نهاية حب…دور العجزة

نهاية حب…دور العجزة

الأمهات… حين يصير العطاء نسيانًا

بقلم: فدوى گدور

في زاويةٍ باردة من دار العجزة، تجلس امرأةٌ كانت يومًا دفئًا وملاذًا، كانت نبضًا لا يهدأ وسهرًا لا ينام، كانت اليد التي تطمئن والكتف التي تُسند، كانت الأم التي تسبق دمعتها نداء طفلها، والتي تطفئ جوع العائلة قبل أن يلامسها التعب، والتي كانت ذات يومٍ محور الكون لأحدهم… ثم أصبحت ظلًّا لامرأةٍ كانت ممتلئة بالحياة، تنتظر بابًا لا يُطرق، ويدًا لا تمتد لاحتضانها.

كيف يُختزل العمر الطويل، الممتلئ بالعطاء والتضحية، في عزلةٍ صامتة؟ هل هو ظلمٌ أم حتمية؟ خيانةٌ من الأبناء أم نتيجةُ مجتمعٍ يستهلك الأفراد حتى آخر قطرةٍ من عطائهم، ثم يُلقي بهم إلى الظل؟ إذا تأملنا المسألة بعمق، نجد أن العطاء المطلق – ذاك الذي لا يطالب بشيء – غالبًا ما ينتهي بأن يُمحى أثره. فالوجود، كما يرى الفلاسفة، لا يتحقق إلا بالاعتراف به، والمرأة التي كرّست حياتها للآخرين دون أن تحجز لنفسها موطئ قدم في معادلة الحياة، تجد نفسها في النهاية بلا امتداد، كأنها لم تكن.

لكن، لماذا يحدث ذلك؟ لأن المجتمعات الحديثة تُقدّس المنفعة، وحين تغدو الكينونة غير نافعة ضمن منطق الاستهلاك، تُركَن جانبًا كما تُركَن الأشياء التي فقدت وظيفتها. المشكلة إذن ليست في الأبناء وحدهم، بل في المنظومة التي جعلت الأمومة وظيفةً مؤقتة، وعلاقةً غير متكافئة، تعطي فيها الأم بلا قيدٍ أو شرط، بينما يتعلم الأبناء أن يأخذوا بلا مساءلة.

في زمنٍ مضى، كانت العائلة كيانًا دائريًا، حيث تعود الرعاية إلى من منحها يومًا، أما اليوم فقد تحوّلت العلاقة إلى عقدٍ مؤقت: الأم تعطي، لكنها لا تملك ضمانًا بالاحتواء حين يشيخ بها العمر. هذا التحوّل ليس مجرد أزمةٍ أخلاقية، بل هو اختلالٌ عميق في فهم الزمن نفسه. فالزمن الحديث لا يسمح بالدوران، بل يمضي في خطٍّ مستقيم، ومن يقع خلفه يُترك بلا التفاتة. الأم التي كرّست وجودها للآخرين، تجد نفسها في النهاية خارج حركة الزمن، كأنها لم تكن يومًا محورًا، كأنها لم تكن يومًا كلَّ الحياة.

قد يبدو من السهل تحميل الأبناء وزر هذا المصير، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. نحن أمام نظامٍ اجتماعي يُنتج أفرادًا منشغلين بذواتهم، غارقين في سباقٍ محموم للبقاء، مبرمجين على الجري وراء النجاح المادي حتى نسوا أن الإنسان لا يُقاس فقط بما يملك، بل أيضًا بما يحتضن. وهنا، يتسلل السؤال الأكثر إلحاحًا: هل المشكلة في الأبناء الذين تخلوا، أم في الأمهات اللواتي لم يطالبن بمكانٍ في معادلة الحياة؟ هل كان العطاء بلا شروط خطأً فلسفيًا؟ وهل كان ينبغي لهن بناء امتدادٍ لا يضمحل، بدلًا من إذابة وجودهن في الآخرين حتى تلاشى أثرهن؟

دور العجزة ليست مجرد أماكن، بل مرايا تعكس كيف تغيّر فهمنا للحب، للزمن، وللأمومة ذاتها. ربما الحل لا يكمن في تغيير الأبناء، بل في تغيير الوعي: أن يُعلَّم الجيل الجديد أن العطاء لا يعني الذوبان، وأن الأمومة ليست مجرّد محطةٍ عابرة، بل امتدادٌ لا يجب أن يُمحى. حين نستعيد هذا الفهم، لن تبقى الأمهات مجرّد ذكرياتٍ على أرصفة النسيان، بل ستظل أصواتهن حاضرة، لا تُمحى، ولا تُستبدل، كما ينبغي أن تكون.
                                                                                                                                                                                              فدوى گدور – المملكة المغربية –

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية مديرة وإعلامية موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بمغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل و المراسلات:jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *