مرثية البحر و الملح

بقي يحمل ظله كالصليب على الكتفين
المَنْفَى وَطَنٌ لِمَنْ لَا وَطَنَ لَهُ، وَٱلْبَحْرُ مَقْبَرَةٌ لِمَنْ لَا قَبْرَ لَه ـ إبراهيم الكوني

طنجة.. اللي شافها يبكي عليها و اللي ما شافهاشي تبكي عليه..
طنجة يا العالية.. كانت تراقبنا من علٍ، وتتباهى بما لا نملكه، وتغني بما لا نسمعه. في بيت ضيّق، بنوافذ لا تعرف الشمس، كانت أمي تخبز لنا الحلم مع العجين، وكان أبي يحمل على كتفيه صناديق السمك في الميناء كما يحمل الصخرة على ظهره… سيزيف..
في طفولتي، تنبا لي شيخ ضرير مرّ في الحيّ.. قال لي: “سيأتي عليك يومٌ، تهرب فيه من ظلّك، وتبحث عن الوطن في اعماق السراب.” لم أفهم يومها كلمة مما قال.. لكن كلماته سكنتني كما تستوطن الشياطين جسد الساحر.
كبرت وأنا أدرس لا حبًا في العلم، فهذا الاخير له اهله و ناسه.. بل كرهًا للجهل الذي ان استسلمنا له سيطوق اعناقنا كحبل المشنقة..
كنت أرى في كل شارع سؤالاً بلا جواب، وكل نظرة تُحاكمك قبل أن تسأل: من تكون؟
وحين صار الحلم جريمة، قررت أن أرتكبها.
و في ليلة خارج الزمكان جمعنا البحر كما تجمع المذبحة ضحاياها. عشرة رجال، كلٌّ يحمل ذاكرته كبندقية فارغة.
و قال المهرب : ” اقرؤوا الفاتحة و ربما ايات من سورة يس.. في يد الله.. اعبروا ولا تلتفتوا. البحر لا يحب التراجع”.
ركبتُ المطاط لا كمن يسافر، بل كمن يُستدعى لقدرٍ كُتب بالحبر السريّ. كان الصمت سيدًا، والموت متربصًا، والريح شاهدة على هشاشتنا.
في منتصف الطريق، رأيت وجه أمي في الموج، تلوّح لي بيدٍ مبللة بالملح. لم أصرخ، لم أبكِ، فقط همست: يما…. لا املك حيلة.. سامحيني”
وصلنا طريفة مع الفجر، وكان الاستقبال أشبه بالجحيم : أوراق، تحقيق، وصمت قانونيّ لا يرحم. لم نسأل، لم نشتكِ. كنا ندرك أن البحر أرحم ممن ينتظرون على اليابسة.
و سكنا مركزا للايواء.. و مرت الشهور.. لعلها ثلاثة.. و في مطبخٍ بارد خلف مطعمٍ تعيس في قادس، التقيت بليلى. لم تكن كالباقيات، كانت تسير كأنها تمشي على السحاب، وتتحدث كواحدة من الديفات المثقفات..
قالت لي مازحة : “أنت لاجئ، لكنك لست ضائعًا، و الدليل ان البحر / الحوت الذي ابتلعك قد لفظك الى اليابسة.. ابشر. انت حي ترزق.. و هذا اهم شيء”
لم أصدقها، لكني امنت بهدوءها. كانت تقرأ نيتشه و هيجل و كامو و سارتر و كانت تبكي مع نزار قباني و محمود درويش، وتقول لي: “الحب وطنٌ أيضاً، فإياك أن تغادره.”
أحببتها كما يعشق الرضيع لبن امه و لازمتها كالمتعب الميت المستلقي تحت ظلّ النخلة. ليس لأنها أنقذتني، بل لأنها ذكّرتني أني كنت إنسانًا قبل أن أكون ملفًا إداريًا.
و تزوجنا سريعا.. و مرت خمس سنوات.. و في لحظة من الجنون قررنا العودة الى بلاد ان بطوطة و طارق بن زياد.. لكن الوجهة لم تكن طنجة..
و اشترينا معًا الحلم بارض جديدة… دار ضيافة في مراكش. سمّيناها “هنا وهناك”. وكل غرفة كانت تُخبر زائرًا أن بعض الرحلات لا تبدأ من المطارات، بل من وجع القلب.
و في منتصف ليل حزين، اهتزت مراكش. المدينة التي رقصت للعشاق، ارتجفت كطفلٍ أصابه الذعر. الزلزال لم يكن يهدم البيوت فقط، كان يهدم الأرواح أيضًا.
ليلى، خرجت كعادتها لشراء الخبز. ولم تعد.
و تحت أنقاض بناية في المدينة القديمة، كانت جثتها تنتظرني. لم يكن في ملامحها ألم، كان ثمة مزيج سريالي من الدهشة و العبث و التسليم في الوقت نفسه.
و كأنها رأت شيئًا لم نره نحن..
انا لله و انا اليه راجعون..
و أقام الناس الجنازة، وبكوا. أما أنا، فكدت اجن..
صرتُ شبحًا في بيتٍ فسيح كان يومًا بالنسبة لي ضوءًا هاديا. وكل غرفة في وطني، تحولت من رسالة امل إلى هلاك و يباب..
و تركتُ مراكش و قلبي يسيل دمعا و دما.. و عدت إلى طنجة كمن يعود ليتفقد أثر السكين بعد سنين من الطعن. مشيت في أزقة بني مكادة، فسمعت صوت الشيخ الضرير من جديد: “سيأتي عليك يوم…”
ذهبت إلى سور المعجازين، وهناك كتبت آخر رسالة: “أنا يونس، الذي عبر البحر و خيل اليه انه و صل. الحمد لله.. لكن يونس خسر الكثير ، وبقي يحمل ظله كالصليب على الكتفين”.
و اليوم، أقف على حافة الماء، لا لأهرب، بل لأفهم.
هل البحر هو الخلاص؟ أم هو لعنة اليوم و الغد ؟
وهل الرحيل هو الدواء، أم هو الوجه الآخر للضياع ؟