سمفونية فيفالدي” مُتَخَيَّلٌُ داخل مُتَخَيَّلٍ : عبد العالي أناني”
“سمفونية فيفالدي”
تَخَيَّلٌُ داخل مُتَخَيَّلٍ
صدرت مؤخرا رواية موسومة ب” سمفونية فيفالدي ” للأديب المغربي لحسن أحمامة. هذا المنتوج الأدبي الذي يقدمه لنا الكاتب في حلة باذخة، مستقلة بذاتها، باعتبارها أفقا لانفتاح النص على عدد الاحتمالات، يجرنا إلى التساؤل لمعرفة من هو الكاتب لحسن أحمامة
راكم منتج المتخيل الروائي تجربة كبيرة من خلال اشتغاله في ميدان الترجمة النظرية لما يزيد عن ربع قرن، أسفرت عن أزيد من 16 كتابا لأكبر المفكرين من بينها: ـ التخييل القصصي: شعرية الرواية لريمون شلوميت كنعان/ اللسانيات والرواية لروجر فاولر/ شعرية الفضاء الروائي لجوزيف كيسنز / ما فوق البنيوية: فلسفة البنيوية و ما بعدها لريتشرد هارلند / شعرية الرواية لفانوس جوف / أثر الشخصية في الرواية لفانسون جوف / القزم الراقص وقصص أخرى لهاروكي موراكي / التاريخانية والأدب / التخييل العلمي: تعليمه ونقده لباتريك باريندر وكتابه /نظرية ما بعد الكولونيالية ، مدخل نقدي لليلا غاندي
كان النقد الأدبي، تبعا لذلك، هو المجال المعرفي الذي عليه أن يبرع فيه ويؤكد أهمية ما يترجمه، من خلال إخضاع نصوص من مختلف الأجناس الأدبية لتلك المناهج الجديدة التي عبر بها من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف . وهذا ما يؤكده كتابه الموسوم ب ” التاريخانية الجديدة والأدب”، ويبرز انفتاحه على الموروث العالمي والتطورات الغربية الثقافية، وهذا ما يجليه أيضا كتابه الأخير نظرية ما بعد الكولونيالية
هذا الزخم الإبداعي المعرفي، وهذا التطور على مستوى الترجمة النظرية كان خليقا بأن يجعل المبدع لحسن أحمامة يرمي بنفسه إلى بحر آخر ونوع جديد من الكتابة، إلى السرد ليقدم نفسه كروائي، بعدما كان يقارع نصوصا مختلفة، تنتمي لمختلف الأجناس الأدبية، بتلك الأدوات النقدية التي اكتسبها طيلة تجربته الماضية. فكانت أول بكورة يفاجئ بها الجميع في مجال الإبداع السردي، رواية موسومة بذاكرة المرايا
تتميز رواية ” سمفونية فيفالدي ” بحداثتها، باعتبارها لا تتقيد بتقنيات الرواية الكلاسيكية، و بوضوحها و عفويتها، و التدحرج الانسيابي للمتخيل الحكائي، وجرأتها في التعبير عن المواقف التي انبرت لها وطرحتها للنقاش. وقائعها تدور حول متقاعد وحيد هاجر أبناؤه للعمل والعيش في الديار الكندية، هلكت زوجته، فوجد في القراءة ذاته خاصة الرواية، التي عشقها. يجلو ذلك بالمقطع التالي:” علمتني الرواية أن الذات البشرية معقدة بشكل رهيب.كل فرد عالم بذاته. صحيح أنها متخيل ولكنها تصدر عن بشر من لحم ودم، وعن تجربة إنسانية . لا شيء يغري في الروايات قدر إغراء شخصياتها. ومع ذلك فقد منحتني الروايات فرصة للتجول في العديد من المدن العالمية، في أزقتها و حاراتها، ومآثرها، وثقافاتها.“ص32
بطل الرواية يحلم بكتابة رواية، لكنها أصرت على الممانعة، فبدت له كما السراب في طريق صحراوي وقت حمارّة القيظ. يعتبر حياتنا اليومية عبارة عن أدوار نؤديها على المسرح، و محيطنا المادي مجالا للتمثيل ولا نتخفف من التصنع إلا حين نعود لبيوتنا، لأننا فيها نطلق العنان لذواتنا. بدخول الخادمة فاطنة ، يعتاد عيها ويدخل معها في علاقة أعادت لجسده الهرم الطاقة، و التوازن العاطفي، ومكنته من الاستمرار في كتابة رواية. اختار لها ثلاثة أزواج يجمع بينهم الحضور والغياب، والتمزق العاطفي، وأحداث تتشابه وتختلف باختلاف الشخصيات والاهتمامات. فشكلوا بالإضافة إلى قصته هو والخادمة الفصول الأربعة التي أوحت بالعنوان:” سمفونية فيفالدي “
ينطلق السرد الروائي كنهر يشق طريقه إلى المصب معتمدا على طاقة ذاتية تحركه بسرعات مختلقة، وفق موازين ابتكرها المنتج لتضمن تدفقه بسلاسة، ولينهمر حسب المواقف والأحداث التي تمتد في الفضاء الروائي طولا وعرضا. و ليتسارع الصبيب أضاف إلى النهر روافد وشرايين فرعية تُفرغ فيه حمولات تختلف نوعا وشكلا. المتقاعد وما يمثله ويرمز إليه شكل النهر المنهمر، وتلك الصراعات الثنائية للأزواج شكلت الروافد التي تغدي السرد بتفاعلاتها وصراعاتها وتداعياتها و ما يقصونه من حكايات تخصهم أو تتحدث عن غيرهم. تلك التقنيات الفنية مدت السرد بجمالية خلقت عنصر التشويق. وتحكمت في سرعة جريانه نحو المصب. غير أن الإضافات لم يقصد بها إلا إبراز الاضطراب العاطفي و التناقض الاجتماعي الذي أفرزته توليفة اجتماعية تداخلت في تركيبتها عوامل متعددة، أثرتها التغيرات الحضارية، خاصة مع انفجار وسائل التواصل الاجتماعي، حيث لم يعد الاسم الحقيقي أو المظهر أساسيين، وصارت الصورة الرمزية هي الهوية مما يسمح للفرد بالتعبير عما لا يستطيع التعبير عنه بهويته الحقيقية، كما يوضح ذلك الكاتب بالصفحة 88.
يندفع المتخيل الروائي خلال جريان الحكي بانصباب يكاد يكون عفويا تلقائيا لكن، برقابة تنزع إلى تعديل الحكي ليبدو متجانسا ومنسجما كما أراد المنتج أن يراه متجسدا على الورق، ثم ينطلق بتجليات تختلف باختلاف المشاهد التي تتعدد داخل الفضاء المتخيل. بتفكير مستنير يربط الواقع بوقائع المتخيل الحكائي ليبدو متناغما خاليا من كل الشوائب التي يمكن أن تبخس من قيمته الفنية.
“ماذا تبقى من هذا العمر الذي طويت عقوده طي المسافات وسلختها من عمري” ؟ بهذا السؤال الوجودي تنطلق رواية ” سمفونية فيفالدي ” بسرد الراوي للمحكي من غير مقدمات، و كأن للراوي أو السارد علاقة حميمية مع القارئ، الذي من دون شك استحضره المؤلف الضمني في ذهنه أثناء الشروع بالكتابة، رفع الكلفة بينهما، و انطلق بعفوية مقصودة تجعل القارئ المفترض يجد نفسه غارقا في سرد من الأحداث و الوقائع. انطلق السرد بسلاسة و وضوح و يتقدم في إطار متماسك، يرسم الأماكن و الأحداث ببراعة ودقة ، يكسره الحوار بين الفينة والأخرى، فاتحا بذلك المجال ليبوح النص بأسرار بشكل طوعي، أو ضمني حسب نوعية الخطاب الذي يتوخى إيصاله للمتلقي المفترض. يتسع أيضا لتعدد الوحدات الدلالية، و لإعطاء مساحة كبيرة كي تجلو الشخصيات نفسها بكل أريحية، و بتجليات مختلفة، عبر احتلال فضاء الرواية مكانيا و زمانيا، مع الاعتماد أيضا على التصوير الدقيق كفيلم سينمائي، يعرض اليومي ويصف تلك الجزئيات التي لها دلالات وإيحاءات وتبرز قلقا وجوديا امتد من المنبع إلى المصب.
المكان والزمان حاضران على امتداد الفضاء الروائي، لكن الكاتب اعتمد عليهما بشكل ثانوي لإعطاء الرواية جسدا متماسكا، بأبعاد تتمدد وتتقلص حسب الأحداث والتوترات النفسية للشخصيات. تتقلص حين تقتصر على أمكنة وأزمنة تستثير الذاكرة لاستحضار لحظات ألم أو فرح، وتتمدد حين يثار اليومي بين الماضي والحاضر والمستقبل، وحين يسمح للخيال بالتحليق ورسم المتخيل.
ما يثير الانتباه في هذه الرواية ويفاجئ القارئ، هو وفرة المعلومات بشكل كبير داخل المنجز الأدبي بشكل يوحي بعلو كعب. فقد اعتمد في برمجته للنص على تركيبات بنائية ومعجمية وجمالية وفكرية تنفتح على الموروث الثقافي العالمي، فلقد أحال على: كبار الفلاسفة والمفكرين والمبدعين والممثلين، نذكر منهم: الحلاج، تميم بن مقبل، زراديتش، جبران خليل جبران، الشاعر بول إيلوار، الملك لير، برنارد شو، وليم شكسبير، بول غوغان، بلزاك، رامبو ، بودلير، مالارميه، ليوناردو دافنشي، تشارلي تشابلن…، كما يحيل على روايات عالمية. أمبرتو إكو وروايته “اسم الوردة”، كنزي مراد وروايتها “من طرف الأميرة الراحلة”، باتريك سوسيكيند وروايته “العطر”، توماس مان وروايته “الجبل السحري”، وعلى دول وعواصمها و ثقافاتها المتعددة … . يؤكد الكاتب ما قيل بالصفحة 33 ” إن الرواية التي لا تقدم معرفة غير جديرة بالقراءة. فالنص الروائي لم يعد همه السرد، وطبيعة تشكله، وبنياته. النص الروائي الحالي عكس ذلك. إنه حاضن للعلوم والمعارف”
ونتيجة لذلك جاءت تضم نفحة فلسفية حين اعتبر أن الفلسفة بالصفحة 56 فكر عقلاني تساؤلي نقدي ينشد العام و المجرد. هو فكر مضاد للفكر الأسطوري الخرافي. إنه فكر منشغل بالأسئلة الكبرى مثل الحق والحرية والموت. والرواية وليدة عصر التنوير. ومن خلالها مرر الفلاسفة العديد من القضايا التي تهم الإنسان كالأخلاق والحقوق… . كما طرح إشكالية اللغة. واعتبرها خطرة فهي من يتكلمنا ويحدد محيطنا وعلاقتنا بالمكان والأفراد. بل إننا ننشأ داخلها
تحدث أيضا بشكل عن معلومات تخص الحواس ودروها في العلاقات الإنسانية، وأظهر أهمية حاسة الشم وكيف تصبح الرائحة هوية الفرد. فأنت تستطيع أن تغمض عينيك كي لا ترى و أن تصم أذنيك كي لا تسمع ولكن لا تستطيع أن تمنع أنفك من أداء مهمته وإلا ستموت. ثم تحول في خضم جريان السرد إلى مُنَظّر يُنَظّرُ في الفن التشكيلي و اعتبر من لا يستطيع رسم بورتريها أو مشهد طبيعي لا يمكنه أن يتحول إلى التجريد. يتضح ذلك في المقطع التالي:” …شكلت ثنائية الضوء المشع والظل الداكن الآيل إلى السواد موضوعة مركزية في كل اللوحات، وكأن من هذا الظل تتوقد الرؤى الكبرى للإنسانية المعاصرة في البحث عن الخلاص، من خلال الضوء داخل الدوائر الرامزة إلى مطلقية العدم”. ص 80
كما تحدث بإسهاب عن الأدب البيروفي. وعن سكان أستراليا الأصلين الذين يعيشون في شمال القارة، وعن ثقافتهم المرتبطة بالطبيعة، و المبنية على مفهوم جوهري يسمى “زمن الحلم”، وعن لغتهم المقدسة التي لا يكتبونها كي تظل سرا مغلقا عن الرجل الأبيض الذي حاول إبادتهم في الماضي… .
في محكي ” سمفونية فيفالدي ” نجد قصة متقاعد في تجليات مختلفة لشخص وحيد، يحلم بكتابة رواية، مشكلا شقا مهما من الرواية، ويتحول عبر تطور السرد وتقدمه إلى راو يحكي قصصا مختلفة ويكون بذلك يكتب رواية ثانية داخل الأولى . لأشخاص يدخلون في دوامة من الصراعات والأحداث، وتفاعل مع مجموعة من الشخصيات والرموز والأماكن التي لها خصوصيات، وعرفت بأحداث راسخة في مفكرة الراوي. مضمون المتخيل عبارة عن قصص عادية في حد ذاتها، لكن ما يميزها هو ما تعرضه من أحداث تميز التشكيلة الاجتماعية التي توحد المغاربة على اختلاف أصولهم ومرجعياتهم الثقافية والعقائدية، و موروثهم الحضاري المادي والمعنوي. لكن في البناء العميق لجسم الرواية نجد ما يُراد إيصاله وتمريره للمتلقي المستهدف، الذي يتمظهر من خلال إشارات واضحة تجلي العيوب وتكشف المستور. في تجوال الشخصيات والرموز يصف الروائي المجتمع والمشاكل والأمراض الاجتماعية،والأشياء المسكوت عنها سواء كانت متجذرة في القدم، أو مستوردة، أو حصيلة الحراك الثقافي والسياسي والاجتماعي. وتشير إلى الاختلاف والتشابه بين مختلف الشرائح التي تكون المجتمع المغربي، والفوارق الطبقية التي نحتت على مدى تواتر الأيام بشكل أو بآخر. وهذا ما يتضح بلسان الراوي بالصفحة:88 ” … كل يوم يفاجئوننا بارتفاع الأسعار في كل شيء، والزيادة في الضرائب، ويدعون أنهم يعملون للصالح العام. لا أعرف أين يقودون هذا الوطن. ومع ذلك لا يخجلون من أنفسهم عندما يتحدثون عن التماسك الاجتماعي وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية… .”
تأسيسا على ما قيل؛ يمكن اعتبار هذا المتخيل الروائي رواية داخل رواية، الرواية الأولى بطلها متقاعد انتهت بعودة فاطنة، والرواية التي كان يكتبها هو نفسه لم يستطع تخيل المشاهد الأخيرة لينهيها، فقد تمردت عليه الشخصيات واختارت لنفسها طرقا أخرى فتعذر عليه الإمساك بِلُجُمِها
اعتمد الكاتب لحسن أحمامة ليقدم منتوجه الأدبي في باقة جميلة، على الدقة في الوصف والنَّفس في السرد، وعلى لغة تستمد قوتها من بساطتها، لإثارة فضول المتلقّي المستهدف، بالاعتماد على فتق و رتق علاقات تثري الدلالات لينمو من خلالها البناء السردي الذي يعتمد على التشويق. لكن ما ميز الرواية وجعلها تحقق أهدافها المرجوة، هي الطريقة التي هندست بها لتجعلها تخرج للعلن بحلة جميلة، برغم زخمها بالمعلومات المتنوعة التي قدمتها والمواضيع التي طرحتها للنقاش. تلك الحمولة المعرفية لم تؤثر على المحكي، بل جعلته ينساب بشكل حداثي مشوق، جعل المحكي يغري بالمتابعة
* *** لحسن أحمامة،” سمفونية فيفالدي“، دار التكوين ،دمشق، 2022****