قصة قصيرة للكاتب المصري القطعاني

السلسلة

من الباب دلفَ، أغلقتْه وراءَه في سكينةٍ كما فتحته، ففي هَدْأةِ الليل الصوتُ يسري كما تقولُ، ابتسمَ لها ابتسامةَ المنتصرِ، ابتسمتْ له ابتسامةَ الظَّفرِ، منحتْه صَفْحةَ وجهِها ليقبلَها، قبّلها مراتٍ، يدُه أسرعتْ نحوَ خَصرِها ليحتضِنَها، لكنّها دفعتْ يدَه بعيداً، أشارتْ بأصبعها السبابة نحوَ غُرفةِ رَضْيعِها، فَهِمَ أنّ الرضيعَ لا يزالُ مُستيقظاً.
نَزعَ حذاءَه، جلسَ على المَقعدِ المعتادِ عليه، بَيْنَهما رُفقةٌ قد تطول، وقد تقصر، أسندَ ظهرَه إلى المَقعدِ، دفعَ قدميه للأمامِ، ثبّتْ مرفقيه على الطاولةِ التي أمامَه، مُرْهقٌ عائدٌ لتوّهِ من عملهِ.
بعدَ هُنيهاتٍ أتته بالحِساءِ الدافئ الذي تُعدُه له خِصيصاً لهذه الليلة؛ حتّى يمنحَه البأسَ، ويمنحَها مرامَها، ويرويَ ظمأها، بعد تناولِه تكاد الدماءُ تتفجرُ من أوداجِه.
إنّه اليومُ الموعود، لا تَسمح لهُ فيه بالخُذلان، الإخفاقُ معناه أسبوعٌ آخر، وانتظارٌ آخر، ورغبات ٌ فاضَتْ لا تملك كِتمانها، فقد حلّتْ الساعة، والطّريدةُ هي التي تحُثّ الصّيادَ على القنصِ، وتُحرّضُه، عليه أنْ يشحذَ مَلَكاتِه، ويَحدَّ شفرته.
(روب) الحمامِ حَملتْه، باسطةً يدها به إليه، أتته تتبخترُ، تناولَه منها، جذبَها نحوه على غِرّةٍ، أجلسَها على فَخْذيه، يُمعن في تقبيلها، تدّعي الفِكاكَ منه، تهمسُ في أذنه في غَنَجٍ وارتعاشةٍ:
– انتظر، ما زال النومُ يعاندُ الرضيعَ، وأيُ صوتٍ ينبهُه سيؤجلُ …عليك أولاً الاستحمامُ، والتعطرُ، ثم يكون… ما يكون، وترغبُ، مالتْ عليه بنصفها العلوي مع ابتسامةٍ تصرخُ بالرغبة.
نحوَ الحمامِ خَطا نَشيطاً… بطولِه االفارع، أقربُ إلى النحافةِ منه إلى السّمنةِ، بشرتُه خَمريةُ تميلٌ إلى الأُدْمةِ، ساعداه مفتولان جَراءَ طبيعةِ مهنتِه، كثيراً ما تتعلقُ بهما، وتطلبُ إليه أنْ يَحْملَها إلى أعلى، ولا يجعل قدميها تلمسان الأرضَ، وأنْ يُطوحَ بها يَمنةً… ويسرة.
تنتظرُه، وعلى شفتيها ابتسامةُ الطّالبةِ… والمطلوبةِ، وفي عينيها نظرةُ الجارحِ… والفريسةِ، تُظهر له ما ارتدته احتفاءً به، واحتفالاً بهذه الليلة، قميصَ نومٍ شفاف غيرِ مَرْئيٍّ، أنْطقَ مفاتنَها المُتفجرةَ، كلُ ما فيها فاقَ الحدَّ، وتجاوزَ المألوف.
بيضاءُ البشرة، غزيرةُ شعرِ الرأس، مُمتلئةُ الوجهِ، شفتاها مُكتنزتان، ومُمتدتان إلى جانبي وجهِها، احمرارهما يَحثانك على تقبيلهما، وأحياناً تحدثُك نفسُك بأشياءَ كثيرةً نحوهما، لديها طائران نافران مدّا منقاريهما، وكأنهما يرْغبان الفِرارَ من مكانهما، وهي تَزيدهما نفوراً بملابسَ تحدُهما، وتَشفُهما، وتبرزهما.
ساقان عامرتان مِنْ أعلاهما لأسفلهما، مع سِمنةٍ مُصاحبةٍ لكلِّ أعْضاءِ جِسمِها عدا خَصْرها، سمنتُها تجعلُكَ تتفحصُها، ولا تتعجلُ في صَرفِ عينيك عن كل تَفْصيلة فيها، تترددُ في حِرمان ناظريك من رؤيةِ هذا البياضِ اللاهب المُصاحب لهذا الجسمِ المشاغب.
من الحَمّامِ إلى المَقعد، وَجدَ مَشْروباً آخر على الطّاولة، تناولَه مُستسيغاً، ورشفاتِه تتوالى بصوتٍ باتَ مسموعاً، شبّكَ أصابعَ كفيه خلفَ رأسِه، رنا إلى بابِ غرفةِ نومِ الرضيعِ مُستعجلاً خروجَها من عنده، فقد انصرفَ أغلبُ الليل، أرهفَ السمع يتلصصُ صوتَ الرضيع، افتقدَ أصواتَ همهماتِه، شعرَ بالرضا، ابتسمَ، فرك كفيه ببعضهما.
تَهِلُّ عليه في كاملِ زينتِها، عيناها تَشعان، عِطرُها يُعبّقُ المكان، تمشي في خَلاعةٍ وجرأةٍ، نهضَ من مَقْعدِه مُنتفضاً، اقتنصَها، بيديه الفتيتين احتبسها، ضمّها إلى صدرِه، اعتصرها، فتأوهتْ، فازدادتْ ضمتُه لها، فازدادتْ تأوهاً، حملَها إلى غرفةِ نومِها، تضحكُ في غَنَجٍ، ألقاها على السريرِ، ألقى نفسَه بجوارِها، بدأ الصيادُ العَطِش يرتوي من هذه النعمَ البضَّةَ المتمردَةَ.
فجأة سمِعتْ بُكاءَ رَضيعِها، تخلصتْ من بين يديه بمشقةٍ، همستْ في أذنهِ بنعومة:
ـ لحظات، أطمئِن عليه، ثم أعودُ.
لمَحَها تمسحُ رأسَ رَضيعِها بيدها في رأفَةٍ، ثم تُقبلُه، تركتْ بابَ غرفتِه مَفتوحاً، آبَتْ إليه مُهرولةً … مبتسمة ألقت نفسِها فوقَه، تلقفها بين بيديه، تضحكُ في مُجونٍ، تعلو ضحكاتُها، سَقطَ منها قميصُ نومِها، أو أسقطتْه عامدةً.
صارتْ كتلةٌ مُتوهجةٌ بينَ يديه، تتلوى كأفعى هاربةً من مُطاردِها، صراعُ الجسدين يحتدم، ترتفع نبضاتٌ، وتعلو تنهداتٌ، تَنظرُ لنفسِها في المرآةِ أمامَ سريرِها عقبَ اسقاطِها قميصَها الشفاف، تزدادُ رعونتُها، تتمنع، تجعلُه يكافحُ كي ينالَها، تأبى الاستسلامَ حتى يُخذَّل كلَ أعضائِها كما تعودها، أرهقها، ما عادت تقوى على المعاندة.
بعينين شبقتين، وبصوتٍ هامس جريء، وسخونةٍ تندلعُ من جسمِها، انقلبتْ على ظَهرها مُفرجةً بين قدميها المُمتدتين قالتْ
ـ حانت اللحظة، لك الفريسة.
لبى النداء، همّ بها، نهضتْ فجأةً، جلستْ على طَرفِ السّريرِ، دُهِشَ، نظرتْ إليه مُطمئنةً، خَلعتْ السّلسلةَ التي تلبسُها في جِيدِها، ووضَعتْها في خُشوعٍ على المَقعدِ المجاورِ للسريرِ، وقالتْ له:
– هذه السلسلةُ في وسطِها اسمُ اللهِ، وهذا حرامٌ.
عادتْ تتمنعُ، تتنهدُ، تأبى، هو يُجاهِدُ، الفريسة تناور، هذا طبعها، لا تستسلم بدون ثَمنٍ وعليه الوفاء به، تضحكُ في تكُسرٍ… ودلالٍ، انصهرَ كُلٌّ منهما في الآخر، فلا صوتَ، ولاصراعَ، بل صمتٌ، وطاعةٌ، وخضوعٌ، أحياناً هَمْهمات، الجسدان تصالحا بعد لأي… ومُعاندةٍّ.
هاتفُها رَناتُه تعلو، نَزعتْ جسدَها من بين يديه ورجليه، أوْمأتْ إليه أنْ أصمتْ، تناولتْ هاتفَها، أجابتْ المتصلَ بكلماتٍ مُختصرةٍ ناعمة:
– نَعَم، هو بِخَيْرٍ، لقد نامَ مُنْذُ لَحظاتٍ.
طوّحتْ الهاتفَ خارجَ الغرفة، ثم عادَتْ لأحْضانِه ، سَألَها:
– مَنْ المتحدثُ؟
أجابته:
– إنهُ زَ……يطمئن على الرضيع!
عدد رائع هذا اليوم 17~4~2025م
شكرا لكل العاملين في الجريدة الذين اتحفونا بهذا الإبداع الفكري والثقافي .