التطريزة 14:الجزء االثالث
نساء ناضلن من أجل التحرير… والحرية
…شاذلية بوزقرو: لانرهب شيئا ولا نخشى أي عقاب
…مبروكة القاسمي: امرأة ترملت فأخشوشنت
يواصل الأستاذ المختار عنقا الإدريسي النبش في تاريخ المقاومة النسائية المغاربية، وهي التي لعبت دورا كبيرا في طرد المستعمر، إلى جانب أخيها الرجل (الأزواج – الأبناء- الإخوة- الأعمام والأخوال – وأبناء القبيلة أو العشيرة….) ، كل بوسيلتها. الكتابة عن هذه التجارب هي رد اعتبار أولا وقبل كل شيء لتلك النساء، ولشجاعتهن، ولتضحياتهن الجسام، والتي أدين ثمن حبهن للوطن مقابل التعذيب، والتنكيل والاغتصاب، وبتر أعضاءهن، والقتل والحكم بالاعدام. هنا تتمة التطريزة 14 في جزءها الأخير الذي تناول المقاومة النسائية التونسية، متابعة وقراءة ممتعة
:أولا : شاذلية بوزقرو
رأت النور في مدينة المنستير عام 1917 من عائلة متعلمة ذات أصول تركية وقد سبق والدها أن عمل مع النظام الملكي الذي كان يحكم البلاد أنذاك . وقد جاء في موسوعة النساء التونسيات أن الوعي السياسي لها قد تشكل مبكرا تحت تأثير خالها المحامي الحبيب بورقيبة الذي كان يزور العائلة باستمرار ، وخلال زياراته تلك كان حديثه مركزا على فرنسا وظلمها واستبدادها وضرورة تخليص تونس من عبء استعمارها . وبعد ان تشكل الحزب الدستوري الجديد في 1934 تم تكليفها بالعديد من المهام السياسية في المنستير والساحل والعاصمة وقد تركز عملها في الحزب على الدعاية في الأوساط النسائية وذلك قبل أن تنخرط في أول جمعية نسائية تونسية وهي الإتحاد النسائي الإعلامي الذي يعود الفضل في تأسيسه إلى بشيرة بن. مراد – التي سبق أن تعرضنا لها في الجزء الأول من هذه التطريزة – وانخرطت في صفوف الحركة الوطنية مع بداية سنة 1934، وهو تاريخ القاء القبض على خالها الحبيب بورقيبة . ومع اندلاع مظاهرات التاسع من أبريل ستشارك بوزقرو في تأطير العمل النسائي لمساندة كل المتظاهرين ، وتسعى في كل لحظة إلى التشويش على السلطات الفرنسية واقلاق راحتها ، فكانت مثلا حين تكون مارة في الطريق تطلب من ولدها المناداة بحياة بورقيبة ، وفي أوج غضبها ضد المستعمر كانت تردد ما معناه : ان تعدمو بورقيبة فسيظهر لكم كم من بورقيبة فكل الشعب التونسي بورقيبة فهل تنوون إعدام شعب بأسره
وتقول في شهادتها: كنا في ذلك الوقت لانرهب شيئا ولا نخشى أي عقاب ، فقد امنا أن من مات سيموت شهيدا ، ومن عاش يعيش سعيدا . وفي مقابل ذلك كان المستعمر لايدخر جهدا في إدخال الرعب في قلوبنا ، فيعمد مرة الى جلب رجال موقوفين سالت دماؤهم بسبب الضرب والتعذيب لتخويفنا، فكان ردي
هو الإشادة بصمودهم قائلة للشرطة الاستعمارية أن دماء مواطنييكم هي التي حررت فرنسا من الإحتلال الألماني ، وها أنتم تفعلون اليوم معنا مافعله الألمان معكم ، بل أنتم أكثر نذالة منهم
وفي وقت لاحق سيتم اعتقال شاذلية بوزقرو، صحبة العديد من النساء وتتذكر شاذلية يوم اعتقالها مختلف المعاناة والمحن، فقد قام أحد الحراس الفرنسيين بمضايقتها ورفيقاتها ومعاكستهن ، وحاول النيل منهن فشكته إلى إدارة السجن، غير أنها لم تجدالآذان الصاغية فعمدت إلى الإضراب عن الطعام مع مجموعتها ، فكانت هذه الحادثة فرصة سانحة لتضامن المقاومين واعلان التحرك والعصيان ، وبعد إطلاق سراحها ستشارك في مظاهرات 15 فبراير 1952 أمام الإقامة العامة ويوم 8 مارس 1952 بمناسبة الإحتفال باليوم العالمي للمرأة
وفي هذا الصدد تقول جريدة الصباح التونسية في عددها الصادر بتاريخ 15 يناير1952
أنه تم نقل المعتقلات إلى قضوية الصلح حيث قام قاضي التحقيق باستنطاقهن ، وبعدها أحيل جميع المتهمين وعددهم أربعة عشر في حالة إيقاف إلى محكمة بنزرت ست موقوفين ذكورا من مدينة باجة وثماني موقوفات قادمات من العاصمة منهن شاذلية بوزقرو ، وقد صدر الحكم فيها ابتدائيا بعدم سماع الدعوى وترك السبيل بناء على أن المحكمة وان ثبتت لديها مشاركة المتهمين في المظاهرة ، إلا أن الحجة لم تقم لديها على أنهم ساهموا جميعا في تنظيمها
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن مظاهرة 15 جانفي 1952 ببجاية عادة ماتعرف بالمظاهرة النسائية ، ليس لأنها اقتصرت على النساء فقط ، وإنما لتميزها بالحضور النسائي المكثف . وحسب المراقب الفرنسي فلوري فإن عددهن كان لا يقل عن مائة امرأة، وهو الأمر الذي يؤكد على الدور المهم الذي قامت به النساء في حركة التحرر الوطني ليس بالدعاية والتعبئة والتحريض فقط ، وإنما أيضا بالانخراط الميداني في المقاومة إقداما وتضحية وريادة
ثانيا : مبروكة القاسمي
في الشمال الغربي ، وتحديدا في منطقة نفزة من محافظة باجة ، ولدت مبروكة القاسمي، وفي سنة 1925 تزوجت ، وكان حفل زفافها فخما ، ومع اشتداد وطاة الحرب الكونية الثانية ، صار القتال عنيفا بين الانجليز والالمان ، تقول في إحدى شهادتها : خرجنا من منازلنا واعتصمنا بالجبال ، وبعد ثلاثة أشهر نزل زوجي للقرية وجد البلد خرابا منتشرا حيث فقد كل أملاكه ( مخزن ومقهى ومنازل ) من جراء القصف ، فأصيب بالذهول وارتفعت درجة حرارته بفعل الحمى التي أصابته وبقي على هذه الحال سبعة أيام ثم توفاه الأجل المحتوم . فاضطرت هذه المرأة المناضلة الى حلق شعرها والتوشح بالسواد مرددة قولتها الشهيرة : باش مايطمع في حد ويقول عزوزة
وفي شهادتها تقول : أنها كانت محط أنظار جنود المستعمر الفرنسي لنشاطها الكثيف ، فكانوا يقتحمون منزلها بين الفينة والأخرى بحثا عن الأسلحة. وتضيف قائلة : ذات يوم زارني محمد الكافي مع جماعة من باجة ، وأخبروني بقدوم بورقيبة إلى باجة وعزمه على الاتصال بكل الضواحي المجاورة فرحبت بقدومه ، إلا أن الخليفة اتصل بي وحذرني من الالتقاء به وتقديم الاعانات المادية له ، متعللا بأن الأموال التي في حوزتي هي أموال يتامى ، فأجبته قائلة: أنا ليس لي شيئا أخاف عليه الزوال، فلست خليفة ليعزلوني ، أو شيخ تراب ليفتكوا مني امتيازاتي، فإن ربحت المعركة ربح الناس جميعا، وان خسرت خسرنا كلنا . ومن هنا بدأت رحلتها الحقيقية مع معركة التحرير الوطني . وفي إطار الاستعداد للقاء ببورقيبة ، تقول : تولى ابني جلب الكراسي ونفس الشيء قام به أولاد أخي محمد ، وقد كان أهالي نفزة خايفين من هذا الاجتماع . فطبخنا الطعام وذبحنا الذبائح وقمنا بواجب الضيافة وعندما جاء بورقيبة اجتمع بالناس في المتجر ، وكان بصحبته المنجي سليم وعلي البهلوان والحبيب المنكبي و باقي الجماعة ، وقد سأل عني وشكرني وطلب مني الثبات على المبدإ
وكنت أعتقد أن ولدي قد قتل في مظاهرة باجة لكني علمت بعد ذلك انه كان مسجونا ، وعندما خرجت في مظاهرة دار القايد وجدته ورفاقه ملقى على أكوام من التبن في الإسطبل ، ولم يرجعوه إلى نفزة إلا بعد خمسة عشر يوما وكان في حالة سيئة جدا ، من جراء التعذيب بواسطة التيار الكهربائي وعدم تناول الطعام و شرب الماء لعدة أيام ، فبادر أخوه بجلب طبيب ليفحصه ويشرف على علاجه وعندما جاؤوا للتفتيش عثروا على منجل فقالوا : ان هذه المرأة تملك السلاح . وعندما حكم على ابني جبت القرية صارخة في الناس لقد حكم على ولدي بالإعدام فأين أنتم ألا تحركون ساكنا ؟ فقالوا : ما العمل؟ واذا سجنا من يراعي أولادنا ؟ قلت لهم : ها أنذي أتكفل بهم مادمت حية ولم أسجن
وفي حديثها عن المشاركة في عملية قطع أسلاك الهاتف بمحطة القطار ، تقول : لقد أعطيت سعدا وسالما منشارين ومقصا لقطع أسلاك الهاتف في محطة القطار ، مما جعل الجندرمة يأتون لبحثي قائلين من فعل هذا ؟ قلت من سيقوم بذلك والأولاد في السجن .انا التي قمت بذلك؟ وتستمر في حكيها عن الفلاقة الذين كانوا مختبئين في بيتها قبل أن يلتحقوا بجبل برقو ، بعد أن مات قائدهم سالم ولم يبق منهم إلا ثمانية أنفار . وسيصبحون فيما بعد من ثوار محجوب بن علي ، الذي كان يجلب المرضى خفية للدار ، فقرر أخو زوجي عدم المجيء إلى منزلنا بعد أن شكل المكان خطرا عليه . وقد قال لي : انت امرأة ترملت فأخشوشنت ، اني أراها تقتل أولاد أخي وكان يبكي وينوح ؛ انهم أساس البيت . فماذا ستفعلين الآن وهم في السجن ؟ فاجبته : انا مسترجلة أحمل صفات الرجولة ، ومن زمان عودني زوجي على عدم التذلل أو ليس لي الحق ؟ أنا صلبة صحيح ، ولكني أحب الناس عند الاجتماعات . وكان الفلاقة يأتون دائما للغذاء والعشاء عندي ، ويأتي كل اعضاء الدائرة معهم ، وعندما يحل مسؤول كبير من تونس فإنهم يعقدون اجتماعا خاصا في الليل سواء في البيت أو في الدكان وكنت أحضر معهم ، رغم انشغالي بالطبخ واسمعهم يتحادثون ” تمسكوا بالمبدإ … إنه هكذا إن بورقيبة … إنك على علم ” ولم يكن في حديثهم مكان للمرأة قط ، ولم يتحدثوا عنها في اجتماعاتهم ، وكان الرجال فقط هم الذين تعطى لهم البطاقات ويدلون بأصواتهم في الانتخابات وبالتالي فلا وجود للنساء ، فلم لا يعترفون بقدراتهن ؟ وكأن مهمتنا تنحصر في الطبخ والزغردة بكل حرارة في انتظار الاستقلال
:الخلاصات
ونحن نتتبع دور المرأة التونسية في مسيرة التحرر الوطني ، اتضح لنا أن دورها لم يقتصر على الجانب العسكري وحمل السلاح فحسب ، بل تعدى ذلك للقيام بالعديد من المساهمات الإنسانية كايواء المجاهدين وإعداد الطعام لهم وغسل ملابسهم ، كما تكفلت بإعداد الأدوية لمعالجتهم ، وحولن منازلن إلى أماكن آمنة لايواء المجاهدين وعقد اجتماعاتهم
كان دعمهن كبيرا في تمويل ثورة 1952 بالمال والمؤونة ، ومنهن من كانت تعمد الى تاليف الأغاني التشجيعية لتحسيس الشعب بالتبرع بالدم لإنقاذ ضحايا القمع الاستعماري ، وفي هذا الإطار نجد أن السيدة زكية باي عمدت إلى تكوين لجنة الإغاثة لمساعدة كل المتضررين ، وتقول: أتذكر أني كنت أغني في تلك الحفلات ، وحددنا معلوم الدخول بعشرة دنانير وقد تولت مهمة أمانة المال السيدة اسكندراني ، وكانت حريصة على زيادة المداخيل التي كان جزء منها يصرف في إطعام المحتاجين ، لقد كنا نطعم يوميا مئات الإخوة ، من جربة إلى تونس. وفي باردو كان الملعب البلدي يعج يوميا باعداد غفيرة من ضحايا الفقر والمجاعة
ومع كل التضحيات الجسام التي كانت تقوم بها المرأة التونسية ، نجد أن التاريخ أبى الا أن يغض الطرف عن نضالاتها ، ويٌعْلِي في مقابل ذلك من قيمة نضال الرجل نعم لقد ساهم الرجال في تحرير تونس من الاستعمار وهو الأمر الذي لا ولن يلغي الحضور النسائي في المسيرة الكفاحية أو يغض الطرف عنه. ففي احدى زياراتي المهنية لتونس خلال تسعينيات القرن الماضي ، في اطار ما كان يعرف بخطة توحيد مناهج مادة التاريخ بين دول المغرب العربي ، أثار انتباهي أن كل الأرصفة والأنهج – جمع نهج – بمدينة تونس ، وكتب التاريخ المقررة والبرامج الدراسية تحمل أسماء المناضلين من الرجال، في وقت تم إهمال أسماء نساء أريقت دماؤهن دفاعا عن الوطن وحبافيه للأسف
،وعن حضور المرأة التونسية المقاومة في المجال الفني ، نخلص الى أن السينما التونسية كانت مقصرة في التعرض لحركيتها ، ان لم نقل أنها ألغتها من انتاجاتها وقد كان أولى أن تؤرخ لنساء عانين من أبشع أنواع التعذيب كالاغتصاب والسجن، وحتى القتل وهو ما يؤسف له ، وقد تعود الاسباب الكامنة وراء هذا الغياب – أو الحضور الباهت – إلى استعمار من نوع آخر ، هو الاستعمار الاقتصادي وليس السياسي و إلى الحصار المعنوي والإعلامي
فيما يتعلق بالفن المسرحي فنجد أن ( البوابة 52 ) من إنتاج مسرح الناس : نص ل “دنيا مناصرية” وإخراج: ” دليلة المفتاحي” ، قد أعاد الاعتبار للمقاومة النسائية ، ومما جاء في جريدة الصباح 24 التونسية ليوم 8 مارس 2024 : لقد اختارت المخرجة في رؤيتها الجمالية وطرحها الفكري لهذا العمل ، بقاء بطلاتها على أرض تونس يعاتبن وطنا لا يعترف بنضالاتهن . فشخصيات هذه البوابة لسن نساء عاديات ، بل هن نساء مناضلات زمن الاستعمار . وقد اختارت الكاتبة والمخرجة في هذه التجربة الفنية ، نماذج نساء تونسيات من زمن الاستعمار ، جمع بينهن حب الوطن والانتماء الثقافي والاجتماعي المختلف، وهن عديدات كحسنية رمضان، وفاطمة بنت علي النيفر، وزكية بنت محمد لمين ، ومبروكة القاسمي التي ضحت بأبناءها لأجل تونس ، ولم تلق سوى الجحود والتهميش ومحي أثرها من ورقات التاريخ النضالي