المَقاماتُ القَطْعانيّة

المَقاماتُ القَطْعانيّة

مقامة العبد الصالح 

( حكايات محمد بنِ ياسين عَبْرَ الأيامِ والسنين )

كاتِبُها و ناسِجُها محمد ياسين خليل القطعاني

أعلمْ – رعاكَ الله – أنّ ابنَ حمدين لمّا بلغَ من العمر الأربعين، تأمّلَ حالَه وهو حزين، فهو مُقصرٌ في أداءِ الصلوات، ويتلعثمُ في القليلِ من الآيات ، فأصابَه الندم، وأطبقَ عليه الهم، وكادَ يقتله الغم ، بعدما صديقُه المحببُ فجأةً مات، فصارَ يرتعد مِمّا هو آت، ويلومُ نفسه على ما قدمتْ يداه، في سالف أيامِه، وما في الدنيا جناه، فخافَ من يوم ُلقياه، فقد اقتربَ منه ما يخشاه، فأخذَ يتفكر، و يتأمل مصيَره ويتدبر، وماذا هو فاعل ؟، فقد شغلته الشواغل، واقتربتْ منه المنازل، والوحدة هناكَ قاسية، والمصيبةُ لا شكَّ آتية، فترقرقَ دمعُه في العيون، وسالتْ من الجفون، فهو رقيقُ القلب، سليمُ الّلب، نقيُّ السريرة، لطيفُ العشيرة، ولا طاقةَ له بمهانةٍ وعذاب، وذلك فصلُ الخطاب.

واعلم – حفظكَ الله – أنّ ابنَ حمدين له سَمْتٌ جليل، فالوجهُ حسنٌ جميل، والشعرُ مُسترسَلٌ طويل، وصوتُه كتغريد البلابل، ويرتدي أجملَ الثياب، ويستخدم أعطرَ الأطياب، يحبُّه مَنْ يجالسه، ويأنسُ إليه مَن يعرفه، والهيئةُ هيئةُ العلماء، والمِشيةُ مِشيةُ النجباء .

واعلم – أدامكَ الله – أنّه عَزَمَ على تركِ السيئات، والتقربِ إلى الله بالطاعات، فتأبّطَ بعضَ كُتبِ الأذكار؛ ليستعطفَ الرحمن، ويستذكرَ الغفران ، فيَمّمَ وجْهَهُ نحوَ حديقةٍ، من منزله قريبة، ذاتِ أشجارٍ باسقة، وثمارٍ ناضجة، ومياهٍ جارية، وعصافيرَ مُغردة، وزهورٍ متنوعة.

وجلسَ تحتَ ظلالِ إحدى الأشجار، وحولَه الجمالُ والأنهار، يتأملُ معجزاتِ الخالقِ في النبات… والطيورِ… والبحار، وانتقى من الأدعيةِ ما تَسُهل قراءتُه ، وتستعظمُ حجتُه، وطافَ بين دعاءٍ ودعاء، وهو يطلبُ من الله الرجاء، وتذلّلَ لربِ الأرضِ والسماء، فاهتزّ جسمُه من العظات، وسالتْ من مآقيه العَبَرات .

واعلمْ ـ أبقاكَ الله ـ أنّ ابنَ حمدين، لمّا بدأ يتلو الأذكارَ بصوتٍ خاشعٍ في اطمئنان، وكُلما ذَكرَ اسمَ الرحمن، نَدِم على ما كان، وعلا صوتُه بالدعاءِ ، واستغفرَ ربَّه من داءِ الأهواء، فتجمّع الناسُ حولَه يستمعون، ومع كلِ دعاءٍ يذكرُه يُنصتون، وبصوتٍ عالٍ خلفه يُؤمِّنون، وأياديهم إلى أعلى يرفعون، ويرددون ما يُنْشده في يقين ، فَفَتنهم بما يقول، ودَهِشهم بما يصول، ووضعوا أيديهم على الصدور، وأصابَ جسمَهم الفتور، وكُلُّ واحدٍ منهم أصبحَ كالمسحور، وطافوا حوله مُباركين، وشَهِدوا له بالصلاحِ ، وأنّه من أهلِ التُّقى والفلاح .

واعلم – تقبّلَكَ الله – أنّ ابنَ حمدين تزاحمَ حولَه يومها الأتباع، وأصبحَ في ساعاتٍ له أشياع، فأخذتْ عيونُه تذرفُ الدموع، بعدما رأى تلكَ الجموع، والناسُ يظنونَها من التقوى والخضوع، وارتفعَ صوتُه بالبكاءِ والنحيب، فصاَر الحشدُ من حولِه مَهيب، فطأطأوا أمامَه الرؤوس، وأخضعوا له الأجسادَ والنفوس .

واعلمْ ـ أبقاكَ اللهُ ذُخراً ـ أنّ ابنَ حمدين لمّا مَوْعدُ صلاةِ المَغرب حان، طلبوا إليه أنْ يكونَ لهم الإمام، ولا سبيلَ أمامَه للرفض أوْ الإحجام، وأنتَ تعلم يا – عبدَ الله – أنّ ابنَ حمدين لا يعرفُ من الصلاةِ إلا اسمَها، ويجهلُ قيامَها وركوعَها وسجودَها، فلما دعوه إلى الصلاةِ اضطربَ وتحيّرَ، وضاقتْ به الدنيا على اتساعِها وتغيّر، وفكرَ في مَهْربٍ مما يدعونه إليه، فهو لا يعلمُ عددَ ركعاتِ كُل صلاةٍ، ولا صلواتِ الجهر من صلواتِ السّكوت، فاحمرَّ وجهُه من الخجل، وانهمرتْ دموعُه من الوَجَل، فظنوها خشيةً من الرحمن، ربِّ الكونِ والأنام ، فاحتالَ عليهم بأنّه سيذهبُ للوضوء، ثم إليهم سوف يؤوب، وعليهم التزام السكينة والهدوء .

واعلم ـ اصطفاكَ الله ـ أنّهم أجابوه في خُنوعٍ وطاعة :

ـ أننا في انتظاركَ ( يا إمام ) لصلاةِ الجماعة، فأنتَ التقيُّ العبدُ الورع، ومَنْ أطاعك فهو الفالح، ومَنْ خالفكَ فهو الطالح، ولنْ نُصلي بعدَ اليوم خلفَ غيرِك، فقد رأينا بركاتِكَ، وشَهِدنا خشوعَك، وأنتَ من اليوم ِلنا الإمام، وفي يدِكَ مقاليدُ أمورِنا والزّمام.

واعلمْ – أصلحَكَ الله – أنّ ابنَ حمدين بَعْدَما انسلّ من بينِهم، وغادرَ جمعَهم بدعوى الوضوء، لم يَعُدْ إلى اليومِ مُنذُ ذهبَ، كَمَنْ غرق في بحرٍ لَجِب، أو كبخارِ ماءٍ في ليلةٍ ظلماء، ولمّا طالتْ عودتُه، واستمرتْ غيبتُه، أشاعوا أنّه من أهلِ الكراماتِ، ويتنقلُ سائحاً بين المدن والبلدات.

واعلم ـ رعاكَ المولى ـ أنّ ابنً حمدين مِن يومِها لا يُعرف له مكان، ولم يُهتدى له على عُنوان، ولايزالُ أتباعُه يحكون عنه الغرائبَ، وينشرون عنه العجائب، فهو الحاضرُ الغائب، ويكتبون عن صلاحِه الكتبَ والسطور ، وفي عقيدتِهم أنه أصبحَ غيرَ مَنظور، ولا يَحُدُّه مكان، ولا يَحُصرُهُ زمان، وبنوا له في الحديقةِ المقامَ، ويزورُه أتباعُه في كُلِّ عام، وتُذبح عنده الذبائح، وتُنْشدُ عنده المدائح .

وإلى هنا ـ رعاكَ الله ـ أتوقفُ عن الكلام . وألقاكم في القادمِ من الأيام . وعليكم السلام .

محمد ياسين خليل القطعاني (مصر ـ الكويت)

 

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com