نزوات غويا مجموعة قصصية للاعلامي عبد الرحيم التوراني
نزوات غويا
دراسة تحليلية: كتبها الاستاذ لحسن احمامة
هناك بعض المجاميع القصصية التي قد لا تسترعي الانتباه رغم كونها تستحق القراءة لما تنطوي عليه من جدية ودربة في الصياغة سواء في مبناها ومعناها. ولعل عدم الاهتمام بها يؤول بالدرجة الأولى- من بين عدة أسباب أخرى- إلى غياب الدعاية لها إما من قبل المتتبعين للمشهد الإبداعي وإما أن مؤلفيها يشتغلون في صمت بعيدا عن الأضواء، همهم في المقام الأول هو الكتابة كفعل لإثبات الذات أو لممارسة حقهم في الوجود، ذلك أن الكتابة إنما هي إثبات للوجود قبل كل شيء. إن مثل هذه الكتابات الإبداعية بقدر ما تنزع إلى الاختلاف مع السائد، فإنها تجترح طرائق مغايرة في التعبير، متوسلة بذلك تقنيات ما بعد حداثية في صوغها. وهكذا يجد قارئ هذه النصوص نفسه في مواجهة أفق مختلف عما ألفه، أي انكسار أفق توقعاته، أفق ما تمثل في مرجعياته القرائية.
من بين هذه المجاميع القصصية، يطالعنا الإعلامي، والفنان التشكيلي، والقاص المغربي عبد الرحيم التوراني بمجموعته القصصية نزوات غويا، الصادرة عن دار رياض الريس (2018). وهي مجموعة قصص قصيرة يمكن القول إنها تؤسس لكتابة سردية تستلهم أحداثا واقعية محيلة إياها إلى نصوص تستكنه العمق السيكولوجي للذات من خلال شخصياتها التخييلية، ومن بينها اسم الكاتب، كاسم متخيل بالدرجة الأولى. ولعل تمرس الكاتب للعمل الإعلامي قد مكنه من اكتساب أسلوب خاص به جعله يتميز عن العديد من القصاصين المغاربة. وهو قبل هذا وذاك كاتب جريء منذ أن انخرط في العمل الإعلامي. من هنا لا يخفى على القارئ – على الأقل المتتبع لمقالاته- ملاحظة الاختلاف بين الكتابة الصحفية والكتابة الإبداعية عند هذا القاص على الرغم من حضور الجانب الإعلامي المتمثل في اختيار العناوين المثيرة من جهة وفي بعض الأحداث التي عرفها المغرب في فترات من تاريخه، خصوصا السياسي. ومن ثمة فالقاص لا يكتب القصة من أجل القصة بما هي إبداع سردي وحسب، وإنما القصة كوثيقة إبداعية – تاريخية النص، ونصية التاريخ بمفهوم التاريخاني الجديد كما صاغه لويس منتروز. ومن هنا فالقاص على وعي كامل بالسياقات التي أنتجت هذه النصوص التي لا تنزع إلى التقريرية بقدر ما تتكئ على تقنيات من قبيل التغريب (defamiliarization) والأليغوريا. وهو ما يضمن لها أدبيتها/ شعريتها بعيدا عن كل كتابة صحفية. فوظيفة الفن هي نزع صفة الاعتياد لجعل الموضوع يحيا من جديد، ويضطر القارئ إلى النظر إلى النص القصصي على ضوء نقدي جديد. أي أن هذه العملية تؤسس لعلاقة بين القارئ والنص من خلال استجلاء مضمرات هذا الأخير.
ولما كانت هذه النصوص، كما أسلفنا القول، في جلها إن لم نقل كلها، تستند على أحداث واقعية، فإن التحول من الفعلي إلى التخييلي، أو من الواقعي إلى الإبداعي، يرتكز بالأساس على تصور القاص لدور الإبداع في نقد الواقع في كل مظاهره- الأيديولوجي، والاجتماعي، والعقائدي. من هنا يبدو النص القصصي مستضمرا أبعادا دلالية تكشف عن عبثية هذا الواقع والسخرية المبثوثة داخل النصوص. ذلك أن شخصية/ شخصيات النصوص تنطوي على تعارض بين الفكر والممارسة. على سبيل المثال، تتأسس قصة “القمقوم”، على اللعب بالألفاظ وفق ما يرغب فيه الشيخ، الشخصية المركزية في القصة، ويقوم بتأويلها وفق غرائزه الجنسية: “كان الشيخ مضطجعا على بطنه، رافعا رجليه يلعب بهما، وبين يديه سبحة صغيرة، وهو من أوصى بغيابه لكل من يسأل عنه، مستثنيا بعض أعضاء قيادة التنظيم، والأخت أم قتادة منهم. (ص. 79). وهو بعل. تحيل اللفظة على الزوج الذي لم يعد ينام إلى جانب زوجته. إنها شخصية تعيش ازدواجية على مستوى الحوار: حواره السلطوي مع زوجته التي ترهلت رغم أنها أصغر منه سنا بعكس حواره مع أم قتادة: “لاحظت الزوجة تعمده الاختلاء وكلامه بصوت مهموس وناعم لم تتعود عليه”. ( ص. 80) ومن جهة ثانية اتخاذه مبدأ التقية ظاهريا لكن في العمق أكثر فسقا. هكذا يؤول الشيخ الألفاظ وفق شهواته وغرائزه: “القمقوم’ يذكرني بقيام الليل، و أصل الكلمة هو: قم يا إمام القوم، و قد جرى نحت الكلمة وتكثيفها لتصبح ‘قم قوم’ التي أدغمت في كلمة واحدة ‘قمقوم’” (ص. 83) هذا اللعب في الألفاظ تزيد في تأويله أم قتادة: “ظننت أن للكلمة صلة بعضوك المقمقم، النافر كالمنقار”. (ص. 84) هكذا، يتحول اسم المكان إلى حقل دلالي ذي إيحاءات جنسية: “- أفجر منك ما رأت عيناي” (ص. 85). غير أن كل ذلك يأتي في شكل حلم تراه أم قتادة، وبدهي أن الحلم من عمل اللاوعي في غياب رقابة الأنا الواعية، من حيث إن الحلم تمظهر لرغبات مكبوتة. وإذ تظل الورقة طافية فوق الماء، فذلك يعني أن الرغبة في اللقاء مازالت قائمة: “طفت وريقة صغيرة فوق الماء، وريقة مبللة عليها لفظة باهتة لكنها مقروءة، “القمقوم” وكل ما يحيل عليها.
تتأكد هزيمة الأخلاق الدينية أمام الغرائز في نص “هزيمة حارس المرمى”: “لم يستطع أن يطرد الخيال اللعين من رأسه” (ص. 106). حيث يتلاشى الاستغفار أمام الغريزة. هذا الصراع بين العقل والرغبة يفضي إلى انتصار الأخيرة: “كيف للشيطان أن يرجم نفسه؟” (ص. 107). ويتحول الحاج حسن من حارس مرمى إلى كرة قدم يتقاذفها العقل والرغبة، الجد واللعب. فشراء لعبة للأطفال، هو امتلاك للعبة، أي أنه يصير هو نفسه لعبة، وحراسة المرمى إنما هو الحرص على تفادي الهزيمة: “ظلت تطارده طوال أيام حجه” (ص. 107). ومن ثمة يتحول الفضاء المقدس إلى ساحة لعب ينهزم فيها في نهاية المطاف. وعندما يستلم منها بطاقة الزيارة، فذلك يعني بطاقة العودة إلى فضاء رغب فيه منذ البداية: “غابت سميرة وسط الزحام، ناثرة قهقهتها الماجنة في المكان…” (ص. 109) من هنا تماثل سميرة بائع اللعب عندما تقول “لك بنصف السعر”، ويقول له البائع: “- هل أعجبتك؟ يا حاج، هي لك بنصف السعر؟” (ص. 109) وإذ يتساوى السعران في نفس العرض، فذلك إنما يعني تشييء المرأة وامتلاكها كلعبة لإشباع الرغبات: “غابت تاركة الحاج فاغرا فمه، يتحسر على حجه الذي لم يؤاخذه الشك في أنه ضاع منه وأصبح باطلا”. (ص. 109)
على أن الغريزة وإن كانت هي المنتصرة في النهاية، فقد تكون قاتلة ما لم ترتبط بخصوصياتها. في قصة “رائحة القتل والجنون”، تصبح الرائحة دعوة للجنس، وتستمر رغم تغيير الأمكنة. وبسببها يتحول الجسد الفاقد للرغبة إلى ما يشبه جثة جيفة: “اكتشفت الزوجة أن رائحة الجيفة تخرج من فمه وعينيه، ورأسه هو. قفزت مولولة من الفراش، استيقظ مفزوعا، تبعها، أغلق فمها…”. (ص. 45). وفي محاولة لعكس مسار الغريزة الطبيعية، يقضي الزوج نحبه، أي يصير جثة بالفعل. وهكذا، من المستحيل أن يعود الزمن إلى الوراء، وما أفسده الدهر لا يمكن أن يصلحه العطار.
تتأكد الرغبة الجنسية أيضا في “المشنوق يشرب القهوة في السقف” من خلال بعض الدوال. فإذا كان الحذاء يرمز من بين ما يرمز إلى القوة، فإن قطعة الحبل ترمز إلى العضو التناسلي الذكري: “لما أذن لها بمغادرة المصحة إلى بيتها، كانت قطعة صغيرة من الحبل على عتبة غرفة النوم، وهاتف الجثة على الطاولة الصغيرة”. (ص. 119). وإذا كان الراوي أو المؤلف الضمني هو من يسرد الحكاية، فإن في “البيروقراطي والأرستقراطية” ينتفي الراوي، فاسحا المجال لحوار الشخصيتين الداخلي. كل شخصية تحاور ذاتها انطلاقا من المظهر الخارجي لكل واحد منهما. تصبح الأحكام المسبقة في غياب حوار مباشر عائقا أمام تحقيق الرغبة ذات الدافع جنسي: “ركزت هي عينيها على نافذة القطار، راعي غنم يقف ملوحا بعصاه للقطار”. (ص. 125) أليست العصا هنا معادلا لقطعة الحبل؟ إنها بالفعل كذلك: “يا لك من غبي! الحسناء عيناها قالتا كل شيء، وأرادتني”. ( ص. 127)
ومثل الشيخ في قصة “القمقوم” تتمظهر ثانية ثيمة ازدواجية القول والفعل في قصة “القبر الأخير”، حيث الفقيه هو المالك لحقيقة كره السيد بوشعيب الذي يرفض التنازل عن قبره لجثة علال: “نطق الفقيه: – لا أحد يعرف منكم الحقيقة، ولكني لا أستطيع البوح بها. رفقا بالمرحوم، هو الآن يتعذب في الآخرة”. (ص.135) لكن من يكشف عن الحقيقة هو “أقرب الأصدقاء لعلال: – هو نفس العذاب الذي ينتظرك السي الفقيه، قم وتب لله”. (ص. 135) فالفقيه، مثل الشيخ في ممارسته لمبدأ التقية، يقوم بما يتعارض مع دوره كممثل للقيم الدينية: “لما مر من أمام المقهى ولد السي بوشعيب المخنث فهم الجميع”. (ص. 135)
تتواصل موضوعة الرغبة الجنسية في “مدونة الغيلم”. وهي حكاية أليغورية، إذ أن ما يهيمن فيها هو التغريب بفعل شخصياتها الحيوانية، غيلم وسلحفاة وتمساح. ولعل تغيير القشرة دالة على تغيير المواقف عندما يتملص الغيلم من يراوغ للتخلص من مسؤوليته، ويلقي باللائمة على السلحفاة: “أنت السبب فيما نحن فيه الآن. أنا لم أطالب منك النزول معي في الماء. جلبتك لتحرسي وتعملي على تحذيري لدى مهاجمة التمساح لنا” (ص. 55). يصبح الإغواء الجنسي السلاح الوحيد الذي تستعمله السلحفاة لنجاتهما، أي أن الإغواء يضاهي أو يتغلب على القوة الجسدية المتمثلة في التمساح: “- ذاهبة للإيقاع بالتمساح وإغرائه لإلهائه حتى تهرب أنت”. (ص. 57). غير أن الذي يضحي من أجل الآخرين، يصبح ضحية لهم، والذي يفوز أو ينتصر في النهاية هو الانتهازي: “خرج الغيلم من سجنه، وراح ينسب إليه بطولة هزم التمساح”. (ص. 57). وإذا كانت الغيلم يرمز من بين ما يرمز إلى الحكمة، فإن النص يقلب كل ذلك بشكل ساخر بحيث أن من يتظاهر بالحكمة والتروي إنما هو في الحقيقة يصدر عن فعل وصولي، مغيرا بذلك الحقيقة: “أعاد الملك الغيلم كتابة التاريخ من جديد، وأصدر مدونة تقدمية تضطهد إناث المملكة”. (ص. 57). فكل الطرق تؤدي إلى الانتصار، ومن يكتب التاريخ هو المنتصر في النهاية.
هذه الانتهازية تتخذ مظهرا آخر في قصة “الميت الأبكم” إذ من يستفيد من الأبكم الذي يموت تحت سياط التعذيب دون أن يوارى في قبره مع شاهدته هو الرجل المستعجل الذي يظهر في التلفزيون بعد أن “صار مسؤولا كبيرا في الحكومة”. كما أن تحويل المكان إلى محل لبيع الأكفان دال على البياض/ الفراغ في مقابل المكتوب باعتباره سلطة. وإذا كانت الشاهدة رمزا للوجود، فالدفن رمز للعدم والصمت: “قررت أن أتعلم لغة البكم: أن أسكت” (ص. 17). ولما كان الصمت مقابلا للكلام، فهذا الأخير يتجسد من خلال علامات مرسومة، أي أنه يصير لغة مكتوبة لها سلطتها وفاعليتها، ولعل هذا ما يدفع الجلاد في نص “المديح السفلي” إلى ابتزاز ضحيته لكتابة قصيدة مدح، ومن ثمة يحوله من حيوان ينبح ويعوي إلى إنسان كاتب: “لقد كنت غير قادر إلا على النباح والعواء”. (ص. 19) فتجريد الذات من آدميتها بسبب مواقفها – مواقف تتعارض مع المواقف الانتهازية- يقابلها استعادتها لهذه الآدمية عند تغيير مبادئها. هكذا، يصبح الفن خطابا خاضعا لأيديولوجية السلطة وفق شروطها واستراتيجياتها. وإذ يموت الكاتب منتحرا، في قصة “الذباب البليد”، حسب ما تجد الخادمة، فلأن البحث عن أبطال حقيقيين، فعل عبثي: “سيقرأ المحقق بخط كتب بيد مرتعشة عبارة: “غاب الأبطال الحقيقيون واختفوا”. (ص. 102). من ثمة يعادل موت الكاتب موت الكتابة المضادة في عالم تنتفي فيه القيم البطولية غير الخاضعة لشروط السلطة وإوالياتها. أي أن الكاتب نفسه بطل إشكالي. إذ مثل انعدام وجود دار نشر تحمل اسم “دار الذبابة المضيئة”، ثمة انعدام وجود الكتاب الذي يبحث عنه الراوي في قصة “بوحمارة في درب مولاي الشريف”.
وإذا كانت هذه النصوص القصصية تستضمر الحدث الواقعي، فإنها تحول ذلك إلى المجال التخييلي بالاعتماد على تقنيات – كما سلف القول- ليس بغرض إخفاء الحدث الحقيقي أو التكتم عليه وحسب، وإنما أيضا لتأكيد أدبيتها/ شعريتها. هذا الاستبدال للواقعي إلى تخييلي يسمح بتوسيع تعدد الدلالات لكل نص، ويدفع القارئ إلى الانخراط في أحداث النص، بالمشاركة فيها ليس باعتباره بنية نصية، ولكن بوصفه عنصرا فاعلا في عملية التلقي والتأويل وفق منظوره الخاص. وإذا كانت هذه التقنيات تشكل أس إبداعية هذه النصوص، فلأن القاص مدرك للتمييز الحاصل بين الواقعي والتخييلي. ذلك أن الواقعي يعتمد على الخارجي، فيما يكتفي التخييل بإظهار ما يحاورنا به.
يمكن القول إذن بأن “نزوات غويا” مجموعة قصصية مغايرة ليس من خلال موضوعاتها وحسب، وإنما هي أيضا كتابة فرضت محكياتها تقنيات لتمرير خطاباتها وفق استراتيجية محكمة، وتصور قبلي. ذلك أن كل شكل جديد في الكتابة الإبداعية يستلزم صيغا مغايرة للقول، كما أنه يفترض قراءة واعية بخصوصية هذا الشكل. وإذا كان القاص في هذه المجموعة يتبنى طرائق جديدة في الحكي، فلأن السياق العام الذي أنتج هذه النصوص، إنما هو سياق تحكمه عبثية الواقع، من خلال تناقضات تعيشها شخصيات تبدو لنا مجالا لسخرية لاذعة، أو من خلال مواقف ومبادئ تؤمن بها شخصيات أخرى، مجلية ذاتها كشخصيات إشكالية في عالم متفسخ يعيش ازدواجية صارخة. ولعل ما يميزها فوق كل ذلك هو النظر إليها باعتبارها لوحات تشكيلية يميزها حد الغضب – تحيل لفظة نزوة/ نزوات في بعض معانيها على حدة الغضب، ومن جهة أخرى الإحالة على فرانشيسكو غويا، الفنان التشكيلي. (عن الملحق الثقافي لصحيفة “العلم” المغربية)
عبد الرحيم التوراني، نزوات غويا، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2018