في القنطرة جلجلة
في القنطرة جلجلة (الجزء السادس-2-)
حار الأطباء في أمر الجندي، الذي أصبح يعيش هاجسين: الأول، هو العيش فيما يشبه ماض جميل ورائع، والثاني، هو العمل على نزعته اللاشعورية في اختلاق حرب جديدة يشارك فيها ويصاب بجروح، وحين ينقل إلى بيته في ولاية نيوجرسي، يجد أن حبيبته تنتظره بفارغ الصبر. ومن هنا، جاءت فكرة تصوير مشاهد من الفيلم في المغرب وفي القنطرة بالضبط، لأنها قريبة من البحر وتعج بالشقوق في الوقت الذي تنتصب فيه أماكن عبادة يرتادها الناس بسلام، قبل أن يعاودوا التراشق بالكلمات فور الابتعاد عنها. ولكن الفيلم لا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى المغرب، ما عدا راية صغيرة كانت موضوعة بجانب العربة، ولم ينتبه إليها المخرج ولا مهندس التوضيب. قال أحد المعلقين إن ذلك كان مقصودا، ويعني أن المغرب، سيكون الوجهة المقبلة لحرب إمبريالية جديدة، وذلك بعد إفشال الربيع العربي وعودة بعض الأنظمة الشمولية إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
سئل متروي عن رأيه، فرد أن ما حز في نفسه، هو استبدال اللافتات وكتابة شعارات هجينة أصابته في الصميم. كان حريا بالمخرج ألا يحتفظ بمشهد العربة أساسا. ولم يكن متروي الوحيد الذي صب جام غضبه على ‘ݣلوبال شيرن وان’، انتفضت، أيضا، الفرقة الموسيقية التي صورت في الفيلم ــ وكأنها أتت من كوكب آخرــ وهي تتحرك في اتجاه غريب وتنشد أناشيد ‘الكوسبل’ بكلمات لا علاقة لها بالدارجة المغربية ولا معنى لها على الإطلاق. كما أن الأصوات كانت لمطربين آخرين. علق أحد المتدخلين قائلا: “آن الأوان أن ندرك أن أولويات وهموم هؤلاء الناس تختلف عن أولوياتنا وهمومنا، وليس من حقنا أن نؤاخذهم على ذلك ما دمنا نتطاحن فيما بيننا لأسباب تافهة، ولا نعرف في الواقع ما الذي نؤمن به وما الذي لا نؤمن به.” ولكن الذي طعن متروي أكثر، هو توصله بأمر من السلطات بتغيير اللافتات وجعلها مطابقة للمقولات التي ظهرت في الفيلم وأن تكتب بخط يشبه تماما الخط الذي ظهر في الفيلم. كانت السلطات تراهن على تحويل القنطرة إلى معلمة تاريخية ومزار للسياح أسوة بمقهي ‘ريكس’ وسط مدينة الدار البيضاء
أحس الجميع بأنهم استعملوا بطريقة انتهازية في فيلم لم تكن له علاقة بالقنطرة على الإطلاق، أو هكذا خيل لهم. لكن رائد كان له رأي آخر
ـــ لا أصدق أنني كنت غبيا إلى هذا الحد! صرخ، وهو يجلس في ‘المنتزه’، يرتشف ماء معدنيا مستوردا ويتحدث في الهاتف مع شخص مجهول
ـــ لقد كنت دائما غبيا، يا صديقي، أجابه شخص يجلس في طاولة مجاورة
قطع المكالمة وسأل الشخص، الذي تبين أنه من رواد ‘المنتزه’
ـــ كيف تتجرأ وتصدر هذا الحكم وأنت لا تعرفني؟
ـــ يتم التلاعب بك في كل مرة، ولكنك لا تنتبه
ـــ أعطني دليلا واحدا
ـــ الماء المعدني الذي تشربه الآن
ـــ إنه ماء جيد
ـــ وكذلك الماء الذي قاطعته
ـــ أي ماء؟ تعني الماء
ـــ نعم. الذباب الإلكتروني… الهجمة السبريانية
:تردد رائد قليلا، ثم قال
ـــ ألم أكن على حق؟
ـــ لو أجزمنا أنك كنت على حق، كان من المفروض مقاطعة بضائع كثيرة، لأنها تدخل في خانة منطق المقاطعة التي دبرت وبعضها يدخل في ذهنية الاستهلاك الذي يضر بالعقل والجسم. وبما أن المقاطعة لم تكن تستند إلى أساس، فإن من انخرط فيها، كان ضحية لمؤامرة لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد. البضائع البديلة تباع بنفس الأثمنة وأحيانا بأثمنة أغلى، لأنها مستوردة. الشيء الوحيد الإيجابي في العملية كلها هو أن التعبئة غيرت نسبيا من ميزان القوى بين المتدخلين. لست أدري، يبدو أننا شعب عاطفي جدا ويسهل التلاعب بنا
ـــ أنا بدوري لست أدري، ربما معك حق، المقاطعة من أجل المقاطعة سلوك مجاني وغير محسوب. لكن العملية أتت أكلها على ما يبدو
ـــ وما هو الشيء الآخر الذي يجعلك تشعر بأنك غبي؟
ـــ الفيلم. قضيت أياما في القنطرة أثناء التصوير، تحدثت مع فريق السيناريو، ومرات مع المخرج؛ ظننت أن الفيلم سيكون ترويجا جيدا لنا
:تدخلت شابة كانت تسترق السمع
ـــ إنه بالفعل ترويج ودعاية، لكن، ليس في الاتجاه الصحيح
ـــ ما هي حجتك في ذلك؟ تساءل رائد، وهو يبتسم لأن الشابة تشاطره الرأي
ـــ كل شيء. استعملت القنطرة كذريعة لتمرير خطاب يطرح تساؤلات كثيرة. وتم تصويرنا كدمى متحركة. أظن أن من أعطى الموافقة على التصوير كان له دافع مركونتيلي صرف
ـــ أفلام كثيرة صورت في بلادنا، لأنها تتمتع بخصوصيات تثير اهتمام الصناعة السينمائية العالمية
ـــ ولكن جل الأفلام كانت موضوع جدل
ـــ أنا أشاطرك الرأي حول فيلم القنطرة فقط
ـــ ما الذي أزعجك في الفيلم؟
ـــ العربة
ـــ كيف؟
ـــ تم استبدال اللافتات وجملها
ـــ كانت اللقطة سريعة، كيف تمكنت من القراءة؟
ـــ لم أكن الوحيد الذي قرأت اللافتات. كما أن اللقطة دامت دقيقة على الأقل
ـــ وما هي اللافتة التي أثارت انتباهك؟
!ـــ اثنتان، واحدة تقول “فكر كيفما تشاء، القرار ليس قرارك
ـــ معك حق. تذكرتها. والثانية؟
!ـــ تلك التي تقول: “دع السماء للسماء والأرض للأرض
تدخل الشخص الأول من جديد:
ـــ وما الذي يستفزك في المقولتين؟
ـــ شيء واحد، إنهما يذكران بالصراع الحالي حول القنطرة
ـــ أنت تبالغ. هل تظن أن شركة إنتاج عالمية ستصرف أموالا طائلة، لأن لها أطماع في القنطرة؟
ـــ فكر معي! قصة حب الفيلم ترتيب لما يكون قد سطر للإيقاع بنا
ـــ نظرية المؤامرة؟
ـــ لم لا؟
:توقف الجميع عن الحديث عندما دخل معروف، وتوجه إلى طاولة رائد، وبعد التحية، قال
ـــ تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ـــ أنت أيضا، غاضب؟
ـــ لا لست غاضبا، أنا فقط أتساءل ما هو دافع الساكنة لتغضب والفيلم، بطريقة ما، ساهم في التعريف بالقنطرة، أهل البنية التحتية، فتح الباب لمشاريع ستعود بالنفع على الجميع، طوى صفحة النزاع على ملكية قنطرة قديمة، مكن من إنقاذ متشرد من النسيان
ـــ من المتشرد؟ متروي؟ لن أسمح لك بنعت رجل مثقف بمتشرد. قد تكون أنت المتشرد، فكريا وأخلاقيا، لأنك تبيع نفسك لمن يدفع أكثر بدعوى خدمة الفن
ـــ لا تنفعل يا أخي! أسحب كلامي عن متروي. قد أشاطرك الرأي، نظريا، وأقول إنه ليس متشردا. ولكن يجب أن تعترف أن عربته غريبة بعض الشيء. أما كتبه، فهي متداولة، ولا أظن أنه يقرأها
ـــ كم أنت مغرور في جهلك! إن المكتبة تحتوي على تحف نادرة. ولكن هذا لا يهمك. لكن أخبرني، هل فكرة عرض الفيلم في مسرح الدار البيضاء الكبيرما زالت قائمة؟
ـــ يحتاج ذلك إلى ترتيبات إضافية. وربما سيتم الاستغناء عن الفكرة. كما تعلم، بعض الأشغال لم تنته بعد في البناية؛ وأشياء أخرى لها علاقة بالتصورالمندمج للمعمار لا داعي لذكرها
:تدخلت الشابة مرة أخرى
ـــ أستسمح هل أنت معروف المخرج؟
ـــ نعم، أجاب معروف بصوت منخفض
ـــ شاهدت بعض أفلامك
ـــ شكرا
ـــ عندي سؤال فقط، هل تخليت عن الفيلم الملتزم؟
ـــ سؤال وجيه. ولكن ماهو تعريفك للالتزام؟
ـــ الهدف النبيل مع الفعل المتجدد مع الاستمرار
ـــ إذا كان الهدف الذي اعتبر نبيلا، ليس كذلك، وإذا تبين أن الفعل المتجدد صب ماء في الرمل، أو كان الاستمرار لسعة من لسعات دون كيشوت
ـــ هذا يسمى تراجع
ـــ أو رجعية
ـــ أو رجعية
ـــ إسمحي لي يا أختي أن أسألك سؤالا بسيطا: هل من يغير لباسه ليظهر بمظهر جديد أو ليعود للباسه القديم يعد تقدميا أم رجعيا؟
ـــ لست أدري، ذلك مرتبط بالظروف
ـــ السنيما الملتزمة، مثلها مثل الفن الرفيع، وموسيقى الملحون والأندلسي، والموسيقي الكلاسيكية العالمية، تبقى نخبوية ولا تكفي لضمان العيش. أما أنا، فمازلت أحاول أن أجد حلقة وصل بين الالتزام والتأقلم مع ضوابط السينما الجديدة ــ أوما يصطلح على تسميته بسينما العصر الجديد. نسيت أن أسألك، هل أنت تعملين في السينما أم أنك ناقدة سينيمائية أو ما شابه ذلك؟
ـــ أنا رئيسة النادي السينمائي ‘المحيط’. هل سمعت عنه؟
ـــ نعم. وقد توصلت بدعوة لحضور مهرجان السينما المغربية خلال سبعينيات القرن الماضي، واعتذرت
ـــ أعرف. اعتذرت، لأنك كنت على خلاف مع أحد المنتجين الذي ساهم في تمويل المهرجان
ـــ صحيح، ولكن، أيضا، لأن مستوى الأندية السينمائية تراجع خلال السنوات الأخيرة
ـــ نعم، لأن دور الشباب إما أغلقت وإما حصرت أنشطتها في المختصر الشديد الذي لا يفيد
ـــ هل من بارقة أمل في المستقبل القريب؟
لم تجد الشابة ما ترد به على معروف، فأشعلت سيجارة والتزمت الصمت. وبينما كانت تأخذ نفسا طويلا من سجارتها، كان بعض الزبناء من الجنسين تختلف أعمارهم يحملقون فيها بجرأة تتجاوز قلة الأدب
مرت أيام قليلة، وكاد الناس أن ينسوا حكاية الفيلم ليركزوا اهتمامهم على تطور قضية مستتر ومفيد والجماعة المرتبطة بالأراضي السلالية والترامي على ملك الغير. وصادف هذه التطورات صدور قانون جديد ينصف، إلى حد ما، المرأة السلالية، وذلك بعد جدل كبير. ولم تكن هذه الخطوة إلا لتزيد من تفاؤل جمعيات المجتمع المدني حول استمرار الإصلاحات التشريعية التي ترمي إلى إنصاف المرأة، والطفلة القروية، في الوقت الذي طغى نقاش في بعض الأوساط حول مواضيع شائكة تتعلق بالاجهاض والإعدام والإرث والبيدوفيليا وزنا المحارم والمثلية وتعدد المذاهب والعلاقات الجنسية الرضائية وغيرها. وبدا أن المقاربات التي اعتمدها كل فريق نخبوية إلى حد بعيد وتفتقر إلى الجرأة الكافية وتضع البلاد في ورطة مطابقة التشريعات الوطنية لالتزاماتها الدولية بموجب المعاهدات التي وقعتها
(يتبع)