قصة جديدة للكاتب محمد ياسين القطعاني

البتول والليل
المَقعدُ المُلاصِق للنافذةِ في الحافلةِ لايزالُ خالياً، وَضَعَ كتاباً فوْقًه، كُلُّ مَنْ يَراهُ يَتجاوزُه، يأملُ في انتقاءِ مَنْ يُجاورُهُ، الطريقُ طويلة، يخشى أنْ يُجالِسَهُ مَنْ يزعجُه.
امرأة ٌفي العِقد الثالثِ من عمرها، أشارتْ إليه بيدها أنْ دَعْني أجلس، لم يَجدْ بُدّاً من الاستجابة، تَناولَ كتابَه، رَجَعَ بظهره مُلتصقاً بالمَقعد، سَحبَ قدميه للخلفِ حتى تَتمكّنَ مِن المُرورِ والجلوسِ، بطنُها مُنتفخةٌ، أومأتْ برأسِها شاكرةً .
هو في الخَمسينَ مِن عُمرِه، مَنْ لا يَعْرِفْه يخاله أْصغرَ بعَشرٍ، قوامُه الجَسديّ لائقٌ، وُهِبَ مِن الوَسامةِ ما دَفعَه إلى تَعدّدِ علاقاتِه النّسائية، مع رَغَدٍ في العيشِ. علاقاتُه على مَدى سَنواتٍ أفقدتْه الّثقةَ في النّساء، أو الحَريم كَما يَحلو لهُ أنْ يُطلقَ عليهنّ، َدوماً يُرّددُ على آذنِ الذين حَولَه:
ـ هُنّ حَريمٌ؛ لأنّهنّ حَرَمْنَ آدمَ مِن الجنةِ، وراحةَ البالِ.
مُتنعماً بمَلذاتِ الدنيا، مُنغمساً في عالمِ بَناتِ اللّيل وبَناتِ النّهارِ، وبناتِ الصُّدفةِ، ذائقتُه مُنفلتةٌ لا يَحرمُها مِن النّحيفاتِ أو البَديناتِ، لا عنصريةَ في ألوانهنّ، كُلّ واحدةٍ منهنّ فيها ما يُرضيه، قَدْ خَبَرَهن نُفوساً وأجْساداً، يتجنب الزواجَ، يُؤكدُ لرفاقِهِ:
– كُلُّهنّ عِندي سَواء، لا أمانَ لهُنّ، ولا عَهدَ، لا أصدقُ دموعَهنّ، هُنّ حَبائلُ الشّيطانِ، الكاذباتُ المُخادعات، لا يَرْضين أبداً مَهما بَذلتْ منْ أجْلهنّ.
حينَ شاعَتْ حادِثَةُ انحرافِ زوجةِ أحدِ زملائه في العملِ ارتفعَ صوتُه مُدعّماً رأيَه بتلكَ الحادثة، انقسمَ زملاؤه فريقين ما بينَ موالٍ له بقوةٍ ، ومُعادٍ له بشراسةٍ، فاستحسنَ انشقاقَهم، وبَدأ في سَردِ قِصصِهِ معَ أخواتِ الشّيطان، بصوتٍ عالٍ:
– إحداهُن تَدّعي العَفافَ، تقسم أغلظَ الأيمان أنّ هذه المرةُ الأولى في أحْضانِ رَجلٍ بسبب ضائقتها الماديةِ، معَ أنّها أقسمَت القسمَ نفسَه قبلَ أشهرٍ عندما افترشتْ مَعي السّريرَ، لكنها تَنسى، فالليلُ والشّيطانُ يُنسيان المرءَ ما قدمتْ يداه، وكذلك قدماه، وما بينَهما.
ابتسمَ ابتسامةَ الواثقِ – هذه شيمتُهُ دائماً عِندما يَتحدثُ عنْ عالمِ النّساء والليلِ – شَبّك بينَ أصابعِ كفيه، أسْندَ طَرفَ ذقنِه عليهما، أسْندَ مِرفقيه على طَرفِ مَكتبِه، وأكملَ:
– وامرأةٌ أخْرى تَسِحُ الدموعَ، تَكِدّ على أمٍّ مريضةٍ وأبٍ عاجز، مع أنّها ادّعتْ مُنذُ أسابيع سَعيها على أطفالٍ خَمسةٍ هجرَهم أبوهم، وتنهالُ على أبيهم أمَامي -وهي تَتَجردُ منْ ملابسِها ـ بأقذعِ الألفاظِ حتى كِدْتُ أصدقها منِ حُرْقَةِ سبّها ولعنِها، بعدَ ذلكَ علمْتُ أنّها مُطلقةٌ، ولم تنجبْ قَطُ.
أرْخى إحدى يَديه عَنْ طَرفِ ذقنِه، طافَ بعينيه على وجوهِ زِملائِه، واسترسلَ:
– هذه ثالثةٌ لا تَدّعي شَرفاً، ولا تَعُدّ عملَها انحرافاً، احتياجاتُها كثيرةٌ وطموحُها كبيرٌ، تَعشقُ الظّهورَ بمَظهرِ بناتِ الّذواتِ مَلبساً وعطوراً، متعتُها إشعال غِيرة زميلاتها بما ترتديه مِنْ أزياء، وتقتنيه منْ حقائبَ فاخرة وأحذيةٍ زاهيةٍ ونظاراتٍ شَمسيةٍ، تُحَدِثُني عَنْ نفسِها:
– أنا خُلقتُ للثراءِ، لكنّ القدرَ ألقى بي إلى الفَقرِ بالخطأ، وأنا أصوّبُ هذا الخطأ، فهلْ عَليَّ تثريبٌ ؟!
أبْدلَ يدَه بالأخرى تَحتَ ذقنَه، وهزّ رأسَه، وأكملَ:
تَقضي عُطلتها الصّيفيةَ في أرقى القرى السّياحيةِ حيثُ تَجدُ مَنْ يُثمن جمالَها، ويُقدر أناقتها، فتُجدّد نشاطَها ونشاطَ مَنْ يُرافقها، ثم تُعودُ رابحةً الكثيرَ، وتَضحكُ قائلةً لي:
ـ أنا أصححُ خَطأ القدرِ، أليس كذلك ؟، فهل عليّ لومٌ ؟!
أنزلَ يديه مِنْ فَوق مَكتبِه، عقدَهما فَوقَ صَدْرِه، هزّ رأسه، أكملَ حديثَه، وزملاؤه في إصغاءٍ :
– أمّا ( عُطور)، فهي صادقةٌ ومُبْدعةٌ في عَملِها، حقيبتٌها عامرةٌ بما يَشتهي الرّجال، وتلذُ الأعينُ منْ مَلبسٍ مُثيرٍ ومُستحضرٍ خَطير، أكملَ حديثَه وهو يَضْربُ كَفاً بكَفٍ إعجاباً:
– أنتَ مَعها لا تَحتاجُ إلى استشارةِ حَكيمٍ؛ لأنّها على بَصيرةٍ بِحالِ زبونِها، خَبيرةٌ بحالِ الشّباب، وعَليمةٌ بهَناتِ الشّيابِ، تَنصحُ صاحبَ اللّيلةِ :
– خُذْ هذه الحبوبَ فهي لكَ نافعة، ودَعْ تلك، لا بأسَ عليكَ، فلا صُداعَ يُصيبك، ولا ضَغطَ يُخيفك.
(عطور) تَفخرُ أنّها لا يَنْساها أبداً مَنْ ضاجعها، وجَلسَ بينَ أربعتِها سواءً أكان كَبيراً أمْ صَغيراً، أمْ لِماماَ مّرَّ بها، لم يَخِبْ ظنّ مَحْظوظها فيها أبداً كما تقول.
نَظرَ إلى زملائه مُتفرساً وجوهَهم كأنّه يَراهم أولَ مرةٍ، وأضافً مُنْبهراً بسلوكِ (عطور) :
– هي لِخليلِها أرضٌ، وهو لها سَماء، وإنْ شاءَ عَكَسَ، لسانُها عذبٌ كَلاماً وطَعْماً، لا تقعُ عيناه منها على قَبيحٍ، يَشتمُ منها أطيبَ رائحةٍ، لا تَعصى لهُ طلباً، تُشعرُه أنّه الخيّالُ، فلا رَأتْ قبلَه، ولنْ تَرى بعدَه .
انتشلَه مِنْ شَريط ِ ذكرياتِه احتكاكُ كَتفِ المرأةِ بكتفِه، نَظرَ إليها، لَمحَ دموعَها تَنْسابُ على خَدين أبيضين ناعمين مِنْ عينين حَجَبَت الدموعُ حُسْنَهما، شفتاها تَرْتجفان، أسدلتْ مِنْ أعلى نِصفِ شعرِها الفاحمِ غِطاءً أبيضَ هابطاً إلى كتفيها، يُطلُّ منْ تَحْته جِيدٌ طويلٌ يَبْرقُ مَعَ تَساقط ِشُعاعِ الشّمسِ القادمِ إليها مِنْ نافذةِ الحافلةِ ، اخترقَ صَمتها، سائلاً : ما بِكِ؟ !
لَم تُجبْه، ألحّ عليها، انخرطَتْ في بُكاءٍ، صَدْرُها النّافرُ أمامَها يَعلو ويَهبط، تُعدل مِن غِطاء رأسِها المُنسدلِ على وجهٍ ساحرِ التّقاطيع يَضجُ بالوداعةِ والبراءة.
تُحاولُ أنْ تَحجبَ بكفِ يدِها خيوطَ الشّمس التي جَعلتْ وجْهها مُتوهجاً، دموعُها تَبرقُ على وَجنتيها كأنّها قطراتُ نَدى الفجِر عَلى بَتلاتِ زَهْرةٍ بيضاء تَستقبلُ يَوماً جديداً .
يُلِحُّ كي تبوحَ بما يَكْرُبُها، لكنّها تأبى، هو يَلحّ، هي تأبى، سَكّنَ إلحاحَه لمّا وَجَدها مُتَدَثرةً بالصّمتِ.
بَعدَ لَحظاتٍ احتكّتْ كتفُها بكتفه، التفتَتْ إليه بِكامِلِ وجهِها، صَمتتْ قليلاً ، شَدَهتْهُ بجمالِ طلتِها، وبريقِ عَينيها، وَقَعتْ في نَفسِه، انفرجتْ حدقتاه، أكبرَ هذا الجمال، وتلك النّعومة، هو بالجمالِ خَبيرٌ، وبِبريقِ تلك العيونِ بَصيرٌ، تأمّل الوجهَ الصّبوحَ الباكي، طأطأَ رأسَه لها مُوْحياً كي تَبوح بشكايتها، تَحرّكتْ شفتاها، بِصوتٍ مُختلج بالدموعِ نَبَسَتْ: اسمي البتولُ .
تَظاهَرَ أنّه لَمْ يَسمعْها جَيداً؛ ليقتربَ بوجهِه مِن ثَغرِها الوردي، تأمّل شفتيها اللتين صَيّرتْهما أشعةُ الشمس جَمْرتين، هو عليمٌ بطرقِ اطفائهما، انتقلَ إليه لهيبهما، فاحمرّتْ وجْنتاه، وتَصبّبَ عَرقُهُ .
ناولَها مِنْديلاً؛ لتجففَ دمعَها، هالَه أنْ تُصابَ هاتان العينان بأذى، ظلّ مُمسكاً بالمنديل وهو يتأملُ عينيها حتّى تَحجّرتْ يدُه في المسافة القصيرة بينهما، كَما تَحجّرتْ عيناه المُسلطتان على مُقلتيها، فلا يدَه هَبطتْ، ولا عيناه غَمَضَتا، تناولتْ المِنديل بلطفٍ، مرتْ به على عينيها، أوْشَكَ أنْ يكفَّ يدها، خافَ على عَينيها مِن مَلمسِ المنديلِ .
لا يَدري ما الذي ألمَّ بهِ، هزّ رَأسَه يَمنة ويَسرة، خِبراتُه في عالمِ النّساء لا حَصرَ لها، ومِثلُه لا تَغلبُه دموعٌ، ولا تَهزمُه عيونٌ، نفسُه تُخاطبه مُوبِخَةً:
ـ لماذا تَتَضَعضعُ أمامَ هذه المرأة؟
ـ أنتَ لم تلَنْ أمامَ جَمالٍ قطُّ، مالك تَذوبُ، وتفقدُ رُشدَك؟!
باحتْ بصَوْتٍ مُتقطعٍ :
– عَشِقتُ ابنَ عمي مُذ كُنا صِغاراً، تَعاهدنا على الزّواجِ ، أنا مِن الفرعِ الثّري في العائلةِ ووحيدة والديّ، هو مِن الفرعِ المُعوز، تقدّمَ لوالدي طالبني للزواجِ، فَصَدّه، وأقبحَ له الكَلامَ، عَيّره بفقره، وقلةِ حيلته، أصابَه الهمُ، حطّمَه الغمُ، تَمكّن منه المرضُ حتى كادَ أنْ يَهلكَ دوني .
أقْسمتُ ألا أخذلَه، اتفقنا عَلى الفرارِ مِنْ هذهِ البَلدة الظالمِ أهلُها، هَرْبنا مُلتحفيْن بسواِد الليل إلى المدينةِ، وتزوجنا هناكَ عندَ أحدِ المحامين، لمْ نَعقدْ عندَ مأذونٍ شرعي لأنّه اشترطَ وجودَ الولي، أكْملتْ ودمعُها يَنْهمُر، وهو يُصغي، ويَميلُ برأسِه نَحْوَها حتى شَعَرَ بِوَهَجِ خدّها :
– عَمِل زَوْجي في مِهنٍ كثيرةٍ ، حَمّالاً على شاحنةٍ، أجيراً عِند بنّاءٍ، وقفَ أمامَ أفرانِ النّار حَداداً، ما تأفّفَ من مِهانةِ عَملٍ، ولا اشتكى مِنْ ضآلة أجرٍ، كان يُمازحني عِندما يَجدني حَزينةً بسببِ ضِيقِ ذاتِ يدِه.
صَمَتَتْ، عَلا بكاؤها، التفتَ بَعْضُ ركابِ الحافلةِ، أكملتْ :
– كانَ يُبشرني بأنّ أيامَ الخيرِ آتية ٌ، لا يتركني حتّى يُضْحكني، كنّا لا نَسْتوطنُ مَكاناً واحداً خَشيةً أنْ تَصلَنا يدُ أهلِي، فهم ذو قوةٍ وبطشٍ، وهم قاتلونا إنْ وجدونا، مرّت الشهوُر ونَحنُ سَعيدين بالقليلِ ما دُمنا مَعاً .
جِسمُها يرتجُّ، الدمعُ ينسكبُ منْ عينيها، بَسَطَ إليها يدَه بمنديل آخر، كادَ يَبْكي لبكائها، رَفَعَ يده لِيُرَبّت على كتفِها مُتعاطفاً ومُخففاً ألمَها، لكنّها دفعتْ يدَه بعيداً غيرَ راضيةٍ بلمسِه، مُستهجنة جُرأتَهُ، اعتذرَ، طلبَ أنْ تُكملَ، قالتْ:
– مّرت الأيامُ ثِقالاً، وحمَلتُ مِنه، ومَسحتْ بيدها على بَطنِها مِنْ تَحتِ صدرها حتى فَخْذيها ليرى حَملها، تابعَ كفيها وهما يَمران على فَخْذيها، ولمّا أبْصرتْ تعاطفَه، زادَتْ:
– كلُّ أملي أنْ أكونَ قربَ مَنْ أحببتُ، هو لمْ يتوانَ عَنْ إسعادي، التحفنا العِشقَ، تَوَسّدنا الحبَ، اكتفينا بما يَجودُ به الزمانُ.
نَظَرَتْ في عينيه مَليًا لمّا شاهدَتْه صامتاً، سَحَرتْه عيناها الدامِعتان، تَوسّدتْ هي قلبَه، والتحفَ هو بسوادِ شَعْرِها، حدثتْه نفسُه :
– أنْ يُمسكَ جانبي رأسِها بكلتا يديه، يُخلل شَعرَها بأصابِعه، يُقربها إلى فمِه، يَلثمُ هذا الفاه المُشتعل، قَطَعَتْ حُلمَ يَقظته، وأكملتْ :
– ذاتَ يومٍ قَبلني فَمَاً وجَبيناً وَجِيْداً قَبلَ أنْ يَنطلقَ لعملِه، أمّا أنا فَذهبتُ إلى الطّبيبةِ بَعدَ أنْ آلمني ظَهري، وأوْجعتني بَطْني، فأخبرتني بما سَرّني، فهاتفتُه لأبشرَه بحَملي جَنيناً هو ثَمرةُ عِشقنا، فَمَلكتْه الفرحةُ، وقالَ مِنْ ساعِته :
– سأعودُ ؛ لنحتفلَ بهذه البُشرى، انتظرتُه خَلفَ نافذةِ غرفتنا، تهيّأتُ له بما تتهيّأ به النّساءُ، ارتديتُ لهُ ما يُحبّه – مَسَحتْ بضعَ دمعاتٍ بسبابتها وأكملتْ:
– أبْصرْتُهُ مُقبلاً مِنْ بَعيدٍ كفارسٍ رافعاً الرأس مُبتسماً، لَمَحني خَلفَ النافذةِ…
توقفتْ عنْ الكلامِ – بَدأَ جسمُها يَهتزّ كأنَّ زلزالاً ثارَ في جوفِها، علا نحيبُها، انسكبتْ دموعها، احمرتْ وَجْنتاها، خشِي أنْ تنفجرَ أحشاؤها، أكملتْ وأنفاسُها تَلْهَثُ:
– وهو مُقبل نَحوي يَنظرُ إليّ، وأنا أنظُرُ إليه، كلٌّ مِنّا يَحتضنُ الآخرَ بعينيه، لمّا وصَلَ مُنْتصفَ الطّريقِ، دَهَسَته سيّارةٌ، ألقته أرَضاً مُضرجاً بدمائه أمامَ عيني وأمامَ ابنِه في أحشائي .
دموعُه تسيلُ، دموعُها تَنْهمر، هي تَرْتَجُّ حُزْناً، هو يَرتجُّ جَزعاً، مالتْ برأسُها على كتفِه، مَدّ يدَه مُمَسِدها ومُقبلها، فهذه الرأسَ تَحْمل هذا الحبَ و الوفاءَ.
الحافلةُ وصَلتْ المدينة، حاولتْ ( البتول ) أنْ تقفَ؛ لتَهبطَ مِن الحافلة، لمْ تَستطعْ، فاجأتها إرهاصاتُ الولادةِ، قَصدَ بها مَشفى للولادة قربَ منزله، عقبَ دخولِها بلحظاتٍ سَمِع بكاءَ وليٍد أقبلَ إلى الدنيا ؛ ليُخلدَ سيرةَ هَذين العاشِقين.
ظلّ يُواليها بَعدَ الولادة، أحضرَ لها ولوليدها ما يَحْتاجانه مِنْ مَلابسَ، أقامَ بجوارِ سَريرِها ومَخدعِ طفلِها، عِندما تَصحو مِنْ غفوتِها تَجدُه بجوارها، يَفْترُّ ثغرُها عن ابتسامةٍ حانية، تَمدّ أناملَها النّاعمة آخذةً كَفَ يده لا ثمةً إياها، فيَسري وَهَجٌ إلى كفِه مِسْتَوْدعاً قلبَه، سَمِع نفسَه تُحدثُه :
– هذه البتولُ حَطّمتْ ظنوني السّيئةَ بشأنِ النّساءِ، ها هي امرأةٌ عفيفةٌ شَريفةٌ مُخْلصةٌ لحبيبها تَصونُ الذكرى، كَمْ كنتُ مُخطئاً عِندما وضَعْتُ النّساء كُلهنّ في سَلةِ الشّيطان!
ها هي البتولُ رمْزٌ للنقاءِ وللطهارةِ.
أخْبرتْه الممرضةُ أنّ مولودَه بصحةٍ جيدةٍ، طَلبتْ إليه التوجهَ إلى مَكتب حِساباتِ المَشفى لإنهاءِ خروجِ زوجتِه، هي الآنَ تَستطيعُ الاعتناءَ بنفسها، قالتْ ذلك، ثم أسْرعتْ لرعايةِ مريضةٍ أخرى .
دُهِشَ منْ كلامِ الممرضةِ، فلا المولودُ ابنُه، ولا أمّ المولود زوجتُه، اصطكّتْ أسنانُه، صَمَتَ، لمْ يَحِر جَواباً، لا يَدْري ما يَفْعل، وَقَعَتْ الواقعة، لا يَملكُ لَها تَكْذيباً، أصْبحَ فجأةً أباً وزَوْجاً.
بوجهِها الوَديعِ، وصوتِها الهامسِ، قالتْ في دَلالٍ أخّاذٍ وهي تنظرُ في عَينيه، َفسَلَبتْه ما َتبقى مِنْ عَزيمةٍ :
– ارضَ، لا تمانعْ، أنا خادمتُك، وطَوْعُ أمرك، وحافظةُ جميلَك .
تأمّلَ عَينيها، فابتسَمَتْ ابتسامتَها السّاحرة، أسْرَعَتْ قدماه نَحوَ إدارةِ المَشفى، سَجّلَ في بياناتِ المَشفى اسمَه كزوجٍ وكَوالدٍ للمولودِ .
حِينما رَجعَ إلى غرفتِها وَجَدَ الرّضيعَ في مَخْدعِه، ولم يَجدْها في سَريرها، قالَ لنفسِه :
– لَعلّها تَقضي حاجَةً لها، انتظَر، وانتظرَ، طالَ انتظارُهُ، لم تَعُدْ .
في مَرْكزِ الشّرطةِ عَرَضَ عليه الضّابط ُ صُورَ بَعضِ النّساءِ والفتياتِ، طلبَ إليه أنْ يُحدّدَ إحداهُن ، صَرَخَ : هَذِهِ … هيَ!
نَظرَ إليه الضّابطُ آسفاً، وأضافَ، هذه فِعلاً ( البتول ) إحْدى أشْهرِ فَتياتِ الليلِ، وهذا ثالثُ طِفلٍ تَلدُه، ثُمّ تَهْربُ.
انهارَ مُتكوماً عَلى المَقعدِ أمامَ الضّابطِ فاقِداً النّطقَ، قابِضاً رأسَه بِكِلتا يديه، وزَفَرَ زَفْرةً أسْقَطتهُ أرضاً .
محمد ياسين خليل القطعاني الكويت / مصر