عبد الله ابن عائشة مدرسة دبلوماسية مغربية منذ القرن السابع عشر
“قبطان البحر”: من القرصنة إلى الدبلوماسية
ذ. المختار عنقا الإدريسي
هامش للبدء :
في خطابه أمام البرلمان المغربي ، يوم الثلاثاء 29 أكتوبر 2024 استهل الرئيس الفرنسي ماكرون ايمانويل حديثه – في اطار الزيارة الرسمية التي قام بها للمملكة المغربية – بذكر عبد الله بن عائشة ، باعتباره أول سفير مغربي يمثل السلطان مولاي إسماعيل في فرنسا ، مشيرا بذلك إلى التاريخ العريق للعلاقات المغربية الفرنسية .
ارتأينا أن نتوقف عند هذه الشخصية المتعددة الأوجه لنكتب هذه الورقة التأريخية لقراء ألوان.
فمن هو عبد الله بن عائشة ؟
إنه الأميرال والقرصان والدبلوماسي المغربي الذي تزعم نشاط الجهاد البحري ، انطلاقا من حوض نهر أبي رقراق ، ومثل السلطان العلوي مولاي إسماعيل ، أمام ملوك فرنسا وأنجلترا ، وحمل لقب”قبطان البحر”
عن نشأته تقول أغلب المصادر أنه ولد بمدينة سلا في1646 ، وزاول القرصنة كباقي الاندلسيين الذين طردتهم محاكم التفتيش المتعصبة ، وعمدوا إلى الاستقرار بالسواحل المغربية ، واتخذوها مراكز للهجوم على المعتدين المسيحيين ، ومن هنا نشأ الأسطول المغربي المجاهد الذي كان يهاجم السفن الأوربية بالبحر المتوسط وفي غمرة هذه التجارب الجهادية،
نشأ عبد الله ابن عائشة، وكانت هذه السفن بمثابة المدرسة الأولى التي اقتبس من رجالها مختلف الأساليب الحربية ، وأَلمَّ بخريطة الطرق البحرية ، وتعلم اللغات الأوربية التي كانت مألوفة عند هؤلاء المغامرين، فأظهر بطولة وشجاعة ملحوظة وتمرس بالعادات الأوربية وتعرف على مختلف أساليبهم في الحرب والسلم على حد سواء – وذلك تبعا لما أوردته مجلة دعوة الحق في العدد 146 – . وقد كان يبتعد بسفنه في شواطيء المحيط الأطلسي متجها صوب المياه المجاورة لفرنسا وأنجلترا ، بل والى الدنمارك وجزرها ليضايق سفنها، كما روع ساحل البوغاز وقادش، متعقبا السفن الأوربية المتوجهة والعائدة من القارة الأمريكية، ومن هنا جاءت شهرته كزعيم معروف لقراصنة سلا والرباط . وفي سنة 1680وقع أسيرا في قبضة سفينة انجليزية ، وظل أسيرا لمدة ثلاث سنوات ، حتى اهتم بأمره ” جيمس ” أخو ” تشارلز الثاني ” وتدخل لاطلاق سراحه . وخلال مقامه ببريطانيا تمكن من الاطلاع على عادات المجتمع الأوربي والتمكن من بعض اللغات المعتمدة عندهم .
وتذكر بعض المصادر أن ابن عائشة سيتوجه بإسم السلطان مولاي إسماعيل إلى أنجلترا لتهنئة”جيمس الثاني”عندما أصبح ملكا.
كما تم تعيينه على رأس سفارة مغربية متجهة لفرنسا ، بعد أن صادق السلطان على معاهدة هدنة مع لويس الرابع عشر لمدة ثمانية أشهر، وحمل السفير رسالة اعتماده مؤرخة في 23 ربيع الأول 111هجرية ، وفيها يلقبه السلطان ب:
“قبطان البحر”و”الرئيس” وكان من بين الأعضاء المرافقين له ” علي بن عبد الله ” قائد تطوان وأخو قائد سلا ، واصطحب معه ترجمان من التجار الفرنسيين المقيميين بالمغرب يسمى ” فابر ” . وقد تحركت السفينة الفرنسية من حوض نهر أبي رقراق في 17 أكتوبر 1698 لترسو بميناء ” بريست ” ، التي أقام بها السفير مدة شهرين لأسباب تشريفية، إذ كان الملك ” لويس ” يريد أن يحيل ” ابن عائشة ” على بعض رجال دولته لمفاضته دون أن يستقبله ، غير أنه احتج بشدة على هذا السلوك ورفض بدأ أي مفاوضات قبل أن يتم استقباله من طرف الملك ، وبذلك أجبر المسؤولون الفرنسيون على الاستجابة لطلبه -حسب ماجاء في دعوة الحق العدد 116 –
وفي 12 يناير 1699 غادرت البعثة المغربية مدينة بريست في اتجاه باريس مثيرة فضول الفرنسيين في مختلف الطرقات والشوارع للترحيب ، وتجول الوفد في عدة مدن فرنسية ك ” الرين ” و ” نانت ” ،ونزل بفندق السفراء بباريس ، وبعد 11 يوما سيتم استقباله بقصر فرساي من طرف لويس الرابع عشر ، وهو يرتدي لباسه المغربي وذلك يوم 5 فبراير 1699،فألقى خطبته باللغة العربية ، وقد ترجمت من طرف “دولاكروى” ، وقد ادهش الحضور بطريقة حواره ونقاشه ودفاعه عن الأسلام . وتجذر الإشارة هنا إلى أن هذه الزيارة هي الوحيدة المغربية المسجلة ب 16فبرير 1690 في كتاب زيارت الإقامة الملكية بفرساي باعتبارها زيارة رسمية .
وقد جرت خلالها محادثة ودية قصيرة بين السفير والملك من أجل مقايضة اطلاق الأسرى الفرنسيين، مقابل تزويد المغرب بالسلاح الذي كان في أمس الحاجة اليه لتعزيز القدرة العسكرية المغربية وجعلها قادرة على مواجهة مختلف التحديات ، غير أن هذه المفاوضات لم تحقق النتائج المرجوة منها ، ومع ذلك فقد مكنت هذه الزيارة الرسمية للسفير ابن عائشة بحضور العديد من التقنيين والمترجمين من زيارة المطبعة الملكية ودار السكة ومتحف اللوفر واكاديمية الرسم والنحث وقصر فرساي و حضور بعض العروض المسرحية وغير ذلك من الأماكن . كما سمحت له بأن يتصل بعدة شخصيات ، كان على رأسها ملك انجلترا السابق ” جيمس الثاني ” الذي اختار فرنسا منفى له بعد أن تنازل عن العرش عقب الثورة المجيدة في 1688 .
ابن عائشة قد سبق أثناء مقامه بباريس أن رأى الأميرة المسماة De condé وخطبها وهو ما لا نجد له اي اثر في الوثائق التي تؤرخ لهذه المرحلة ، وفي نفس الوقت هناك من يذكر أن ابن عائشة أعجب بجمال أخت الملك لويس الرابع عشر التي تدعى” ماري ان دي بوربون ” ، فاقترح على مولاي إسماعيل- بعد عودته من أحد أسفاره – أن يخطب هذه الأميرة، وذكر له محاسنها ومعرفتها بالموسيقى والادب ، وان الزواج منها سيكون اثباتا للسلم والصلح ويسهل عملية فداء الأسرى بين الجانبين ، فكلفه السلطان بخطبتها له لتكون زوجة له على مقتصى الشريعة الإسلامية، مع بقائها على دينها أن أرادت أن تكون كذلك – علما انه لا توجد اي وثيقة مغربية تؤكد هذه الخطبة – وهو ما أنكره المؤرخ عبد الرحمان بن زيدان ،تبعا لما ورد بمجلة دعوة الحق المغربية في عددها 146. رغم ان المصادر الفرنسية تذكر الكثير من تفاصيل هذه الخطبة التي كانت حديث الأندية والمجالس والصحف الباريسية، وعموما فإن هذه الخطبة لم تصادف القبول بسبب الاختلاف في الدين والعقائد.
عند عودته استقر بالرباط ، بعد أن جمع ثروة مادية مهمة جعلت خليفة المولى إسماعيل بمكناس ، يطمع فيه ويطلب منه قدرا كبيرا من ثروته المحصل عليها ، ولما امتنع عن ذلك ، نكل به وجلده ، ورغم ضغط زوجة ابن عائشة على زوجها ليعطي ماطلب منه حتى يتفادى التعذيب، فإن السفير المغربي رفض ذلك وظل يعاني من الألم الذي اجحظ عينيه وآذى جسمه ، وقد طلب ابن عائشة من الاب ” دومينيك بوزنو ” الذي كان بالمغرب سنة 1707 أن يتوسط له لدى السلطان . و وبسبب التعذيب بدأ لحمه يتعفن وينتن ، كما لاحظ الذين زاروه في آخر أيامه قبل أن يتوفى في سنة 1713 ، حسب ما ورد بمجلة دعوة الحق عدد 143 .
وخلاصة القول فإن عبد الله بن عائشة يبقى شخصية مميزة في تاريخ الدبلوماسية المغربية ، فهو ليس مجرد سفير ، بل كان قبطانا بحريا وقرصانا شجاعا ودبلوماسيا ماهرا ،يتكلم اللغات الأجنبية التالية: ( الاسبانية والانجليزية والفرنسية ) وقد عاصر فترة حاسمة من تاريخ المملكة المغربية، حيث كانت العلاقات مع القوى الأوربية – خاصة فرنسا وانجلترا – تشهد توثرات متزايدة. ويمكن أن نلخص إنجازاته في النقاط التالية :
1 تمثيل المملكة المغربية في العديد من المحافل الدولية ، واظهاره قويا للعالم الغربي في صورة حضارية مميزة ، قادرة على الحوار والتفاوض .
2 ساهم في تعزيز مكانة المغرب كقوة بحرية ودبلوماسية في المنطقة وبذلك يمكن اعتباره أحد رواد الدبلوماسية المغربية الحديثة ، حيث استخدم أساليب التفاوض والمناورة السياسية ، لتحقيق الاهداف الوطنية للبلاد .
3 ترك ارثا أدبيا مهما يتمثل في المذكرات والمراسلات التي توثق لتجاربه وحكمته وهو مايجعله شخصية أدبية ، بالإضافة إلى كونه شخصية تاريخية مميزة.
هامش للختم :
لقد كانت تجربة السفير ابن عائشة مصدر الهام للعديد من الكتاب والروائيين ، نذكر من بينهم الروائي ” كبير مصطفى عمي ” المقيم حاليا بفرنسا ، وهو الذي أضاف إلى المكتبة العربية اعمالا أدبية ذات قيمة عالية ، ومن أشهرها ” تاغاست ” و ” الجزائر البيضاء “و ” ابن عائشة ” ومن خلال هذه الأخيرة يحكي عن قصة حب جمعت بين القرصان المغربي واحدي أميرات لويس الرابع عشر ، وهي رواية تاريخية لشخصية مغربية خارقة للعادة ،
عين سفيرا بفرنسا والتقى بالأميرة ” ان ماري دوكانتي ” خلال حفلة أقيمت على شرفه ، حضرها العديد من النبلاء والحاشية والفنانيين ، ومن الفرضيات التي اوردها الروائي ” كبير عمي” أن السفير ابن عائشة وقع في حب الأميرة ، رغم غياب وجود أي مصادر تؤكد ذلك ولم يكتب روايته الا بعد عشرين سنة من اطلاعه على الحدث – كما صرح في حوار أجرته معه قناة France 24 ، برنامج ثقافة – ، معتمدا في كتابته على بعض الكتب التي تؤرخ لعمل القراصنة في سلا والرباط وعلى مذكرات بعض المعتقلين في عهد مولاي اسماعيل ، ومنطلقا من ( حدود التخيل والواقع ) الذي اسعفه في كتابة روايته تلك .