الإعلامي والشاعر عبد اللطيف بنيحيى : لو لم أكن أستاذا وإعلاميا لكنت بحارا
لو لم أكن أستاذا وإعلاميا لكنت بحارا
الأستاذ والإعلامي والإذاعي والشاعر المغربي عبد اللطيف بنيحي رجل فوق العادة، الرجل موسوعة، يجر خلفه سنوات طويلة من التجارب المهنية وسنوات أطول في مجال الإبداع في مشاربه من الشعر بالعامية والفصحى إلى عالم التصوف والتجليات في شعابه اللامحدودة.
يعرفه المغاربة من خلال إذاعة طنجة وعبر برامجه المتعددة مثل: (الإمتاع والمؤانسة) وعبر صوته الرخيم الذي كان ينطلق من إذاعة طنجة حيث قضى سنوات فاقت الثلاثة عقود، ومن خلال لقاءاته وحواراته مع فئات من شرائح مختلفة من المجتمع حتى آخر البرامج (صباح الخير يا بحر) الذي توقف من جهات مسؤولة
الحديث شائق مع الأستاذ بنيحيى، تحدثنا عن أشياء كثيرة بنوع من التلقائية فكان هذا الحوار المميز
من أنت؟ شاعر؟ صحفي؟ إذاعي؟ أم متصوف؟
يصعب على كثيرًا تحديد الصفة التي تليق بي ضمن هذه الاختيارات المتشعبة والمتعددة بين كتابة الشعر وممارسة الصحافة المكتوبة والإذاعية، في البداية لم أكن أفكر الا في أن أكون شاعرا.
عن البداية الشعرية يقول
بدأت كتابة الشعر بالعامية في مرحلة الدراسة الثانوية وبعد ذلك تطورت هذه الكتابة حينما التحقت بمدينة الرباط في الموسم الجامعي ٧١-٧٢ حينها بدأت أنشر بعض هذه الكتابات والمحاولات الشعرية في جريدة العلم، إذ كانت تخصص صفحة باسم (أصوات) تصدر كل يوم إثنين، وكانت تنشر كتابات شعرية أو قصصية لكتاب في بداية الطريق.
أتذكر أسماء عدة لمبدعين مروا من هذا المسار، وكان يشرف على هذه الصفحة المرحوم المحجوب الصفريوي، بعد ذلك بدأت النشر في الملحق الثقافي لجريدة العلم، ثم منابر أخرى منها جريدة المحرر والبيان وجريدة الاتحاد الاشتراكي وجريدة البلاغ المغربي ومجلات عربية عديدة.
كنت أتوقع أن أنغمس كليا في المجال الشعري، كنت أكتب تارة بالفصحى وتارة باللهجة العامية في جريدة المحرر ثم الاتحاد الاشتراكي. وقد كنت من بين الرعيل الأول الذي بدأ نشر الكتابات بالعامية. كتاباتي كانت ساخنة وبها شيء من الجرأة وتلك كانت أول مرة يطلع فيها القارئ على هذا النوع من الكتابة، بحيث كانت تؤرخ لما كان عليه المغرب حينها، في زمن ما كان يسمى بسنوات الرصاص.
جاءت التجربة الاذاعية، وما كنت أتصور أبدا أنني سأنتمي يوما إلى المجال الإذاعي، هذه التجربة التي أخذتني طوال سبع وثلاثين سنةً من العمل الإذاعي في كل من الرباط وطنجة. ففي الرباط اشتغلت من خلال البرامج الرئيسية التي كان يكلفني بها المرحوم سي محمد بن عبد السلام رئيس قسم البرامج وكانت برامج رئيسية، أذكر منها على سبيل المثال: (حوار الظهيرة) قبيل بث النشرة الرئيسية في الواحدة زوالا ثم تجربتي في إذاعة طنجة لسنين طويلة.
هزني وشدني الحنين فعدت من ميدي١ الى اذاعة طنجة
اشتغلت أيضًا بميدي ١ لمدة ستة أشهر فقط رغم ان التعويضات المادية كانت تفوق عشرات المرات ما كنت أتقاضى في إذاعة طنجة، لكنني تركت العمل هناك لأعود إلى إذاعة طنجة. لقد هزني وشدني الحنين فعدت للانخراط فيها مرة أخرى حتى حدود ٢٠١٧ حينما قدمت استقالتي عن طيب خاطر بعد تلك المحاولات المغرضة التي كانت تستهدف إيقاف برنامج (صباح الخير يابحر)، وهو البرنامج الذي استمر لمدة ٢٥ سنة، ربما كان وازعا من بائعين من الوزارة الوصية على القطاع لإنه كان برنامج يزعج الوزارة.
كيف ترى المجال الإعلامي اليوم؟
المجال الإعلامي اليوم أضحى بابا مشرعا لكل من هب وذب وصارت الجرائد الإلكترونية والكتابات في كل المجالات في وسائل التواصل الاجتماعي تتحدث في كل الميادين من قبل أناس لا علاقة لهم بالمجال الإعلامي – بالطبع لا نعمم- ولكن نشير إلى الأغلبية الساحقة… أصبح الجميع يتحدث في كل شيء وعن كل شيء في أي كان.
هل لك ان تقارن الإعلام بين الأمس واليوم؟
لا يمكنني أن أقارن بين العمل الصحفي في الستينيات الذي سبق دخولي الى المجا ل في بداية السبعينيات حينما اقترح علي الراحل عبد الله إبراهيم رئاسة تحرير جريدة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية التي كانت تصدر أسبوعيا كل يوم خميس ، وكانت تطبع في مطبعة امبريجيما التابعة للاتحاد المغربي للشغل وتوجد في نهاية شارع لا جيروند بالدار البيضاء ، وكانت تصدر كذلك جريدة الطليعة و تنشر جريدة باللغة الفرنسية كانت ذائعة الصيت آنذاك بعنوان (مغرب انفورماسيون)، مارست العمل الصحفي منذ عام /٧٤/٧٣/٧٢ في هذه الجريدة ، ولكن لم أدخل غمار هذا العمل المهني إلا بعد انتباهي إلى تلك القدرة الخارقة التي كان يتميز بها الصحفيون وكتاب الأعمدة والمحللون في الصحافة الوطنية في تلك المرحلة أو المرحلة السابقة كمصطفى القرضاوي ومحمد عابد الجابري و محمد المساري وعبد الجبار السحيمي ، وعبد الكريم غلاب و أسماء أخرى كانت تمارس العمل الصحفي بحس من المسؤولية العميقة وبتمكن كبير رغم أن المغرب آنذاك لم يكن يتوفر على معهد عالي للصحافة والإعلام يعمل على تخريج كفاءات لممارسة المهنة.
كيف تحلل هذا التسيب ومن ورائه في نظرك؟ هل هذه السلوكيات تعتبر حرية للتعبير؟
الآن لدينا معاهد وخريجون لكن المستوى جد منحط، سواء في الصحافة المكتوبة أو المجال السمعي البصري.
الافة الكبرى التي تهدد المستوى الإبداعي أو التحليلات والمجال الإعلامي هو تواجد جيش عرمرم من الصحفيين من جرائد الكترونية كثيرة تعد بالآلاف ولها انتشار خبيث جعل كل واحد يحس على أنه شاعر فحل أو صحفي فذ! لقد انطلى هذا النصب على الكثيرين فصاروا يعتبرون أنفسهم شعراء وكتاب ومنهم من لا يستطيع حتى كتابة جملة مفيدة.
ما زلت أبحث عن الجهة التي تكمن وراء هذه التصرفات وتمنح الدكتورة الفخرية وجوائز وتنويهات الخ…. إنها ظاهرة سلبية نتمنى ألا تنطلي علينا أهدافها الرخيصة. فأنا أتوصل بالكثير من تلك الاقتراحات لكنني أظل على حذر من تلك المواقع، ولا أتعامل الا مع من لها مصداقية.
هناك جيش عرمرم من الصحفيين اليوم، ولا يمكن أن تجد صحفيا واحدًا يمثل هذه المهنة الشريفة مع استثناءات قليلة.
لما كنت رئيس تحرير الجريدة كما أشرت سالفًا، كنت أتحرى الأخبار جيدًا والعمل الإعلامي والصحفي كان يتطلب مني السهر الطويل والبحث واستشارة المتخصصين والخبراء لكي أكون في مستوى المسؤولية التي وضعها في المرحوم عبد الله إبراهيم. لقد كنت أتوصل بكل الكتابات التي كان يرسلها شعراء مثل إدريس الملياني، أحمد بوزفور، أحمد المسناوي وعبد القادر الشاوي، ومحمد علي الرباوي، كلها كانت أقلام أساسية وجيدة كانت تساهم في الجريدة. حينما أرى ما يجري الآن في هذه المواقع أشعر بالغثيان. البقاء للأصلح في النهاية على كل حال.
الكتابة بالعامية والكتابة باللغة الفصيحة تجربة لك فيها باع طويل منذ بداياتك مع الكتابة. أيهما أقرب لك؟ ولماذا؟
الكتابة الشعرية بالعامية كانت أول ما بدأت به. أؤكد انني بدأت بالكتابة بالعامية قبل الفصحى، ففي منتصف الستينيات كنت أدرس بمؤسسة محمد الخامس، كنت مغرمًا بالإنصات إلى البرامج الإذاعية الثقافية، كبرنامج الراحل وجيه فهمي صلاح: مع ناشئة الأدب)، والبرنامج الذي كان يشرف عليه المرحوم إدريس الجاي صاحب ديوان (السوانح) بمعية الفنان فتح الله المغاري والذي كان يقرأ تلك النصوص التي يتوصل بها البرنامج ويبث على أمواج إذاعة الرباط.
كنت أبعث من حين لآخر ببعض النصوص العامية، قبل أن أشرع في كتابة النصوص الفصيحة. وكان بعضها يقرأ في هذا البرنامج بصوت فتح الله المغاري الذي كان يؤازرني ويشجعني على الاستمرار في الكتابة الشعرية العامية.
بعد ذلك ترسخت علاقتي بالشعر قديمه وحديثه، وخصوصًا شعر ما قبل الإسلام، ثم الشعر الأموي الذي انجذبت له كثيرًا من خلال بعض الأسماء التي ارتبطت بها ارتباطا عميقا رغم أنها أسماء لم تكن معروفة مقارنة مع الأسماء التي انخرطت في قصائد المديح والهجاء وما شابه ذلك من الشعراء الرسميين الذين كانوا يمدحون النظام القائم حينها.
والإشارة هنا إلى الشعراء المهمشين مثل مالك بن ريب التميمي، ابن الدمينة، بن عبد الله البوصيري، ذو الرمة، كثير عزة وغيرهم كثير. أحسست بارتباط عميق بهذه التجربة الشعرية التي كانت وما تزال محافظة على طراوتها البدوية الطرية جدا.
وبالطبع مررت بتلك الكوكبة من كبار الشعراء كابي تمام وأبو نواس، وابن الرومي، وأساسًا المتنبي، وبعدها ستأتي مرحلة شعر الأندلس والموشحات والأزجال التي كانت تكتب في الأندلس، من قبل شيخ الزجالين ابن قزمان وكذلك أبو الحسن الذي كان يكتب في الصوفية باللغة العربية والعامية.
من هنا إذن بدأ دخولي مجال الكتابة بالعامية وليس من باب الشعر الفصيح. هناك بعض من يصنفون أنفسهم زجالين، وأطلقوا على أنفسهم صفة شعراء أو زجالين وما هم بذلك.
أنا متحفظ جدا من هذه الكتابات لأن الزجل نمط إبداعي كان منتشرا في الأندلس. بعده جاءت التجربة المذهلة لتجربة الملحون، والأجدر بنا أن نسمي هذه الكتابات بالملحونية إن كانت تتوفر على الشروط الإبداعية لكتابة نص الملحون بدلا من الزجل، لأن الزجل كان سابقا للملحون ومعاصرا للقصيدة بالأندلس والموشحات.
بالنسبة لي أرى أن هناك نوعا من الخلط، لدي منشورات بدلت فيها مجهودا عميقًة، ربما تتوازى مع رباعيات المجدوب وأستمد قاموسها من قاموس شعر الملحون.
إذا كان الإنسان متمكنا من هذا القاموس يمكنه أن يكتب نصا عاميًا جميلا، أما أن نلتجئ إلى الفصحى من أجل أن نعمل على
تدريبها فأنا أرفض ذلك رفضا باتا.