خواطر امرأة
عن دفن الأسرار أحكي
عادة ما يكون السر هو الأمانة، وهو كذلك الإمتحان ، كما أنه التحدي. وعادة ما يسكن ذواتنا ويساكننا في كل برمجة أصلية وربانية ، ومن هنا يتحدد معناه في الكلام الذي نختزنه في دواخلنا ، ولا نبوح به ولا يمكن لأي كان الاطلاع عليه ، والا لما بقي سرا . وعليه فإن حفظ الأسرار وكتمانها يبقى أمانة عظيمة وعهدا يدخل تحت قوله تعالى في سورة “الإسراء” ،الاية 34 ” وافوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا ” وبالتالي فإن افشاؤه يندرج في خانة الخيانة ، وهنا يستحضرني قول الرسول الأكرم (ص) : ” إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهي أمانة ” ، مخافة وخشية أن يراه أو يسمعه أحد . وعليه فإن الخلوق منا ،مطالب شرعا أن يحافظ على الأسرار .
ويستحضرني هنا المثل الشعبي الذي نردده كثيرا (سرك في بئر ) ومعناه أن السر ينبغي أن يبقى محفوظا ومصانا في مكان عميق بعمق البئر . وعندما نقول بذلك فإنا ننسى أو نتناسى أن ماء البئر ما وجد الا ليسقي الكثير من الكائنات الحية – بما في ذلك الأرض – وانطلاقا منه ، فهناك من الأسرار مالا يستغنى فيه عن مشاركة قريب أو صديق أو حتى استشارة ناصح مُعِين ، فيكون الواحد منا شديد التحرى في اختيار من سيأتمنه على سره ، ويستودعه إياه ، وعندئد نجد أنفسنا أمام حالتين : اولهما عندما يكون الإختيار صائبا ، فيتعامل هذا المؤتمن للسر بالكتمان ، اذا كان من أصحاب الفضائل المميزين والمميزات ، القادرين على الكتمان وتناسي ما يصل إليهم . وثانيهما عندما يكون الأمر عكس ذلك ، فيفشي / تفشي السر ويصير خبره على كل لسان .
ان كتمان السر هو كرم في النفس، وسبب للمحبة الدائمة وسمو في الهمة ، وهذا يحيلنا إلى ما دعا اليه الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال : [ أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها :
اذا اؤتمن خان
وإذا حدث كذب
وإذا عاهد غدر
وإذا خاصم فجر .]
ليس بالضرورة أن يكون جانبنا مشرقا طوال الوقت ، إذ غالبا ما تنتابنا بعض اللحظات المظلمة ،بحيث تمر علينا بعتمتها وتزج بنا في عوالم البوح ، كي ننجو من بطشها ونخفف من الحمولة التي أناخت علينا بها الظروف .
فالحديث مع من نحب يبقى راحة نفسية لامثيل لها . كما ان المجالس في معظمها أمانات لمن استأمنا، وبالتالي أعتقد أنه لا يمكن تصديق مقولة ” سرك في بئر ” فالبئر يسقي كل أهل المنطقة او القرية أو الدوار .
وعليه تبقى الهفوات أوالأخطاء جزء من الطبيعة البشرية والإنسان … كلنا نحتاج لشخص محدد نثق فيه أو فيها ، ونطمئن اليه وإليها فنخبره (ها) عن حالتنا الحقيقية أو النفسية وعما يثقل كاهل كل منا أو يقض مضاجعنا ، ونحتاج لمن يتكلم معنا عن حياته الخاصة جدا ، ويشاركنا مشاكله او على الأقل بعضا منها ، فنتقاسم لحظات الصفاء والبوح ، خاصة في فترات الانكسارات التي تزايدت في زمننا هذا …وقد يحدث أن يخون الواحد نفسه ، أو أنه لا يحسن الاختيار في بوح لا مشروط منه ، فيتشارك أسراره وتفاصيل حياته أو بعضا من وقائعها ضاربا بعرض الحائط كل ما يفترضه المنطق والتحلي بأبجديات إحترام الآخر ، والتعامل معه بما تفترضه قيم المواطنة الحقة . وهنا يتحول إفشاء السر الى ضربة في المقتل ، لكل ما تفترضه الألفية الثالثة التي نعيشها، من مقومات التعامل السليم ، وتزيدها مختلف الوسائط والتكنولوجيا الحديثة حدة ، وسرعة فائقة في الانتشار السريع .
عموما اقول أن النسيج العلائقي الاجتماعي البعيد عن كل رياء عاطفي ، لا يمكن أن يستقيم بدون ضوابط يأتي على رأسها التقدير والاحترام للآخر وصيانة الأمانة القولية والمحافظة عليها في ثنائية الالزام والالتزام ، مع استحضار ما يرتبط بالمشاعر الصادقة والتشبع بالقيم التي تنص عليها مختلف المواثيق الدولية والوطنية .
وقد يحدث أن تنتهي علاقة ما ، بحكم ظروف الحياة واشكالاتها المتعددة ، وحتى لا نخوض في نقاش لماذا ؟ وكيف ؟ أو مايدور في هذا الفلك ، فإننا نقول بضرورة صون الود وحماية المحبة من التلف بعيدا عن كل اساءة او تنقيص أو تجريح . لأن العلاقات الإنسانية مع الأهل والأحباب والأصدقاء والمعارف ، هي قبل كل شيء مشاعر فياضة بما يفترضه نوع تلك العلاقات من قيم والتزامات ، فكما كانت البداية جميلة فلنحاول أن نعطي لذاك المستجد نهاية جميلة حرصا على جمالية الذكرى و حفظا للمصلحة العامة . لأن أسوأ الناس وأوقحهم الذي/ التي تنهمر أسرارك من افواههم عند حدوث أي أزمة – حتى ولو كانت عابرة – في علاقاتكم ، وتتحول أسراركم إلى مادة دسمة لتمرير عملية تقاسم كؤوس الشاي . وتجنبا لكل تلك المزالق يجذر بنا أن نكون شديدي الحرص في اختيار من هم أهل لثقتنا حتى نقاسمهم أسرارنا ، لأن الناس عوالم متباينة ومتنوعة، بتنوع ثقافتهم وأماكن عيشهم وأحواض نهلم القيم والسلوكات .
اخيرا أقول – وبعيدا عن سوء الظن – أن كتمان الأسرار وعدم استرخاص المشاعر، واليقين بأن وجع الكتمان أفضل من ندم البوح، يبقى بمثابة ألف باء الأنسنة الحقة. وكم هو صائب وصادق قولهم : ” علينا أن ننتقي من نجالس ومن نأتمنهن/ نأتمنهم أسرارنا حتى لا نُحرق بسهام الافشاء يوم لاينفع الندم ” . وعلى نفس النهج أقول : علينا أن لا نجعل حياتنا كتابا مفتوحا ، وعرضة للتمزيق من طرف أناس بعيدين عن الفعل القرائي المتزن، وعليه فليس كل مافي القلب يحكى، حتى ولو كان ثقيلا عليه أو مرهقا له ، كي لا نتعرض للدوس عن قصد أو بدونه . وكم هو جميل أن يحتفظ كل منا بمساحة مسيجة من حياته ودواخله ،ولا نقحم فيها غير أقرب المقربين ، بدءا بالأبوين ومرورا بالأزواج ووصولا للأخوة و الأخوات وانتهاء بالأبناء والبنات ، وعندئد سنتأكد من أن أسرارنا هي دوما محفوظة في بئر جافة لا قعر لها ، وليست على قارعة الطريق ، كما يريد لها البعض أن تكون .
ثريا الطاهري الورطاسي
طنجة . المملكة المغربية