إبداعات قصصية : تحت جلد المدينة

إبداعات قصصية : تحت جلد المدينة
الصورة من الجزيرة نت
                     فدوى گدور

ـ زهرات لم تزهر

هدير المدينة يلتهم الصمت، كوحش يلوك أنفاس العابرين. الأزقة أمعاء ملتوية، والمباني عيون بلا أجفان، تراقب بإمعان من بين الشقوق.

في زاوية معتمة، انكمشت طفلة نحيلة، شعرها باهت كخيوط الشفق الخريفي، تاهت في ملامحها دروب الضياع من وجود مبتور، وعيناها واسعتان تترنح فيهما الحكمة كظلٍّ قديم. ترفع ركبتيها إلى فمها، تنكمش كشرنقة تخشى اكتمالها.

في يدها دمية مخنوقة بدموع السحب، ضفائرها مشعثة، تتوسل مشبك فراشة من صناع الربيع. لكن المدينة لا تصنع الربيع، إنها لا تلد إلا رمادًا، ولا تنبت إلا دخانا ولا تصنع إلا ضجيجا. تحدّق في الوجوه الملساء، الجدران الإسمنتية المتحركة، الكتل الصامتة التي تعبر دون أثر. وحدها تعرف أن تحت جلد المدينة، ثمة ظلالٌ لا تموت، تسكن الفراغات المنسية.

ـ عطر بلا زهر…

الجوع وحش يغرس أنيابه في أحشائها، ينهشها بلا رحمة. بردُ الليل يتسكع في عروقها، ويداها الزرقاوان تتلمسان فتاتًا من القمامة.

كفٌّ من رغيف متيبّس، متجعد، يقبل الشفاه، يطلب الرضا من أمّ المحن، رفعته إلى فمها بمشقة، لكن الخبز كان هشًا، كأنه مجرد قشرة لماضٍ مهجور. التفتت إلى دميتها الغارقة في الوحل، فبدت كأنها تهمس: “لا تأكلي الخيبة… فإنها ستنمو في قلبك.” لكن الجوع لا يصغي للحكمة، والمدينة لا تهمس إلا لمن يملك صوتًا.

ـ أصوات في الفراغ

أغمضت عينيها، توسدت ركبتيها العظميتين العاريتان، تقوقعت كأنها تحاول أن تتقلص وتختفي. لكن المدينة لا تسمح بالغياب، فهي تمضغ الأرواح حتى تذوب بين أضلاعها الإسمنتية. ثم بدأ الجدار يتنفس ويزفر ويتعرق،

هلوسات الجوع؟ ربما. لكن الصوت كان هناك، يوشوش في الفراغ، يتسلل من بين الثغور كما لو أنه يناديها من بُعدٍ سحيق: “نحن هنا… نحن هنا…”

ارتعشت. حاولت أن تشكل الكلم: “من أنتم؟” لكنها لم تجد صوتها.

ـ ظلٌّ يلتهم الضوء

استسلمت للغفوة، أو ربما انجرفت إلى يقظةٍ أخرى.

في الحلم، كانت المدينة كجسد ضخم، شرايينه طرقٌ ملتوية، وأوردته نوافذ موصدة، وقلبه باب صدئ بلا مقبض.

في زاوية الجدار، تسلل ظلٌّ بطيء، يشفط الضوء كما يشفط الجوع الأمل.

اقتربت… لكنه لم يكن غريبًا. كان مألوفًا بطريقة مقلقة. مدّت يدها تتحسسه وحين لامسته، اهتزّ كل شيء.

ـ داخل الجدران

استفاقت، لكنها لم تعد في الزقاق. كانت في المدينة، لكن المدينة لم تعد كما كانت.

الجدران أصبحت نسيجًا حيًا، ينبض تحت أصابعها، الأزقة تلتفّ حول نفسها كأفعى تبتلع ذيلها، والمباني تعلو بلا نهاية، كأنها ترتدي كعب ليلة متعجرفة فارهة تمتد الى ما لا نهاية، سارت تنقب عن مخرج، حتى وجدت بابًا بلا مقبض، مترع، بلا مفصلات، بلا وعدٍ بالخروج.

وحين ألقت السلام… تشظّى المكان. الجدران تهاوت إلى عيونٍ مفتوحة، الأفواه تهمس بأشياء غير مفهومة، وسط ضجيج الفراغ، كان هناك كائنٌ في الزاوية. لم يكن بشرًا، ولم يكن ظلًا، رفع رأسه… وكانت عيناها.

ـ تحت جلد المدينة

حدّقت فيه. لم يكن غريبًا. كان هي نفسها… خيالها المنسي، الطفلة التي لفظتها المدينة، أو ربما التي لفظت المدينة ذاتها.

حاولت الصراخ، لكن الزوايا ابتلعت صوتها. حاولت الركض، لكن الأزقة كانت سرابًا وأغلالا تلتف حول قدميها. الآن، عرفت. لم تكن سوى ذكرى.

ذكرى لطفلة لم يسأل عنها أحد.

ذكرى لظلٍّ شبح عالقٍ بين الأزقة.

ذكرى لعينين لم يبكهما أحد.

في الصباح، استيقظت المدينة، وواصلت ابتلاع الخطوات وإخفاء الظلال، وطني الأمال، لم يلحظ أحد اختفاء الطفلة.

لم يسأل أحد عن دميةٍ مبللة بدموع المطر. لأنها لم تكن موجودة أبدًا… أو ربما، كانت المدينة كلها مجرد حلمٍ في رأس طفلة لم تُولد قط.

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية مديرة وإعلامية موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بمغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل و المراسلات:jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *