من الذاكرة الرياضية المغربية: الجزء الثاني

الطاس في ذاكرة ’’واحد من أولاد الحي‘‘
بقلم: نجيب تقي
يواصل الباحث والأستاذ “نجيب تقي” التأريخ لنشأة فريق “الاتحاد البيضاوي” لكرة القدم الذي عرف باسم “الطاس”، كتابة جزء آخر من تاريخ هذه الفرقة الكروية للتذكير بها وبتجربتها للتاريخ..
ظللت أتتبع أخبار الطاس بل أحرص على معرفة تفاصيل الأخبار عنه، من خلال قراءة الصحف اليومية الصادرة في المغرب في الستينيات والسبعينيات، وخاصة العلم ولوبينيون ولو بوتي ماروكان ولا فيجي ماروكان. كنت أبحث بلهفة عن أخبار اللاعبين أمثال بؤسا ونومير والگوشي وفاتح و’’لفقيه‘‘ وخليفة واحميدة والمسكيني ومولاي عبد الله وباحسين ومضناك و… واستفدت، في ذلك، من عملية استعارة تلك الجرائد من سي علي، رحمه الله عليه، صاحب مكتبة الإنشاء الواقعة قبالة ثانوية المستقبل، حيث كان يكريني كل جريدة بريالين أو عشر فرنكات (سنتيمات حاليا).
ولا أخفي أنني كنت أتردد على ’’الحفرة‘‘، وهي مطرح غير نظامي للأزبال صار يحتله حي العنترية حاليا، كنا نقوم فيه بما كنا نسميه ’’التمايخيل‘‘ أي البحث فيه عما يفضل من مأكولات ومشروبات وملابس وطوابع بريدية… وما يزال الكثير من أقراني يتذكرون ما كانوا يأكلونه من برتقال لم تتمكن آلات شركة كروش من عصره. غير أنني لم أتذكر منهم من كان مهووسا، أيضا، بالبحث في الصفحات الرياضية لتلك الجرائد عن صور لاعبي الطاس ببذلاتهم الناصعة البياض، والذين لم نكن نتردد في تشبيههم ومقارنتهم بلاعبي فريق ريال مدريد أيام خينطو وديستيفانو وبوسكاس، وهو الفريق الذي كنا نتتبع مقابلاته في البطولة الإسبانية على شاشة التلفزة المغربية بالأبيض والأسود في مختلف المقاهي الموجودة في بلوك الكدية وبلوك السعادة، وهنا يحضرني اسم ’’قهوة اعمرو الَمْريض‘‘ القريبة من الساحة التي أطلق عليها لقب ’’نمرا جوج‘‘، نسبة إلى الحافلة رقم 2 من حافلات شركة ’’الطاك‘‘ التي كانت تسافر بنا من محطتها في هذا الموقع إلى وسط الدار البيضاء الذي يطلق عليه ’’الَمْدينة‘‘ أو الباب الكبير (أحد أبواب المدينة القديمة المقابل لمقهى ليكسيلسيور). وسمح لي قص صور اللاعبين من الصحف بتكوين ألبوم خاص بفريقي المفضل، وإن كانت صورا قليلة الجودة والوضوح، لا يمكن مقارنتها، على الإطلاق، بالصور الحالية التي تفرزها الآلات اليوم مع التطورات السريعة الحاصلة في عالم الإعلاميات.
كانت ساحة معهد الأرميطاج، بل وحتى فصولها الدراسية، ميادين سجالات ونقاشات بل وخصومات بين أنصار الوداد والرجاء والاتحاد، يشتد وطيسها في بداية الأسبوع بعد مقابلات الأحد ثم يضعف خلال باقي أيام الأسبوع، بل يمكن القول إنها ما تكاد تنتهي إلا لتبتدئ نقاشات وسجالات جديدة مع اقتراب عطلة نهاية الأسابيع الموالية وإجراء المقابلات في أيام الأحد اللاحقة. كنا، نحن ’’أولاد الحي‘‘، نستعمل، في هذه ’’الحروب الكلامية‘‘، كل ما أوتينا من وسائل الهجوم والدفاع في مواجهة الوداديين والرجاويين. كنا نسعى إلى إغاضتهم بالحديث عن قذفات مولاي عبد الله ونومير الصاروخية ومراوغات بؤسا الذكية وتمريرات الگوشي الجميلة وصمود بوشعيب في قلب الدفاع بأناقته وطريقة تزييه بجواربه. وما أزال أذكر أن سي مصطفى العمري، أطال الله عمره، كان يجر جرا إلى مثل هذه الدردشات والنقاشات الكروية من قبل بعض الزملاء، على هامش ’’الأخلاق‘‘ وغيرها من محاور مادة الفلسفة التي كان يتقاسمها مع سي عبد الله تغزري شفاه الله. كان سي مصطفى محبا لفريق الرجاء فريق درب السلطان بامتياز ومعجبا بأحد لاعبيه أخيه الصغير بْتي عمر المعروف آنذاك بقدرته على المراوغات والتمريرات الذكية، على الرغم من قصر قامته وضعف بنيته.
ظللت مهووسا بحب الطاس، بعد حصولي على شهادة الباكالوريا والتحاقي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط ثم بالمركز التربوي الجهوي فاس – سايس، أبحث عن أخباره وأتتبع حركاته وسكناته. كانت تصلني أصداء تفريط الفريق في عدد كبير من اللاعبين، أمثال الغزواني ’’الغليظ‘‘ ولحسن الريشي وحمو (فريق الجيش الملكي) وعثمان وعبد الله (الفتح الرباطي) وفتاح وولد صالح (اتحاد سيدي قاسم) والعلوي وعبد الخالق (الوداد) والمهدي وقاسمي (الرجاء). ولا أخفي ما كان يراودني من الأسى وعدم الرضا، لسماع مثل هذه الأخبار. لم أكن حينها، ومن موقعي كمحب للفريق، أدخل في الموضوع حسابات أخرى، من قبيل المشاكل المالية التي كانت تضغط عليه ل’’بيع‘‘ بعض لاعبيه أو الطموحات الشخصية للاعبين آخرين من أجل الوصول إلى آفاق أرحب ومستقبلات أضمن لما بعد نهاية مساراتهم الكروية. ويلزمني أن أشير إلى ما كان يتردد في ’’راديو الحي‘‘ من إشاعات إلى أن عمليات نقل بعض اللاعبين كانت تتدخل فيها الجهات العليا والنافذة في إدارة الدفاع الوطني أو الأمن الوطني…
وعلى العكس من ذلك، كان افتخاري قويا بانتقال محمد بؤسا أحد نجوم الفريق إلى الاحتراف في البطولة الفرنسية، حيث انخرط في نادي ليون ولعب في صفوفه الكثير من المقابلات، ومنها المقابلة الأوربية التي خاضها معه ضد نادي توتينهام الأنجليزي، والتي لا أذكر إن كانت برسم بطولة أوربا أم كأسها. وزاد من هذا الإحساس أنه سجل الإصابة الثانية لفريقه، وإن كانت غير كافية لتأهيله، حيث تفوق عليه خصمه بثلاث إصابات لاثنتين. كما لا أذكر إن سبقت هذه المقابلة أم مقابلة أخرى خاضها المنتخب الوطني المغربي ضد المنتخب الألماني، وتألق فيها نجمنا بمراوغاته البديعة، إلا أن الخصم الألماني أنزل بفريقنا هزيمة ثقيلة.
وحزنت، لما بلغني خبر عودته النهائية من رحلة الاحتراف القصيرة التي لم تعمر سوى موسم رياضي واحد، فعاد إلى مهده، دون أن يعود إلى سابق عهده، حيث ما أزال أذكر ما حل ببنيته من بدانة أفقدته كثيرا من طاقاته. واشتد حزني بعد سماع خبر تلك الوفاة المأساوية التي انتهى إليها في حي روش نوار. لقد كانت تلك التجربة الأوربية وبالا على شخصه بعد عودته إلى المغرب، ومن دون شك كان تأثيرها قاسيا على نفسيته مما سرع بانتهاء أجله رحمه الله في مستشفى موريس كو (مستشفى ابن رشد) بالدار البيضاء في صيف 1972.
بالإضافة إلى ذلك، كنت أتردد كثيرا على ’’تيران الطاس‘‘ لمشاهدة المباريات التي دأب العربي الزاولي على تنظيمها بين فرق الأحياء والتي سمحت له بتكوين ’’مشتل‘‘ أو ’’بيبينيير‘‘ وفر له كثيرا من الجهد والوقت والمال عوض البحث عن اللاعبين هنا أو هناك، وباكتشاف كثير من اللاعبين الذين اعتمد عليهم في بناء فريقه الأول. وما أزال أذكر بعض الآليات التي أبدعها لاكتشاف المواهب من بين العشرات والعشرات من المترشحين، وخاصة طريقة تنفيذ ضربات الجزاء. كما أذكر أن تلك المباريات كانت تتوج بالمباراة النهائية التي تنظم بمناسبة عيد الشباب. وبالمناسبة، ما أزال أستذكر الحفل الذي نظم في 10 يوليوز 1971، وما تلاه من سماع موسيقى عسكرية كانت تبثها الإذاعة والتلفزة المغربية بالرباط، أثناء عودتي من الملعب إلى بيتي، والتي أدركت فيما بعد، وبعد سماع صوت المذيع محمد بن ددوش، أن محاولة انقلابية في الصخيرات كان يجري تنفيذها.
كنت أتصيد الفرص للاقتراب ممن عشقتهم من لاعبي الطاس، أتلهف إلى معاينتهم عن قرب، بل وأسترق النظر إلى وجوههم، انتظر وصولهم إلى مستودع الملابس بفارغ الصبر، بل وأذكر، عندما علمت، وأنا في بداية مشواري الإعدادي، بانتماء نومير إلى صف من الصفوف المتقدمة من الدراسة في معهد الأرميطاج، فيما صار يسمى اليوم ’’التأهيلي‘‘، فبحثت عنه أثناء فترة الاستراحة، لأجده يلعب الكرة وصفوة من زملائه في زاوية من زوايا الساحة، بعيدا عن أنظار الإدارة التي كان أحمد المكتفي يتملك ناصيتها بيد من حديد. وبالمناسبة، أريد أن أشير إلى أن الإدارة الرسمية كانت بيد الأستاذ الهاشمي الفيلالي الذي أتذكر وقفته عند مدخلها، دون أن يتدخل في سير المؤسسة اليومي، حسب ما كان يتراءى لنا، كما أتذكر تشبثه بوضع ’’الطربوش الوطني‘‘ على رأسه، في حين كان ’’لفقيه‘‘ بوشتى الجامعي يداوم على لباس الجلباب و’’البلغة‘‘ والعمامة على رأسه، وهو يسير بخطى بطيئة نحو خزانة المدرسة التي كان مسؤولا عليها.