في القنطرة جلجلة
في القنطرة جلجلة ( الجزء السادس -1-)
يردد الناس كثيرا أن الحياة جملة من الجزئيات وأن الاختيار مرتبط بها. وحين يستفسرون عن مكان الحرية فيها، تخرس الألسنة أو تجيب جوابا بين هلالين مزدوجين لتظل علامة الاستفهام في مكانها تزداد مع الأيام تغولا وتجبرا ومشاكسة. استمرت القنطرة تفرخ أحداثا تراكمت فيها الجزئيات، ولكن السيل لم يبلغ الزبى كما كان يتمنى نفر من المتدخلين، الذين أصيبوا بنوع من الخرف وفقدان الذاكرة ــ مرحليا ــ وهم يمنون النفس بأن تتغير الظروف فيفيقون على يوم سعيد. طيلة أسابيع، سيطر حدثان على الأحاديث والحوارات: إعلان تاريخ تقديم العرض الأول للفيلم الأجنبي الشهير، وتقدم التحقيقات في القضايا المعروضة على أنظار الشرطة، مع توجه هذه الأخيرة إلى تسليم الملف إلى وكيل الملك تحسبا لفتح محاكمة الأشخاص المتهمين
توزع المهتمون بين من يفضل حضور العرض، لأن ذلك سابقة بالنسبة لفيلم أجنبي، وبين من يفضل حضور أطوار المحاكمة، عندما ترفع القضايا إلى المحكمة. المهم هو التشويق الذي أفرزه الحدثان. ولكن رواد القنطرة المهمين كانوا يفضلون مشاهدة الفيلم. وفعلا، حضيت الاستعدادات بحيز كبير من التغطية الإعلامية، وجندت السلطات كل الإمكانيات لنجاح العملية، سيما وأن المكان الذي وقع الاختيار عليه مبدئيا للعرض هو مسرح الدار البيضاء الكبير. والسؤال الذي طرح بعد ذلك، هو هل سيتم تدشين المسرح بصفة رسمية بهذه المناسبة أم سيفتح مؤقتا. ثم الإسراع في العمل على وضع اللمسات الأخيرة ليكون هذا الصرح الثقافي معلمة حقيقية. ويرجع سبب تباين الأراء إلى كون الساكنة لم تعد تثق في تصريحات المجالس المحلية ومسؤولين آخرين وغيرهم من المصادر حول تواريخ إنهاء المشاريع في وقتها، حيث تحولت الدار البيضاء إلى أوراش مفتوحة غير مكتملة. ولكن هذه المرة، استبشر الناس خيرا، لأن ‘ݣلوبال شيرن وان’ حرصت على تتبع الأمور بنفسها ووجدت في السلطات المحلية خير مساعد
اتخذت السلطات قرارا احترازيا ببرمجة العرض الأول الخاص في قاعة سينمائية تاريخية أعيد ترميمها وعصرنتها من قبل أحد المولعين بالفن السابع، الذي غامر بإعادة الحياة إلى دور السينما المهملة أوالآيلة إلى السقوط. ويرجع الفضل إلى هذا الشخص في إثارة انتباه المجالس المحلية والرأي العام الوطني، في الماضي القريب، إلى جشع بعض المنعشين العقاريين وسعيهم إلى الاستيلاء على مبان تاريخية وتحويلها إلى أبراج سكنية تساهم في زحف الإسمنت على المدينة وتحويل الساكنة إلى أجساد بدون أرواح. كان القرار الاحترازي يهدف إلى كسب الوقت وتجنب ردة فعل الجمهور العريض حول فيلم يجهل الكثير عن حكايته
وكأن السلطات المحلية والمتتبعين كانوا على علم مسبق بأن أحداث الفيلم ستحدث لغطا كبيرا يختلط فيه الواقعي بالطوباوي. ولحسن الحظ أن ‘ݣلوبال شيرن وان’ لم توفد أحدا ليمثلها في افتتاح العرض، بل كلفت معروف بالنيابة عنها، مع إرسال رسالة عبر تقنية الفيديو كونفرنس من قبل الممثلين الرئيسسن وبالأخص من قبل جينفر. رغم أن لائحة المدعووين كانت قصيرة، فقد تم توجيه الدعوة إلى متروي، ورائد والمجموعة الشبابية، ورؤساء أندية سينمائية معروفة وبعض الشخصيات من عالم السياسة والفن والثقافة، وكذا بعض الفضوليين الذين كانوا يراهنون على حضور أحد الممثلين الرئيسيين لأخذ صورسيلفي ونشرها على منصات التواصل الاجتماعي
انتهى عرض الفيلم، وخيم صمت عميق على القاعة، لمدة دقائق، رافقتها وشوشات زادت من غموض وغرابة المشهد؛ ثم بدأ أحد المتفرجين يصفق ببطء قبل أن يتحول التصفيق إلى عاصفة، ثم إلى تعالي الصفير، ثم إلى كلمات نابية، ثم إلى ما يشبه الغضب. ظهر جليا أن الفيلم لم يعجب غالبية الحضور، ليس لأسباب فنية وجمالية ومهنية، ولكن لأسباب تتعلق بتيمته، وبالرسالة ــ أو الرسائل ــ التي كان يتوخى إيصالها. لم يكن الفيلم تجاريا بالمعنى المتعارف عليه. كان له حمولة تتأرجح بين فرض قراءة نمطية لسلوك شخصياته ورغبة في تجاوزها. ولكن المخرج لم يجد طريقا لذلك، أسوة بالممثل الرئيسي، الذي ظل يتخبط بين عوالم امتصت قدرته على التحرك بحرية
بدا رد فعل أغلب المتفرجين غريبا، للوهلة الأولى، وذلك لاعتبارات ثلاث. الاعتبار الأول، هو الرسالة التي وجهتها جنيفر إلى الجمهور والتي قالت فيها إنها اكتشفت أن الحب شيء رائع حتى ولو كان افتراضيا وأنها أغرمت بالقنطرة، لأنها تتنفس بعبق التسامح وتغرف من معين البراءة التي فقدت في أماكن أخرى. وكانت شهادتها تثير أكثر من علامة استفهام. الاعتبار الثاني، هو أن الفيلم تضمن مشاهد للقنطرة، أظهرت العربة ومتروي والمجموعة الشبابية والمسجد والكنيس والكنيسة بطريقة رائعة، وكأن هذه الأخيرة مباني حقيقية، رغم حجمها المتوسط. الاعتبار الثالث، هو أن الفيلم تضمن أيضا ــ وكانت هذه مفاجأة كبيرة ــ الحوار الذي دار بين متروي وجينفر عندما كانا يتحدثان بصورة عفوية قبل التصوير
على العموم، صورت القنطرة والأماكن المجاورة في أبهى حللها. إذن ما هو سر الغضب؟ تضاربت الآراء حول المساحة التي خولت لمتروي في الفيلم. رأى البعض أن الفيلم همش متروي وركز على حوار لم يكن أصلا ضمن السيناريو، كما أن صوته بدل بصوت ممثل آخر نقص من مستوى التشويق ــ كان من المستحسن الاحتفاظ بصوت متروي لإضفاء مسحة من الرومانسية على المشهد، وجعل نطقه العفوي للغة الانجليزية عصبه. ولكن سبب الغضب الرئيسي، كان استبدال لافتات العربة بلافتات كتبت بخط يدوي رديء وتتضمن عبارات غامضة وبجانبها وضعت، بشكل ذكي، علامات تجارية كانت، إلى عهد قريب، محط انتقادات داخل المجتمعات الغربية
وماذا عن الفيلم كسرد وحبكة؟ كان الفيلم يحكي قصة جندي أمريكي شارك في حرب أفغانستان وفي حرب العراق، وقبلهما ضمن قوات حفظ السلام الأممية خلال حرب البلقان. كان يعيش قصة حب رائعة قبل أن يذهب إلى أفغانستان، حيث نجا من الموت أكثر من مرة. جرح مرتين، ولما عاد إلى بلدته في ولاية نيوجرسي الأمريكية، وجد أن حبيبته قد ارتبطت بأحد أصدقائه القدامى. لم يتحمل الوضع، وفي أول فرصة، تطوع للحرب في العراق. وهناك أصيب بجروح بليغة أفقدته الذاكرة جزئيا، لتستقر ذكرياته على الفترة الذهبية من علاقته مع حبيبته، وهي فترة حرب البلقان. كان يقاوم الصور التي كانت تأتي، بين الفينة والأخرى، لتعيده إلى أفغانستان أو إلى العراق. صحيح، لأنه خلال خدمته في البلقان لم تتعرض حياته للخطر، لأن الأمم المتحدة كانت تلعب دور كومبارس، في الوقت الذي وزعت الدول الأوروبية، ومن خلفها الولايات المتحدة، الأدوار من أجل إطالة عمر المواجهات العرقية في يوغوسلافيا السابقة لأسباب تخدم ما بعد الحرب الباردة بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي سابقا. نصحه الأطباء بضرورة الرجوع إلى أفغانستان أو إلى العراق لإحداث صدمة نفسية قد تساعده على استعادة السيطرة على مشاعره. لكن، كان هنا مشكلان: الأول، هو أن العراق أصبح يدار عن قرب من قبل إيران، بعد انسحاب العدد الأكبر من القوات الأمريكية، بناء على ما يظن كثيرون أنه كان توافقيا وليس اعتباطيا؛ والثاني، هو أن حركة طالبان أعادت سيطرتها على أجزاء كبيرة من أفغانستان، بعد تقلص دورالقوات الأمريكية، وعودة روسيا إلى الساحة بطريقة غير مباشرة وذكية، مما مكن الحركة من أن تصبح اللاعب الأول في كل سيناريوهات تحقيق السلام في تلك الربوع مستقبلا