خواطر امرأة

“ميلودة بنت ادريس”.. مأساة امرأة .. ما زالت تغنى!

ديباجة :
بعيدا عن تعقيدات الحياة اليومية وضجيج الاهتمامات السياسية والانفعالات الفكرية، تعبرني أحيانا التماعات خاطفة وتراودني فكرة الإبتعاد الطوعي عن المعيش، للنبش في الذاكرة عن قصص عابرة، مررت بها أو عشتها لتحويلها الى كتابة تأريخية عنها غير أن تلاوين الهم ومشاغله غالبا ما تحول دون تحقيق المراد.
ها أنا أجلس وحيدة ألملم شتات أفكاري، باحثة في ثنايا ذاكرتي عن المخزون فيها مما له علاقة بمظاهر الألق والبهاء الماضوي، المفعم بالألم، بالمحبة، بالمغامرة، فيجعل الكثير من الحكايا المنقوشة بالقلب والذاكرة تطفو إلى سطح التذكر، فتأتيني بعض الأغاني التي كانت تشدنا إليها في الزمن التليد [ تكشبيلة توليولة – ميلودة بنت ادريس – اجرادة مالحة …] وغيرها مما يبقى مشعا في مخيالنا الثري الشعبي .
أتوقف اليوم عند قصة كانت قد شكلت مأساة في تاريخ مرحلة ما قبل الاستقلال دون أن أعي كيف عثرت على تقاسيم وخيوط ذاك الحدث / المأساة، ولا حتى كيف وجدتها شاخصة أمامي، في زخم وزحمة الحياة ومشاكلها اللامتناهية.
وتبقى واحدة من خواطر … ذكريات … واسترجاعات ضاربة بعمق في جذور المعيش اليومي، ماضيا وحاضرا، وفي عز كل ذلك أجدني أدندن” أغنية ميلودة “وحتى دون سابق إنذار، ولما استعصى علي تجميع شتاتها اتصلت بإحدى أخواتي، علها تسعفني إن كانت لا تزال تحفظ بعضا من مقاطع عصاني فكري في تذكرها، أمام انشغالات الزمن اليومي.
المجال الجغرافي:
تبقى قصة ” ميلودة ” من أقوى القصص الراسخة في الذاكرة الشعبية، حاملة في طياتها مزيجا من الحب، الخيانة، الفقدان،
الندم … وهي ليست قصة إمرأة أخطأت بقدر ماهي مرآة تعكس العديد من صور المجتمع كصراع الإنسان مع شهواته، العدالة القاسية التي فرضها المجتمع التقليدي، الرغبة في الإنتقام … فجاءت تروى بوجع صامت ومؤثر طوته الأيام… ومع ذلك بقيت خالدة في ذاكرة من عاشها أو تغنى بها أو رددها ذات زمن ولى .
لقد حدثت عندما كان المغرب يعاني من وطاة ونير الاستعمار الكولونيالي، حيث كانت القرى تعيش بين سندان التقاليد العريقة ومطرقة الفقر والتسلط، الأمر الذي جعل النساء يواجهن صراعات داخلية بسبب القيم الإجتماعية القاسية والضغوط الإقتصادية الصعبة، وفي تلك الفترة العصيبة وباحدى القرى المغربية جرت أحداث هذه القصة / المأساة والتي لم تنتشر لو لم تتحول إلى أغنية شعبية حزينة على يد مجموعة من الشيوخ – كما سنرى لاحقا – .
لقد حدثت في أواخر النصف الأول من القرن الماض، فزعم البعض أن مجالها هو “غابة بوسكورة ” أو أنها ” غابة سيدي عبد الرحمان ” القريبتين من الدار البيضاء، بينما يذهب آخرون إلى أنها “غابة معمورة” الواقعة قرب مدينة الرباط، وهناك من يرى أنها وقعت باحدى غابات ” الاطلس “، في حين يرى بعض الرواة أنها وقعت بالمجال الغابوي لغرب الجزائر. غير أن المرجح هو ” غابة سيدي عبد الرحمان “، الواقعة على بعد أمتار من كورنيش الدار البيضاء .
مضمون الحكاية
أغنية “ميلودة ” رددتها الأجيال ، فأصبحت موروثا ثقافيا فنيا منقولا عبر الكلمة ومن خلال اللحن، وهناك من يعتقد أنها مجرد أسطورة تحولت إلى حقيقة، تغنى بها كثير من الشيوح والفنانين المغاربيين، وتفننوا في نسج خيوطها وأحداثها، محولينها إلى عِبَرٍ أخلاقية مغناة، منهم الشيوخ المنتمون
الى المنطقة الشرقية من المغرب ( بركان . وجدة )، أمثال الشيخ ” علي التلساني البركاني” وذلك في سنة 1943. وبعده بعشرة أعوام سيتغنى بها ” بوشعيب البيضاوي” عراب فن العيطة ، بعد أن أضاف اليها ( بنت ادريس ). ثم جاء الدور على مجموعة ” أولاد البوعزاوي” التي أبدعت في أدائها. كما رددها بعض الشيوخ المنتمون الى المنطقة الغربية من الجزائر، أمثال الشيخ “أحمد ليو”و “سعيدة باضيف” المشهورة باسمها الفني” الشيخة ريميتي”.
وفي السيتنات جاء الدور على” بلقاسم بوثلجة ” المعروف بإسم ” قسيمو ” وعمره لم يتجاوز 14 ربيعا. وبذلك لقيت أغنية ميلودة بنت إدريس إقبالا واسعا من طرف الجماهير المغاربية. إذ تجدر الإشارة – كذلك- إلى أن هذه القصة قد إنتقلت إلى المشرق ودول الخليج، ففي ثمانينيات القرن الماضي كنت قد سمعت بقصتها مغناة – عندما كنت متواجدة انذاك بسلطنة عمان – مع اختلاف في اسم البطلة وتغيير لبعض أحداثها .
وأذكر أننا كنا نطرب عند سماع شيوخ المنطقة الشرقية – التي أتشرف بالانتماء إليها – يتغنون بها في الأعراس مصحوبين بالراقصات، فلا تكتمل الأمسيات الباذخة والفرجات الطربية إلا بترديد كلمات الغناء الشعبي الراسخ بالمخيال والوجدان المغربي خاصة والمغاربي عامة، فتصدح الإيقاعات الموسيقية الحالمة لتغري الحضور بالرقص والطرب.
أغنية “ ميلودة ” لم تقتصر على مكان محدد بعينه في جغرافية الوطن، وقد اتخدت وقائعها البشعة عبرة لكل إمرأة ُقُدِرت عليها الخيانة الزوجية وركوب الرذيلة، بأن تدفع الثمن غاليا من أجل نزوة لحظية عابرة، جعلتها تفقد صغيرها الأوحد بعد أن افترسه الذئب/ الذئاب في الغابة، تبعا لما جاء في متن الحكاية المغناة :
[ ميلودة فين كنت كوليلي فين درتي لوليد – لحبيبة كي سْرَا ليك ، كِدَرْتِي حتى نسيتي سعيد – ميلودة كِدَرْتِي حتى نسيتي وليدك مسكين – البينو (وهو شراب المائدة ) دَارها ليك والويسكي ياختي جاك بنين ( لذيذ ) ] .
وهنا تتضارب الأقوال حول حقيقة الخيانة المرتكبة من طرفها، ففي احداها – وهي الكثيرة الإنتشار – أن شابة فاتنة جدا، كانت تعيش في إحدى المجالات القروية، فتقدم لخطبتها ابن خالها المسمى”علال”، لتعيش معه حياة بسيطة وترزق منه بطفل سموه “سعيد” – وما هو بالسعيد – ، غير أن الوحدة التي كانت تعيشها بسبب غياب زوجها المستمر للعمل والبحث عن القوت اليومي، دفعها للوقوع في خطيئة الخيانة بعدما التقت صدفة بعشيقها الأول ، ذات يوم وهي في طريقها لزيارة أسرتها، فتواعدت معه على لقاءات أخرى، وظلت على اتصال به حتى سقطت في فخاخه، فقصد بها الغابة وسقاها خمرا كي لا تتمنع منه، وفي لحظة إهمال منها، وتحت تأثير الخمر – كما تقول الرواية – فقدت وعيها مستسلمة للعشيق الذى نال ما يريد وأكثر، متغافلة عن وليدها وهو يلهو في الغابة. ولما صحت من سكرتها وجدت نفسها وحيدة، وبعيدا منها أثار وبقايا طفلها الذي افترسه الذئب . فتحولت القصة إلى مأساة حقيقية،ما كنا لنعلمها لو لم تتحول إلى أغنية حزينة يرددها زوجها المنكوب .
وفي رواية أخرى : “ميلودة ” تعرضت لمكيدة من دركي أو ضابط فرنسي كان قد فتن بجمالها، ولما أبت أن تخون زوجها دبر مكيدة تُوقِعُ بها في حباله، فأرسل لها سيارة ليبلغها – كذبا – أن زوجها تعرض لحادث خطيرة وهو بين الحياة والموت، فانطلت عليها الحيلة وصدَّقت الادعاء، فاتجه بها السائق إلى مكان معزول بالغابة، حيث كان الجاني في انتظارها، وبعد أن أسكرها خمرا .. غابت عن الوعي، نال منها الجناة ما أرادوا وتركوها عرضة للضياع والمهانة ، وولوا هاربين . وعندما استعادت وعيها بحثت عن صغيرها فلم تجد إلا أحشائه، وهو ماذكره الشيخ ” بوثلجة ” الجزائري [يمكن كاس لخمر قراو اللطيف – بالماحيا كثروا ليك واقيلة الماء – حسبتيه حليب – وياك أنت لي بغيتي فَرَّششْتتِيلو الحايك بيديك – يمكن حابتو ولا حسابتو يديك – وصل خَبْرَك لدزير ( الجزائر) خيمة خيمة كاملة تلغى بيكو – ميلودة دارها ليك زينك ولا حواجبك وعينيك ] .
وهناك من يزعم أن ميلودة هي ابنت أخت ” بوشعيب البيضاوي “، وحجتهم ماجاء في غنائه لها [ ياابنت اختي أش هاذ الفضيحة لي درتي ] ، غير أن هذا القول يبقى بعيدا عن الصواب.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن كلمات هذه الأغنية اختلفت تبعا لمن تغنى بها، ومما جاءت به مجموعة أولاد البوعزاوي :
[ اميلودة بنت أختي أش هاذ الفضيحة درتي – ملي بلاك الله خلي الدري لباه – أنا وليدي مازال صغير – أناميمتي كيف ندير ] ويقال أن ميلودة بعد أن صحت من سكرتها، وأعياها البحث عن وليدها، جن جنونها واتهمها جيرانها بالخيانة والرذيلة، فاعتقلت من قبل مصالح الأمن وتعرضت لشتى أنواع التنكيل والتعذيب – الذي كان معمولا به وقتها، قبل أن تعرض على القضاء – ولما وقفت في المحكمة، أزالت اللثام عن وجهها، فأبهرت القضاة بجمالها غير أن حسنها لم يمنعهم من إدانتها بعقوبة حبسية مشددة، فأنشدت تقول : [ربي ربي كيف نعمل وياك، أنا وليدي مات – لي في الغابة واقيلة داوه الحطابات ] ويقال أن معظم الناس تعاطفوا معها رغم بشاعة القصة وانشدوا قائلين :
[ ماعندك ماتدري هاذ الشي كان مكتوب عليك – مابيدك غير تصبري حتى مولانا يفرج عليك ]. ويبقى المتفق عليه في كل الروايات ان ميلودة أصيبت بالجنون نتيجة ما حدث لأسرتها،
ثريا الطاهري الورطاسي