس. هذه الصورة المركبة هي عبارة عن بوتريه مصغر لمجتمع انهارت قيمه واختلت موازينه، وتُجلي الأمراض التي تنخر المنظومة الاجتماعية الحاضنة للأفراد
إذا اعتبرنا أن الداخل بناء نفسي مكوّن من عدد من الأنساق، والنظم المتداخلة والمختلفة، قد يكون فكرة أو أفكار بأحْمال ذات أختام متباينة، مما يجعل نصوص المجموعة في حالة حركية وديناميكية متداخلة مستمرة، تتجلى و تنبلج بأشكال متغيرة. لذا تم التعبير عن ما بداخل المنظومة القصصية بصيغ مختلفة تشكلت عبر أحاسيس متداخلة مختلفة كالغضب، الرغبة، الغيرة، الحسد، الطمع، الاستغلال، الانتقام، ثم الحلم بالتغيير فالاختلاف و الهروب. بالتالي يكون الخارج هو طوق النجاة، وهو الأمل، هو الفرج، أو الينبوع الذي يريح الداخل حين ينتقل صبييه إلى الجهة الأخرى، إلى الضفة المقابلة حيث يتحقق الحلم. يمكن اعتبار الخارج كائنا حيا في عمق الداخل، أي داخل الذات الحالمة بالخارج. ازداد بفعل الحرمان، وتغذى بالحلم ليستمر في الحياة، في سيره، في إلحاحه نحو الأفق حيث يتوارى المنشود. يتضح ذلك ب ص (45): ” تتقلصُ المسافة التي تفصلني عن الهدف يوما بعد يوم، أصبحت قاب قوسين أو أدنى من قبضتي. رائحة الغربة التي يشتكون منها تثير شهيتي، تدغدغ كل مشاعري، توقظ الرغبة والحماسة والخوف، تبدو كندا قريبة للغاية لا يفصلني عنها الآن إلا هذا الحاجز الزجاجي. هذا الجدار الشفاف الذي يحول بين هذا الليل الدامس في هذه الأرض الطيبة الحارة ، والنهار المشرق كل يوم على مدينة مُوريال، بين هذه الجنة التي أتوق أن أسبح في أنهارها”
الداخل والخارج ثنائية استمرت على امتداد النصوص تختلف معانيها وتتشابه، تتوحد في المعنى اللفظي، وتختلف في الدلالة والبعد المستهدف. قد تعني داخل وخارج البيت، أو ذلك الحيز الجغرافي حيث العيش، أو محاولة التعايش، وقد تعني داخل وخارج ذلك الحيز الضيق ليشمل الإطار الزمن والمكاني، وقد تتعداهما لتشمل الحلم الذي استحوذ على متخيل جمعي ويتقاسمه جيل كامل، يحلم بحياة أخرى غالبا ما تُشكل بألوان وردية، وأشكال سريالية تختلف عن الواقع المرفوض بشدة، لبلوغها عليه الهجرة إلى الضفة الأخرى المرادفة للخارج، والتي غالبا لا تكون في المتناول. الداخل قد يعني ما يعتمر داخل النفس وما يتمخض بها وقد يعني داخل البيت والمجتمع بصفة عامة. الخارج قد يعني أيضا القاص نفسه، حين ينصب نفسه شاهدا على ما يجري أمامه ويتكرر برتابة وعنف بشكل مستمر، دفعه للبوح والتشهير عبر الكتابة القصصية. فنصب نفسه شاهدا وناقلا لأحداث زمانه
شكلت قصة ” الطريق ” منعرجا داخل المنظومة القصصية بأبعاد فلسفية. كان الداخل فيها يتجسد في الذات المحاصرة، والخارج كان هو الحلم والمتنفس الذي يحررها. كان بها حضور الذات متشظيا، وحُملتْ بأسئلة شكلت مأزقا في حد ذاتها، لأن القاص يطرح تساؤلات كثيرة ولا ينتظر أجوبة، أسئلة تُدرج القارئ في عالم القصة، فترمي به إلى تركيبتها السريالية، حيث يتيه في محاولاته الإمساك بطرف الخيط. لأن القصة تندلق بمد يباغت لإجبار القارئ على الدخول في أجواء المتخيل السردي. ليجد نفسه في الأخير يعيش في حلم. الحلم الذي يهرب من خلاله أيوب بطل القصة من بطش الواقع ليعيش في مغامرات خيالية لا يستطيع تحقيقها إلا في الحلم، الذي يشكل متنفسا يريحه ولو لحظات مسروقة. يجلو ذلك نفسه بالصفحة: (78/ 79) ” كان القمر يدور وهو خلفه يدور. دخل به شارع المقاومة. سمع من بعيد صوت الطائرات. سمع إنذارا قويا كالرعد. وجيشا عرمرما من الجنود المتصافة كأوراق لعب؛ (…) أخذ يكور القمر وأوراق اللعب تتعقبه. بدأ يجري سبق القمر. القمر من خلفه يجري. والأوراق من ورائه سمع طلقات رصاص (…) التفت جهة القمر المنتحب. تباطأ حمل القمر بين يديه خبأه في صدره (…) حاصروه كما سبق أن حوصر في ” اللص والكلاب” وفي ” القرافة”. ضمد جراح القمر. طوح به إلى السماء
في السادسة صباحا. لفظ من عينيه أثار النوم.”
تتضح أيضا ثنائية الداخل والخارج في الحضور القوي للراوي، خاصة في نص ” فوق الجبين ” التي كتبه مغتربا منقسما بين الداخل والخارج. بين الوطن الذي يمثل في المتخيل الجمعي الداخل، والخارج الذي يمثل أرض الحلم. بين النار والجنة، بين الواقع الذي يفرض عالمه بضلاله، والذات التي لا تكف عن التساؤل: من أنا ؟ وما الذي يحدد من أكون حتى أقبل بأرض الحلم؟ عبّر عن ذلك الشعور الذي ينخره من الداخل ويُقزمه بقوله ب (ص 46): ” هذه المروضة ـ يقصد بها الموظفة المسؤولة عن منح التأشيرة أو ” visa ” ـ تحمل قدري بين يديها وتلاعبه كقرد.” هذه الجملة المباشرة البسيطة لخصت المرارة التي تظل عالقة بزور المغتربين رغم التحاقهم بأرض الحلم، وتظل تذكرهم بأنهم سيظلون غرباء رغم عبورهم ووصولهم لأرض الحلم
تأسيسا على ما ذُكر يمكن القول: نصوص المجموع القصصية ” الداخل والخارج ” لم تصدأ رغم تأخر خروجها للعلن، لأنها تعكس حقائق سرمدية، لم تتغير رغم التغيير الذي طال الإنسان نفسه. الحقائق الداخلية يدرجها القاص ليحل الرابط بينها وبين الواقع، وليخرج من جوفها تلك الإشارات التي تشير إلى المعنى أو المعاني التي يراد منها أن تصل إلى الخارج، والتي بخروجها تتجلى أمامنا كحقائق بصبغة مألوفة، ويسهل تبنيها، لأنها قُصت من واقع نتشاركه. فوُضعت ورُسمت داخل إطارات جميلة يمكن تقبلها بسهوله، لأن ذلك الإحساس بالألفة الذي ينبع من المجموعة القصصية ” الداخل والخارج ” ما هو إلا بصمة تشاركها جيل بأكمله قاسم الكاتب نفس الهموم والأحلام. لذلك اعتمد القاص السّعيد الحمّولي في ترصيص السرد الحكائي على اللغة العامية، ليضفي على المجموعة صبغة خاصة يتقاسمها أفراد ذلك الجيل الذين كانوا أبطال نصوصها، وعلى لغة استمدت قوتها من بساطتها، واعتمادها على المتداول اليومي ليكسبها بعدا جماليا، يمارس قوة ضاغطة، تفتح كل الأبواب لولوج المتخيل القصصي العالم الخارجي بكل أريحية، وبالتالي يتحقق ذلك العناق الحار الذي يتمناه كل كاتب مع القارئ المفترض
كُتبت النصوص من وحي الخيال، لكنها لم تلحق بعيدا عن الواقع والمحيط الذي عاش فيه القاص، فكانت بذلك تكشف الحقائق التي طبعت المجتمع وأنتجته وشكلته، ومكنته من كشف الناس والواقع المحيط بهم، فمارس عليهم نقدا مزدوجا من منظور محايد لا يلبس أية قبعة أيديولوجية كما أكد ذلك القاص المغربي أحمد بوزفور بظهر غلاف المجموعة نفسها
:هوامش
”الداخل والخارج” مجموعة قصصية للسعيد الحمول
صدرت سنة 2019، عن مطابع التيسير بالدار البيضاء
بقلم: عبد العالي أناني
Related
Zahra
زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية
المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام
Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian
Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French)
هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة
كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر
رابط الموقع: Alwanne.com