فاس بوابة كبيرة يلزمها مفتاح…

أسرار فاس ، لا تنتهي…!!
بقلم: إدريس الواغيش
………
إنها أسرار فاس، تزيد ولا تنتهي. في سوق الرصيف الشهير، لا شيء يعلو فوق “البريوات” والشهيوات بأنواعها: الحلوى الفيلالية، “البليغات”، الخليع، “الشباكية”، إنها حلويات رمضان المفضلة بنكهة تقليدية. في هذه الأجواء الروحانية، التقيت صدفة بالشيخ والداعية محمد الفزازي، عرفته من أول نظرة، كما لو أننا كنا جيرانا من قبل ونلتقي كل يوم. ولاعجب في ذلك، هو من مرنيسة وأنا كذلك.
في ساحة الصفارين الشهيرة، وسط إيقاعات الحرفيين وجعجعة مطارقهم، اكتشفت صدفة عن طريق الاستاذ عبد السلام الزروالي أن انشغالي بلمعان الأواني التقليدية المغربية المصنوعة من النحاس الأصفر، كان يلهيني عن التفكير في أشياء مهمة وجديرة بالزيارة. لم أكن أعرف شيئا عن وجود “مدرسة الصفارين” التاريخية على اليمين من مدخل الصفارين الجنوبي بفاس البالي، وهي أولى المدارس التي بنتها الدولة المرينية سنة 720هـ1320م على يد أبي يوسف يعقوب المريني، وسميت بهذا الاسم لوجودها بين حوانيت المشتغلين بصناعة الأواني النحاسية. كما عرف قبل ذلك باسم مدرسة الحلفاويين، وأيضا بالمدرسة اليعقوبية. المدرسة ألحقت بجامعة القرويين، ويقصدها طلابها وطالباتها، ويلزم الدخول إليها تصريح من الجامعة.
يقول عنها الأستاذ الزروالي: “كان أبي رحمه الله واحدا من طلابها قبل أن ينجح، وبعدها انتقل إلى التدريس في جامعة القرويين، ودرس على يديه فيها الشاعر المغربي الكبير محمد السرغيني، كما غيره من مشاهير السياسة والأدب.
وعلى يسار مدخل الصفارين من جهة الجنوب، يوجد حمام بلدي مغربي تقليدي أصيل. هو الآن متحف، والدخول إليه مؤدى عنه، يزوره السياح الأجانب والمغاربة على السواء. وحسنا فعلوا، حين جعلوه خارج الخدمة، لأنهم كانوا سيحرموننا من تحفة معمارية وحضارية جميلة، ويحجبون عنا ثقافة مغربية موغلة في الأصالة، بكل ما يحمله الحمام من رمزية وطقوس متفردة وعراقة في التقاليد. الدخول إلى الحمام المغربي أكثر من مجرد استحمام، هو استرخاء وتخلص من التعب اليومي، وما يرافقه من ضغط نفسي.
لا أخفي انبهاري بما شاهدت في فضاء “حمام الصفارين” الداخلي من نقش وزليج وسعة، اطلعت فيه على عراقة المغرب وتقاليده الراسخة. ولا عجب أن يكون حمام الصفارين بتلك الجمالية، حي “سبع لويات” وما جاوره من أحياء كان خاصا بأثرياء فاس، وما يقابلهم من سياسيين، علماء وشرفاء. وما زاد من إعجابي بالحمام أكثر، هو ما سمعته من مرافقنا من شروحات حول طقوس وعادات دخول المغاربة رجالا ونساء إلى الحمام. يقول المرافق: “قديما، لم تكن علامات الغنى ظاهرة للعيان كما اليوم: أرصدة في البنك، أملاك وعقارات، سيارات فارهة، خيول.. إلخ. ولذلك، كان الذهاب إلى الحمام فرصة لإظهار الرتبة الاجتماعية، سواء من حيث عدد المرافقين أو لوازم الحمام حين تعلق الأمر بالرجل، والمرافقات عندما يتعلق الأمر بالمرأة. كان الناس يراقبون حجم الوفد المتجه إلى الحمام رفقة العريس أو العروسة، وما هو حجم الأمتعة التي يصحبونها معهم..”.
حين تتجاوز الباب الرئيسي، تلاحظ أن الحمام مقسم على شكل هندسة جميلة إلى نصفين: واحد للنساء وآخر للرجال.
اليوم، أصبح الحمام معلمة تاريخية، بعد أن خضع إلى ترميم يليق بتاريخ وعراقة مدينة فاس، ولكن ما عجبت له، هو عدم وضع علامة أو إشارة تدل على أن خلف قوس الباب اليمنى توجد مدرسة واليسرى حمام.
عند تجاوزنا “سبع لويات” استقبلنا الحاج محمد بناني ببشاشة أهل فاس في مدخل “فندق التطوانيين”، كما قال لي الأستاذ عبد السلام الزروالي، ولكن الحاج بناني كان له رأي آخر في الموضوع. و بالمناسبة هو أشهر كتبي في فاس العتيقة، وقد أمدني مشكورا بمعلومات جديدة ومهمة حول تاريخ فاس، قد لا أجد بعضها في كتب ابن أبي زرع الفاسي أو علي الحزنائي والحسن بن محمد الوزّان الزياتي الفاسي المعروف بليون الأفريقي ….
يقول الحاج محمد بناني، في تصحيح للسائد عند الأغلبية وعامة الناس، وقد كنت واحدا منهم: “ساحة الصفارين، اسمها الحقيقي هو ساحة الحلفاويين، لأن الحرفيين فيها يشتغلون على مادة “الحلفة” أو “الدوم”. كانوا يصنعون منها أطباقا ومواد مختلفة للاستعمال اليومي، ورقائق كانت تستعمل في ملء المخدات”. ويضيف قائلا: “كان حرفيو الصفارين يشتغلون بالقرب من مسجد الرصيف، وعندما بني المسجد، أبعدوا إلى مكانهم الحالي، حتى لا يزعجوا المصلين في المسجد”.
وعن مسجد الرصيف الشهير الذي بناه مولاي سليمان بن محمد العلوي، يستطرد الحاج بناني قائلا:” اشتهر السلطان مولاي سليمان في زمانه بكونه كان “سلطان العلماء”، نظرا لاهتمامه بالعلم والعلماء على السواء. ويضيف: “طلب أحد المهندسين من أعوان السلطان أن يأتوه بالبيض والنخالة، عندما أمر أن يبني مسجدا تكون مئذنته هي الأطول في فاس، فرد عليه المهندس لو وجدنا البيض فوق النخالة، لا سبيل إلى البناء، لأن المكان مائل”. ومع ذلك نجحت خطة البناء، وأعطتنا مسجدا فريدا من نوعه بصومعته العالية جدا.
وعن السلطان مولاي سليمان، يقول بناني:” مولاي سليمان له مؤلفات، شيخه هو الفقيه التاودي بنسودة، وهو الذي حشره في قبره عند الممات. درس في جامعة القرويين، ثم أتم دراسته في الأزهر.. “.
وعن فندق التطوانيين أو التطوانيين الشهير بفاس العتيقة، يقول: “سمي بذلك، نظرا لتوافد التجار التطوانيين عليه، وهو أحد المعالم العمرانية الجميلة بفاس البالي، وخصوصا بعد عملية الترميم”. ويضيف: “… اسمه الحقيقي هو فندق السطاونيين وليس التطوانيين، وكلمة تطوان بالعربية تعني العيون أو السواقي الجارية، والسطوان تعني المداخل، وهناك من يقول أن تطوان كانت المدخل إلى المغرب بالنسبة للأوروبيين يومئذ. لأنه كان بها أكبر ميناء، ومنه كان يستورد المغرب المواد التي يحتاجها من دول مختلفة، ومنها كان يصدر مواده كذلك”.
كما ذكر لي الحاج بناني ما أنجزه المرينيون من بناء المدارس، وهي كلها أقرب إلى تحف فنية، مثل مدرسة العطارين، مدرسة الرخام (المصباحية) المدرسة المتوكلية العنانية ومدرسة الصهريج وغيرها. وتحدث لي عن المرابطين، قال: “حين وصلوا إلى الحكم، جاء بعض أمرائهم، وخربوا عددا من زليج السقايات وزينة بعض المساجد”. قلت له مبررا فعلتهم، إن كانت صحيحة: “ربما لأن المرابطين من كثر زهدهم، كانوا لا يحبون استعمال الزليج البلدي المغربي ولا الألوان، وأن الزليج الفاسي لم يسمح له بدخول مدينة مراكش إلا في عهد السعديين، كما تقول بعض المصادر..”.
أما عن قصة الوطاسيين، ودعائهم للسلطان الأعظم في الباب العالي بإسطنبول، فقد كان للكتبي بناني رأي آخر، إذ اعتبر ذلك حيلة منهم، لتفادي مجابهة جيش لا يقهر. قلت له باسما: “ولماذا قهرنا هذا الجيش الذي ذكرت في معكرة وادي اللبن…؟”. أجابني على الفور وبنفس الابتسامة:
” تلك حكاية أخرى…!!”.
الحاج محمد بناني، للعلم -كما أشرت سابقا- يعتبر أشهر كتبي لازال يصارع من أجل نصرة الكتاب بالمدينة القديمة، وهو رجل فضل أن يعيش مع الكتب وبينها، أبوه كان تاجرا وجده قاضيا كما أقر لي الأستاذ الزروالي. كل هذه المعلومات على أهميتها، جاءت في سياق دردشة على إيقاع الحديث عن كتب تاريخية تهم مدينة فاس وتأسيسها، ولكنها تبقى معلومات شفهية تحتاج إلى تدقيق تاريخي.
ونحن صعود في زقاق الطالعة الكبيرة، سيسمي لي الأستاذ عبد السلام الزروالي الأشياء بمسمياتها، كونه ابن فاس العتيقة ومن مواليدها أولا، وبحكم خبرته الإعلامية كمندوب وطني سابق ثانيا. مررت كثيرا من “الطالعة الكبيرة” على مدار ستين عاما، ولم أنتبه إلى زاوية سيدي عبد القادر الجيلاني، ولا نظرت إلى الزقاق الذي سكن فيه ابن خلدون، ولا انتبهت إلى الدرب الصغير، حيث كان يسكن المؤرخ الحسن بن محمد الوزان الفاسي، ولا أعرت اهتماما إلى حيث سكن أحد الزعماء التاريخيين للحركة الوطنية وحزب الاستقلال علال الفاسي. كل هذه الأشياء لم تنبت لحظة مرورنا، ولكنها كانت موجودة من قبل، ولذلك تبقى فاس بوابة كبيرة يلزمها مفتاحا، ومتاهة تبدأ ولا تنتهي، تتيه فيه إن لم يكن معك مرشد. وكان وجود سيدي عبد السلام الزروالي إلى جانبي في جولتي الأخيرة، رفيقا وأخا، ومفتاحا ذهبيا ومرشدا صادقا في كل خطوة خطوتها معه.