واقع المقاهي الثقافية في زمن التفاهة

المقاهي الثقافية لم تكن أبدا للسهرات الغنائية
بقلم :أحمد الميداوي
غريب كيف تحول المقهى الثقافي من متنفس حواري وتبادلي للمعرفة والتثقيف إلى سهرات غناء بتذاكر تلغي البسطاء من الوافدين، بل تعتبهم صفرا مهملا في عملية الإبداع والتخيل والابتكار. تذاكر تضع حدا فاصلا بين نمطين من الٱدميين: واحد بئيس وضيع يعيش حالات من التهميش والإقصاء تشكل المصدر الأساسي للغبن، وآخر سامي يحق له الولوج بلغة جيْبه إلى كل العوالم.
المقاهي الثقافية لم تكن أبدا للسهرات الغنائية، ولم تكن منذ نشأتها قبل فيكتور هوجو إلى اليوم للعروض الغنائية وبيع التذاكر، كما نلحظ لدى بعض أشباه الجمعيات، بل كانت ملاجئ للتحاور بين شرائح مختلفة في انتماءاتها الطبقية والفكرية، ومتلاقية في تطلعاتها الثقافية التي تعطي للمكان بعدا تبادليا مختلفا عن المقاهي الأخرى.. المقاهي الثقافية وأنت بداخلها لا تتيح لك الترويح عن النفس من خلال التفرج على المارة أو على المحلات الأخرى. فقد صممت بشكل يوحي بأنها مجمعات حوارية تمتلئ بدفء الرواد الذين ينشئون فيها طقوسا للتجادل في القضايا الثقافية والشعرية والفنية والإبداعية بشكل عام، ويحاولون مع انتفاخ الحديث وانتشاره بلورة رؤى صغيرة لثقافة يكبر فيها الزخم الفكري التعددي للأشياء..
المقاهي شكلت منذ عقود جزءا من الوعي الثقافي المجتمعي، يكبر ويصغر بحجم العلاقة بين الفرد والمكان، ونسجت شرائح مختلفة من الرواد لكل واحدة منها حيزها الخاص، تتجادل فيه..تمزح..وتجعل الفراغ وقتا مليئا بالدفء والمعرفة.
المقاهي الثقافية تحولت هكذا إلى مؤسسات اجتماعية مفتوحة للتواصل الثقافي الشفوي، وشاعت بشيوع الاتجاهات الفكرية لروادها:
مقهى السورياليين، الكتاب منهم والرسامون، ومقهى الوجوديين، ومقهى الواقعيين الجدد (Les New réalistes)، وغير ذلك من المقاهي المبصومة تاريخيا بالمذاهب الفكرية والفنية لروادها. وبداخل تلك المقاهي التي كانت ولا تزال، مرتعا يفوح بنسيم الشعر والأدب والمداولة الثقافية، تشكلت مجاميع شعرية ومسرحية، وبها أيضا أصدرت بيانات لقائية ومقالات عديدة في مختلف صنوف المعرفة.
ونخلص بناء على ما تقدم، إلى أن المقاهي الثقافية “الغنائية”، بدون سند معرفي، وبدون غايات فنية وإبداعية واضحة، تبقى عبارة عن تنشيط الفراغ في الفراغ، لتوليد حلم بدون حلم وبدون سند حقيقي… بئس المقاهي الثقافية (الغنائية) والحسرة كل الحسرة على أشباه الجمعيات التي أنزلت الفعل الثقافي إلى هذا الحضيض.