محمود درويش: الهوية الوطنية والتجربة الفنية
تخليدا منا للسنة 15 على رحيل أبرز شعراء الشعر العربي الحديث: الشاعر محمود درويش
تعتبر تجربة الشاعر محمود درويش الشعرية إحدى الأيقونات الفنية الجمالية التي لا تنطوي تبخل على النقاد، إذ إنه يجسد في شعره تميزًا وتفردًا كبيرين، سواء أكان ذلك على مستوى المضمون أم المظهر الشكلي. ومنذ ظهور هذه التجربة، تلقت إشادة واسعة من النقاد والشعراء والمثقفين، ليصبح اسم درويش أيقونة فنية معروفة في العالم العربي والإسلامي
تتميز تجربة محمود درويش الشعرية بصدقها وإيحائها، فهو ينقل في شعره الكثير من الدلالات التي تعبر عن هموم قضيته وأمته، وتحمل في طياتها الكثير من الدلالات التي تدل على صدق شعره، بالإضافة إلى ذلك، فإن أسلوبه الشعري يشكل مدرسة أدبية إبداعية معطاءة في جميع مفرداتها، أثرت في المشهد الفكري والثقافي الفلسطيني والعربي والأممي بشكل عام
ويعكس تراث محمود درويش الثقافي أهمية كبيرة، إذ يضم خمسة وعشرين ديوانًا شعريًا، وعددًا لا بأس به من الكتب النثرية والعشرات من المقالات الأدبية. ويمكن للراغبين في دراسة تجربة محمود درويش الشعرية أن يركزوا على موضوعات مختلفة مثل التحولات الفنية والتناص بمستوياته المتعددة واللغة والأسلوب والوزن والقافية وتقانات السرد الشعري وجماليات التلقي، فهذه الموضوعات وغيرها يمكن أن تكون موضوع دراسة عميقة لتجربة الشاعر محمود درويش
تحل الشهر القادم الذكرى الخامسة عشر لوفاة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، الذي رحل في تاريخ 9 أغسطس 2008م، بعدما أثرى المكتبة العربية بإبداعاته الفريدة من نوعها. وكان آخر ديوان له بعنوان “لا أريد لهذه القصة أن تنتهي”، الذي يعد من أشهر قصائده الرائعة المليئة بالقيم الفنية والجمالية الطاغية. ومن بين هذه القصائد الرائعة، “أنا يوسف يا أبي” التي تعد من أجمل روائعه، وتتضمن قصة سيدنا يوسف وإخوته، التي استطاع الشاعر من خلالها التناص مع القرآن الكريم واستخدام الرموز والشعر للوصول إلى عمق فني يستوعبه المتلقي
نلاحظ في هذه القصيدة العديد من الرموز التي يتم استخدامها بطريقة فنية مميزة، مثل استخدام كلمة “الحصا” كرمز للإعتداء الجسدي، واستخدام كلمة “الكلام” كرمز للاعتداء المعنوي، وهو ما يعكس حالة الشاعر الفلسطيني ومعاناته ووجعه بسبب الرفض والتهميش، مثلما تعرض له سيدنا يوسف من رفض وتآمر من إخوته. وتعبر القراءات المتعددة لهذه القصيدة عن المعاناة الإنسانية والوجع الفني للشاعر، وتعكس شعوره بالأمان بالألم، وتُعَدّ هذه القصيدة إحدى أهم روائع الأدب العربي الحديث
أَنَا يُوسُفٌ يَا أَبِي. يَا أَبِي، إِخْوَتِي لَا يُحِبُّونَنِي، لاَ يُريدُونَنِي بَيْنَهُم يَا
أَبِي. يَعتدُونَ عَلَيَّ وَيرْمُونَنِي بِالحَصَى وَالكَلَامِ يُرِيدُونَنِي أَنْ أَمُوتَ لِكَيْ
يَمْدَحُونِي . وَهُمْ أَوْصَدُوا بَابَ بَيْتِك دُونِي. وَهُمْ طرَدُونِي مِنَ الحَقْلِ. هُمْ
سَمَّمُوا عِنَبِي يَا أَبِي. وَهُمْ حَطَّمُوا لُعَبِي يَا أَبِي. حِينَ مَرَّ النَّسِيمُ وَلَاعَبَ
شَعْرِيَ غَارُوا وَثَارُوا عَلَيَّ وَثَارُوا عَلَيْكَ، فَمَاذَا صَنَعْتُ لَهُمْ يَا أَبِي؟
الفَرَاشَاتُ حَطَّتْ عَلَى كَتِفَيَّ، وَمَالَتْ عَلَيَّ السَّنَابِلُ، وَالطَّيْرُ حَطَّتْ على
راحتيَّ. فَمَاذَا فَعَلْتُ أَنَا يَا أَبِي؟ وَلِمَاذَا أنَا؟ أَنْتَ سَمَّيْتنِي يُوسُفًاً، وَهُمُو
أَوْقعُونِيَ فِي الجُبِّ، وَاتَّهمُوا الذِّئْبَ؛ وَالذِّئْبُ أَرْحَمُ مِنْ إِخْوَتِي.. أُبَتِ
هَلْ جَنَيْتُ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَمَا قُلْتُ إنِّي رَأَيْتُ أَحدَ عَشَرَ كَوْكبًا، والشَّمْسَ
والقَمَرَ، رَأَيتُهُم لِي سَاجِدِينْ
تتحدث قصيدة “أنا يوسف يا أبي” عن قصة النبي يوسف وإخوته، وتتضمن العديد من الرموز والمعاني التي تعبر عن حالة الشاعر ومعاناته ووجعه بسبب الرفض والتهميش الذي يتعرض له. يستخدم الشاعر في القصيدة عدة رموز مثل “الحصا” كرمز للإعتداء الجسدي، و “الكلام” كرمز للإعتداء المعنوي، ويعكس ذلك حالة الشاعر ومعاناته ووجعه بسبب الرفض والتهميش، مثلما تعرض له سيدنا يوسف من رفض وتآمر من إخوته
يتحدث الشاعر عن إخوته الذين لا يحبونه ويعتدون عليه بالحصى والكلام، ويطردونه من الحقل ويحطمون لعبه، ويعبر عن معاناته ووجعه بسبب تلك الأفعال القاسية. ويشعر الشاعر بالحزن والألم، ولكنه يجد الأمان بالألم ويعبر عن ذلك قائلاً “فَمَاذَا فَعَلْتُ أَنَا يَا أَبِي؟”، ويعبر عن شعوره بالوحدة والتخلّي عنه حتى من أبيه، الذي اسماه يوسف وهو الاسم الذي أطلقه عليه أبوه
وبالرغم من كل هذه المعاناة، يشعر الشاعر بالتعاطف والرحمة تجاه إخوته الذين قاموا بتلك الأفعال القاسية، ويعبر عن ذلك قائلاً “والذِّئْبُ أَرْحَمُ مِنْ إِخْوَتِي”. وبهذا يعبر الشاعر عن رغبته في الصلح والتسامح والمحبة، وعن رغبته في أن يتم إيجاد حلول لهذه المشاكل والصراعات بين الإخوة والأخوات في المجتمع. وتعبر هذه القصيدة عن المعاناة الإنسانية الشائعة والوجع الفني للشاعر، وتعكس شعوره بالأمان بالألم، وتُعَدّ هذه القصيدة إحدى أهم روائع الأدب العربي الحديث
الفيض الدلالي في قصيدة جواز سفر
لم يعرفوني في الظلال التي
تمتصُّ لوني في جواز السفرْ
وكان جرحي عندهم معرضاً
لسائح يعشق جمع الصور
لم يعرفوني، آه… لا تتركي
كفي بلا شمسٍ
لأن الشجر
….يعرفني
تعرفني كل أغاني المطر
لا تتركيني شاحباً كالقمر
كلُّ العصافير التي لاحقتْ
كفى على باب المطار البعيد
كل حقول القمح
كل السجونِ
كل القبور البيض
كل الحدودِ
كل المناديل التي لوَحتْ
كل العيونِ
كانت معي ، لكنهم
قد أسقطوها من جواز السفر
عارٍ من الاسم، من الانتماءْ ؟
في تربة ربَّيتها باليدينْ؟
أيوب صاح اليوم ملء السماء
لا تجعلوني عبرة مرتين
يا سادتي! يا سادتي الأنبياء
لا تسألوا الأشجار عن اسمها
لا تسألوا الوديان عن أُمها
من جبهتي ينشق سيف الضياء
ومن يدي ينبع ماء النهر
كل قلوب الناس… جنسيتي
فلتسقطوا عني جواز السفر
مفردات قصيدة “جوازُ سفرِ”، تتأرجح بين الأرض والوطن، يأخذنا محمود درويش في رحلة بحثٍ عن الذات، يرسم لنا الصعوبات والعراقيل التي يواجهها في هذه الرحلة. إنه صراعٌ بين الهوية والذات، صراعٌ ليس بالهين، يُجسدُ في هذه القصيدة بشكلٍ مؤلمٍ. ففي الشق الأول نجد الشاعر يُنكِرُ هويته ووجوده بأكمله، وفي الشق الثاني نشهد استخدام الذات الشاعرة لأدلةٍ حسية وشهودٍ غير قادرين على التحدث، لتأكيد أصله وهويته. وفي هذا التضارب بين الشقين، نجد الشاعر يُكبَّل بمشاعر الأسى والحزن
هذه القصيدة تحمل في طياتها مفهوم السفر والترحال والتنقل، هجرةً عن موطنه الأصلي ووجهته الجديدة، ولكن هذا السفر لن يتم إذا لم يتعرف الآخرون على هوية الشاعر. هذه القصيدة تُحاكي أطيافَ الحيرة، وتخدمها بشغف وحماسة، وتجعل القارئ يشعر بالألم والإحباط الذي يعيشه الشاعر، فهو بعيدٌ عن وطنه ومسقط رأسه، ولا يوجد لديه أملٌ في تحقيق ذاته خارجَ حدود الوطن. هذه القصيدة تعبر عن تجربةٍ مؤلمةٍ يعيشها الكثيرون، وتدفعنا للتفكير بعمقٍ في هويتنا ومن نحن وماذا نريد في هذه الحياة
في هذا النص، نرى الذات الإنسانية وهي تتعرض لسُلطة القوي على الضعيف بكل وحشية، وكأنها تقبع راضخةً لسلطة “الأنبياء” دون أن تقوى على تحديد مصيرها. وللتعبير عن هذه الفظاعة، يستخدم الشاعر صورًا شديدة الواقعية، فنرى الظلال ترفض التعرف عليه والألم معرضًا والجراح مفتوحة للعيان
وبعد ذلك، ينتقل الشاعر لقصة أيوب، الذي عانى من التهميش والنكران بشدة. ويبدو أن الشاعر يستصرخ بكل ما أوتي من قوة، يتوسل الأرض والمحبوبة أن يرحموه ويساندوه، لأنه ليس أكثر من ابن هذا الثرى، وهذا التُراب ابنه، وهذا المكان هو موطنه
وفي النهاية، يتساءل الشاعر: هل بت إنسانًا من دون اسم؟ من دون انتماء إلى الأرض الأصلية؟ كيف يمكن أن يتم ذلك، وهذا التراب هو جزءٌ منه، وهو يعتني به بكل حُب وتفانٍ
بكل هذه الصور والكلمات، يعبر الشاعر عن معاناة الإنسان في البحث عن الهوية والانتماء، وكيف يمكن أن يتعرض للتهميش والنكران من قبل القوي، ولكن حتى في ذلك الوقت، يبقى الإنسان يتمسك بأصله وهويته، ويحاول الصمود في وجه الإحباط والألم
تأخذنا قصيدة محمود درويش في رحلةٍ فريدةٍ من نوعها، حيث يتحدى الخضوع والانحناء أمام سلطة الآخرين، ويتبنى مكانته الحقيقية كإنسانٍ يستحق الاحترام والتقدير. يدعونا درويش إلى النظر إلى أصلنا وتاريخنا، وعدم الاستسلام للحدود المفروضة والجنسيات المزيفة التي تحرمنا من هويتنا الحقيقية
في هذه القصيدة، تتجلى قوة الشاعر في تصويره للوطن والأرض، حيث يجعل الأشجار تستمد ضوئها من جبينه والمياه تجري بفضل نبعه، وهو يعتبر جزءًا أساسيًا من هذه الأرض. يستنكر درويش جواز السفر الذي يحرمه من حقوقه كإنسان، ويصرخ بكل قوة ليطالب بإسقاط هذا العبء الثقيل الذي لا معنى له
ومن خلال هذا التصوير الحسي الجميل، ينجح الشاعر في تصوير دولة تسودها آماله وأحلامه المستقبلية، دولةٌ تحقق وجود جواز سفره وتحترم هويته. وعلى الرغم من أنه يتحدث عن نفسه، إلا أنه يمثل كل إنسان يشعر بحرمانه من حقوقه وهويته الحقيقية. وبهذا النص الراقي، ينجح درويش في إيصال رسالته بأسلوبٍ مؤثرٍ وجذابٍ يدخل القارئ في عالمه الشعري الممتع