“الوسيط والوسائطية”

“الوسيط والوسائطية”

(تتمة)  قراءة في كتاب

 للدكتور حيدر غضبان

 عند اندلاع الحرب العالمية الثانية ترك جاكوبسون براغ ورحل إلى إسكندنافيا، حيث كان مرتبطاً مع الحركة اللغوية في كوبنهاغن وقد كانت تربطه علاقة مع بعض المفكرين مثل لويس هيلمسيلف.  ومع التطورات التي حصلت في الحرب العالمية الثانية والتقدم نحو الغرب انتقل جاكوبسون إلى مدينة نيويورك حيث أصبح جزءاً من حلقة أوسع من المهاجرين من المفكرين والمثقفين الذين انتقلوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. كما قد كان مرتبطاً عن كثب مع مجتمع المهاجرين من التشيك خلال تلك الفترة. وقد تمكن من الاجتماع بالعديد من اللغويين وعلماء الإنسان الأمريكيين مثل فرانس بوا وبينيامين وورف و ليونارد بلومفيلد. وأصبح جاكوبسون مستشاراً في الجمعية الدولية للغة العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية. وانتقل جاكوبسون عام 1949 إلى جامعة هارفارد حيث بقي هنالك حتى تقاعده. وقد عمل في العقد الأخير من عمره في معهد ماسوشوستس للتكنولوجيا، حيث حصل على الدكتوراه الفخرية فيها. وقد تحول جاكوبسون في الستينيات إلى التركيز على تقديم نظرة أشمل للغة وبدأ جهوده للكتابة حول علوم التواصل بشكل عام

تدور محور نظرية جاكبسون حول الوظيفة ميتا لغوية métalinguistique

أي الوظيفة الشعرية للغة وهو صاحب نظرية أدبية الأدب، أي أن اللغة الأدبية تختلف تماما عن اللغة العامة لأن اللغة الأدبية لها قناة وسياق للرسالة التبليغية، فالأديب حسب جاكبسون له القدرة على الترميز لرسالته اللغوية

كما يعتبر جاكبسون مؤسس نظرية الوظائف التواصلية للغة بحيث يفرق بين ستة وظائف تواصلية يرتبط كل منها بأحد عناصر عملية التواصل: أفقيا المرسل والرسالة والمستقبل أما عموديا فهناك السياق والرسالة وقناة التواصل والشفرة

ويكون أحد هذه العناصر حاضراً دائماً في نص من النصوص وعادة ما يكون ذلك مرتبطاً بطبيعة النص. ففي النص الشعري مثلاً تكون الوظيفية شعرية فيكون عنصر الرسالة هو العنصر الأساسي. ويشير جاكوبسون بشكل عام إلى أن الشعر يمزج بين الشكل والمحتوى. وقد كان لأعمال جاكوبسون أثر عميق على الدراسات النفسية لأعمال جاك لاكان وفلسفة جورجيو أجامبين

واهتم رومان جاكوبسون أيضا بالترجمة وكتب مقالة مهمة ومفصلية في نظرية الترجمة أسماها (حول الجوانب اللغوية للترجمة) حيث فرق فيها بين ثلاثة أشكال للترجمة وهي

الترجمة ضمن اللغة الواحدة (بالإنجليزية: Intralingual Translation) وهي عبارة عن إعادة صياغة العبارات ضمن اللغة نفسها. الترجمة بين لغتين مختلفتين بالإنجليزية Interlingual Translation ‏ وهي نقل الرسالة من لغة إلى لغة أخرى

الترجمة إشارة لغوية إلى أخرى غير لغوية (بالإنجليزية: Intersemiotic Translation)‏ وهو ترجمة الرسالة اللغوية إلى نظام غير لغوي من الإشارات

وقد جمعت مقالاته ومحاضراته في عدة كتب منها

مبادئ اللسانيات العامة

الاتجاهات الأساسية في علم اللغة

ست محاضرات في الصوت والمعنى

ثالثا: الشاعر عارف الساعدي

ولد الشاعر العراقي عارف الساعدي عام 1975 في بغداد، وهو عضو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، حاصل على شهادة في الأدب العربي الحديث سنة 2007، وطالب دكتوراه في الجامعة المستنصرية. كان أول رئيس لرابطة الرصافة للشعر العربي، وفاز بالمركز الأول في مسابقة الصدى (المبدعون) للشعر في دبي عام 2000، وفاز بالمركز الثاني بمسابقة الشاعرة سعاد الصباح للشعراء الشباب سنة 2004، وأصدر مجموعته الشعرية الأولى بعنوان (رحلة بلا لون) عن دار الشؤون الثقافية بغداد سنة 1999. كما أصدر الشاعر كتاباً نقدياً سنة 2007، بعنوان (شعرية اليومي) تناول فيها شعر الشاعر عدنان الصائغ، وأصدر مجموعته الثانية عن سلسلة نخيل عراقي بعنوان (عمره الماء) 2009. هو من مؤسسي حركة (قصيدة الشعر) في العراق، ومن أحد الموقعين على بيان (قصيدة الشعر) سنة 2002، وشارك في العديد من المهرجانات الشعرية في العراق، ومنها مهرجان المربد لدورات عدّة ومهرجان الحبوبي ومهرجان المتنبي ومهرجان الجواهري، وشارك في مهرجانات عربية عديدة في الأردن وسورية ودبي وإيران، وهو أيضًا مقدم ومعد برامج ثقافية في قناة الحرة بالعراق

شخصيات أخرى

 عندما نذكر هذه الشخصيات فهو ليس من ترف الكلام وتنميقه، بل هو دافع ابستملوجي وبحثي، حتى نعرف الارتكاز والأصول المؤسسة لنظرية المؤلف في ترصيص مفهوم الوسائطية والكثير من المفاهيم التي أسسها في هذا الكتاب القيم فنجد

الكثير من المصنفين في الأحاديث النبوية والتفاسير مثل الشوكاني، الطوسي، الزمخشري، وعلماء اللغة مثل الجاحظ، عبد القاهر الجرجاني من القدماء ، ومن الغربيين بيتوفي وريزر وفان دايك وبرينكر دسيوسير، شومسكي ، الغذامي، فاطمة البريكي

لكن أهم الشخصيات التي ناقشها الكاتب هو الدكتور باقر جاسم في نقده لمحاولة الغذامي بإضافة عنصر سابع إلى نموذج جاكوبسون ولأهم ما ورد في كتابه النقد الثقافي

مستدلا بمقالته العلمية ” في الميتا نقد الثقافي لكتاب “النقد الثقافي: قراءة في الألنساق الثقافية العربية” المنشور مجلة الكلمة اللندنية

الزمان والمكان في الكتاب

المكان والزمان اللساني يبدأ عند الكاتب منذ عصور قديمة منذ عصر الأنبياء الأولين إلى سيد المرسلين إلى الحضارة الإسلامية العربية اللغوية بقلبها النابض الممزوجة بحضارة بلاد الرافدين العراق ومسقط رأس وعمله الأكاديمي بابل ، بابل آشور وحمورابي وميلاد اللغة الأولى والوسائط الابتدائية والنصوص الإبداعية الأولى كملحمة جلجامش وأسطورة “أدابا” وقانزن حمورابي …مرورا بعدة عواصم كانت تتسم بنهضة علمية ومعرفية تاريخية منها مدرسة براغ وكوبنهاكن إلى أن استقر جاكبسون بأمريكا، فكان مرور البحث زمانيا ومكانيا مرورا إيجابيا يعكس فكرة المشروع في النهوض باللسانيات العربية إلى مصاف المساهمات العالمية في هذا العلم الضروري لحياتنا الأدبية والمعرفية والتواصلية بصفة عامة

المنهج واعتماد المنهج النقدي

استطاع استيعاب نظرية جاكبسون لكنه لم يقف عند حدودها منبهرا بل وجد فيها الكثير من نقط الضعف منها على سبيل المثال

حدد جاكوبسون وظيفة الرسالة بـ) الشعرية (بناء على مجال خطاطته الضيق غير دقيق. لهذا ذهب المؤلف إلى التنبيه على ضرورة انفتاح الخطاطة على نموذج موسع على الأنشطة التواصلية غير الأدبية والأنشطة اليومية. ثم نجد إضافات قيمة على مشروع جاكبسون ك) الوظيفة القضوية (أي أن للشاعر قضية في رسالته الشعرية

كما أنه توجه بالنقد للساني العربي عبد الله الغذامي لأنه ناقض قوله بنظامية عنصر النسق في كتابه النقد الثقافي، إذ رأى أننا نجد تعارض نسقين أو نظامين من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر، وقد يكون المضمر ناقضا وناسخا للظاهر

الأسلوب

اعتمد أسلوب التكثيف والتركيز الشديدين دون الإخلال بالمعنى، لأنه أمام درس بيداغوجي لتأسيس المفاهيم الجديدة، بعد بسط نظرية جاكوبسون التواصلية. كما أن عربيته سلسة جذابة راقية مؤصلة على مصادر لغوية قديمة وحديثة. خاصة عند تأسيس معجمه الخاص سماه ب “الكلمات المفتاحية”: لسانيات، لسانيات تواصلية، نظرية التواصل، مدرسة براغ، التواصل اللغوي، الوظيفية. وإن كانت بعض هذه المصطلحات متداولة بين الألسنيين لكن المؤلف يدقق ويناقش حدود كل مصطلح وأحيانا ينسفه نسفا لتأسيس مصطلح جديد. وهذا ما جاد به الكتاب من إضافات قيمة. كما صنع في مبحث “معالجة مصطلح وظيفة الوسيط التواصلي”

قراءة في المشروع والمضمون

أـ في المشروع والمضمون

يقوم مشروع الكتاب على دراسة نظرية عناصر التواصل اللغوي ووظائفها ومناقشة معمقة ودقيقة لخطاطة جاكوبسون واقتراح نموذج موسع. هذه المناقشة انصبت على مقولات النظرية اللسانية التواصلية واختبار مدى صدقها.  وعلى دراسة عناصر التواصل ووظائفها النظامية، ومدى إمكانية إضافة بعض العناصر إلى عناصر التواصل الستة التي اقترحها، وتحديد الوظائف التي تقوم بها تلك العناصر المقترحة وأثرها في شعرية النصوص الأدبية. زيادة على إبراز سمة الدينامية لعناصر النشاط التواصلي ووظائفها التي لم يؤكدها جاكوبسون في دراساته. ليخلص بعد تلك المناقشات إلى اقتراح نموذج موسع للنشاط التواصلي

وتبرز أهمية المشروع اللساني في هذا الكتاب هو اجتراح مصطلحين جديدين في الدراسات اللسانية التواصلية، وهما عنصر “الوسيط” ووظيفته التي أطلق عليها “الوسائطية”.  ومما لا شك فيه احتياج اجتراح المصطلحات إلى تأسيس يرتكز على جانبين؛ مناقشة التأطير الجاكوبسني في خطاطته التواصلية، ومن ثم تعديل ذلك التأطير والإضافة عليه، ليأتي اجتراح المصطلحين في النهاية بناء على المناقشة والتعديل والإضافة. والتركيز على فكرة “الوسيط التواصلي”، ليضيف عنصرا جديدا لخطاطة جاكبسون سماه في بداياته الأولى بـ”أنسنة قناة التوصيل”، ثم سرعان ما أطلق مصطلحه الجديد “الوسائطية”. لأن جاكوبسون اهتم بالنصوص الأدبية والمنطوق منها تحديدا، متجاهلا النصوص الأدبية المكتوبة. فاقترح الكاتب توسيع مجال التواصل لأن تحديد وظيفة الرسالة بـ”الشعرية” فقط أمر غير دقيق، لأن هناك أنشطة تواصلية أخرى غير أدبية في حياتنا اليومية لذلك ذهب إلى العمل على نموذج موسع

كما يشير المؤلف إلى المحاولات السابقة لنقد خطاطة جاكبسون، تتمثل بمحاولة الدكتور عبد الله الغذامي بإضافة عنصر سابع على عناصر جاكوبسون وهو عنصر “النسق” واقتراح وظيفة له وهي “الوظيفة النسقية” فتوقف مع هذا العنصر وقفة تأملية وتحليلية معمقة، بل بين بعض أوجه النقص أيضا في نظرية النسقية دون التقليل من أهميتها وإضافاتها القيمة في نقد المنظور الجاكبسوني التواصلي

ثم انغمس في دراسة إشكالية في غاية الأهمية وهو أثر دينامية السياق في دينامية وظائف عناصر التواصل. فدينامية النشاط التواصلي يرتكز على دينامية عنصري التواصل) السياق(و)قناة التواصل، فهما اللذان يؤثران تأثيرا واضحا في دينامية وظائف عناصر التواصل الأخرى كالمرِسل والرسالة والمرسل إليه والشفرة

 ربما تظهر القراءة النظرية هنا معقدة شيئا ما، لذا ضرب مثالا تطبيقيا حيا كنموذج في تفسير الشوكاني للآية الكريمة من سورة الكهف الآية 86} حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ

  إذ رأى الشوكاني – من جملة ما رأى- أنه من المحتمل أن الله تعالى قد سخر لذي القرنين رؤية الشمس وهي تغيب في عمق البحر كأنها كرة متوهجة. فالسياق حمله على التفسير بما يتضمنه من التشكل المعرفي والتحصيل العلمي الحاصل في ذلك العصر، وهو الذي أثر على الشوكاني، وهو رأي تبطله الحقائق العلمية والفلكية اليوم التي تذهب إلى أن ظهور الشمس وغروبها مرهون بحركة الأرض حول نفسها. هنا يتجلى أثر السياق في تلقي النص وفهمه

وقد رجعت بدوري لتفسيره المسمى “فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من تفسير” فوجدت النص التالي

“قيل: ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك الشمس،، ولا يبعد أن يقال: لا مانع من أن يمكنه الله من عبور البحر المحيط حتى يصل إلى تلك العين التي تغرب فيها الشمس ، وما المانع من هذا بعد أن حكى الله عنه أنه بلغ مغرب الشمس ، ومكن له في الأرض والبحر من جملتها ، ومجرد الاستبعاد لا يوجب حمل القرآن على خلاف ظاهره “

فالشوكاني نقل ما وصله من تفسير بقوله “قيل” بمعنى أنه كان رائجا بين علماء زمانه أو الكتب والمصادر التي اعتمدها. لكنه تحمل مسؤولية جسيمة حين أقحم رأيه في الموضوع بقوله ” ولا يبعد أن يقال…. كذا على آخر ما جاء في تفسيره. مما يزكي نظرية المؤلف في تأثير دينامية السياق زمانيا وبيئيا في عنصر الوسيط بشكل ملحوظ وواضح

وهنا تبرز إشكالية منهجية، في هذا النوع من البحوث. فقد يعترض معترض على كما نرى في ساحتنا العلمية اليوم على إقحام المناهج الحديثة في تفسير نص مقدس هو القرآن الكريم كما صنع المؤلف هنا، وهي ليست الوحيدة، بل استعمل هذا المنهج في دراساته ومقالاته المتعددة وفي عدة فصول من هذا الكتاب. لكني لا أرى مشاحة أو استشكالا في الأمر فهو منهج أصيل في تراثنا الإسلامي فكثير من القدماء استعمل في تفسير آيات الذكر الحكيم النحو والإعراب والبلاغة وهي قواعد وضعية بشرية وقد تأثرت في تأسيسها بالمنطق الأرسطي، كما فعل الزمخشري في الكشاف والسيوطي في إعراب القرآن وغيرهم كثير

كما وقف المؤلف مطولا في تحليل أثر دينامية قناة التواصل في دينامية وظائف عناصر التواصل. فيستعمل مصطلح قناة التواصل) (transmission de (Canal) في تحليل الخطاب “لتسمية الوسائل التي بواسطتها ترسل إشارات الشفرة من مصدر إلى مكان الرسالة. هذا المصطلح قليل الاستعمال في تحليل الخطاب، إلا إذا ما أريد منه الحديث عن ظروف التواصل المادية، على أن يأخذ بعين الاعتبار نقل الكلام من المتكلم إلى المتلقي. فهنا يأخذ خصائص الحامل الفيزيائي الذي يمر عبر الكلام عن طريق قناة الإرسال. ولهذه الخصائص تأثير ثابت في طرق تبليغ التواصل انطلاقا من كون المرء يستعمل اللغة بنفس الطريقة عندما يبلغ شفويا أو كتابيا، وبطريقة مباشرة أو مؤجلة، وبواسطة نشر يعتمد الورق أو الوسيلة السمعية الشفوية، أو السمعية البصرية. إن الوسائطية هي الفن الذي يهتم بدراسة خصائص حوامل الإرسال أو قنواته” مثل الوسيط الإلكتروني والفضاء أو البث الأرضي يتيحان للمرِسل وسائل تعبيرية جديدة تفتقر إليها الشفاهية والكتابية معا، إضافة إلى أنهما يفتقران إلى الوسائل المتاحة في الشفاهي والكتابي. فـ “قد يختلف الشعر الإلكتروني والشعر الرقمي عن النص الورقي في أنه يستخدم عددا من التقنيات التي لا يوفرها النص الورقي التقليدي، كالاستعانة بالصوت والصورة وغير ذلك، ولكنه في الوقت نفسه يكون تفاعليا، يقدم للقارئ نصا جاهزا، وهذا النص الجاهز يستدعي من المتلقي أن يستقبله كما هو دون أن يشارك فيه، أو يحاول أن يغوص فيه بشكل مختلف عن الشكل الذي بناه عليه مبدعه”

بـ ـ المناقشة فالتعديل والإضافة فالاجتراح

لم يكن هذا العمل ترفا وانما هي فكرة أرشدته إليها نصوص عارف الساعدي الشعرية. اهتدى المؤلف إلى معالجة عناصر التواصل اللغوي كلها مستجليا خصائصها وسماتها واضعا نصب عينيه هذا العنصر المهيمين على نصوص عارف الشعرية وموازنا بينه وبين تلكم العناصر التواصلية السالفة الذكر. حتى انتهى به المطاف فيما بعد أن يسمي هذا العنصر الجديد بـ “الوسيط التواصلي”. من هنا بدأت المغامرة البحثية تأسيسا له بمناقشة خطاطة جاكوبسون وتعديلها والإضافة عليها، ومن التأسيس الاصطلاحي والمفاهيمي للوسيط التواصلي وتحديد وظيفته الوسائطية وتجلياتها في النصوص المختلفة

ولم يشبع التأطير والتنظير للوسيط التواصلي رغبته، إذ طالما آمن بضرورة تعضيد التأطير المفاهيمي بدراسة إجرائية وهذا ما اعتادت عليه النظريات اللسانية المختلفة. ف”الإجراء مصداق التنظير، ولا مجال للتصورات من دون مصاديق. ووظيفته فيها. لذلك جاءت الدراسة الثانية لتكون مصداقا للدراسة الأولى”

ج ـ الفصول

فصول الكتاب ومباحثه كانت متسلسلة واحدة تكمل الأخرى في تناسق ووحدة موضوعية منسجمة. وسيرا على النهج الأكاديمي فقد كانت المقدمة توضح نية المؤلف وأهدافه والأسباب والمسببات والهواجس العلمية التي دفعته إلى هذا المشروع

أما الفصل الأول فقد كان بسطا علميا لعناصر التواصل اللغوي ووظائفها ومناقشة لخطاطة جاكوبسون مناقشة داخا المنظومة بشكل دقيق وبمنهج نقدي يبين مكامن النقص العلمي في الخطاطة ليؤصل أطروحته باقتراح نموذج موسع لهذه النظرية. وذلك عبر عدة محاور تناولت بسط نظرية جاكبسون والاتجاه الوظيفي عند مدرسة براغ، وعناصر التواصل، ودينامية، وظائفها. ثم ميدان خطاطة جاكبسون ووظيفة الرسالة في المجال الموسع. بعدذلك ذهب إلى التحقق من كفاية خطاطة جاكوبسون في توصيف عناصر الأنشطة التواصلية.  ولم يكتف بذلك، بل ذهب إلى دراسة أثر دينامية قناة التواصل Canal de transmission في دينامية وظائف عناصر التواصل

ليخلص في الأخير إلى التأسي لمشروعه العلمي “الوسيط التواصلي “شارحا مفهوم الوسيط التواصلي وخصائصه وكذا مصطلح وظيفة الوسيط التواصلي ومظاهره التي تتجلى في اختيار الله تعالى الأنبياء كوسائط بين الناس والله عز وجل. ورواة الأخبار والعلوم الإسلامية كعلماء الجرح والتعديل ورواة الشعر، والآداب والفنون القديمة والترجمة

كما ذهب إلى دراسة عنصر دقيق وهو أثر “الوظيفة الوسائطية” في شعرية النص الأدبي، ثم الانزياح في استعمال الوسيط التواصلي. فوجد أنه لا بد من تذويت الوسيط التواصلي للنص الأدبي يعني “أدلجة ” الوسيط التواصلي للرسالة، أي إكساء صبغته الشخصية على النص الأدبي كما سنرى مع الشاعر عارف الساعدي ووظيفته “القضوية”   الذي يتجلى في قضية “الحيرة” كعنصر مهيمن في شعره، كما جاء بوضوح في نص يا إلهي “أنا حائر حائر حيرة الحر بين العبيد”

د ـ نتائج البحث وتوصياته

 وهذه ميزة منهجية دقيقة، فقد وضع ورقة علمية كخريطة طريق لمشروع الكتاب العلمي يمكن أن يكمله المؤلف بنفسه أو يطلقه للقراء والباحثين المتخصصين لاستكماله وتطويره. وهذا خط علمي راقي ومتميز جدا

أما الفصل الثاني الذي جاء تطبيقا عمليا للنظرية التي بسطها في الفصل الأول،فانصبت الدراسة على شعرية “الوظيفة المهيمنة” في قصائد الشاعر عارف الساعدي وأثر الوسيط التواصلي فيها باتخاذ الأعمال الشعرية للشاعر العراقي عارف الساعدي التي صدرت ما بين 1995-2015، ومجموعته الشعرية “آدم الأخير” ميدانا إجرائيا لاستجلاء مظاهر ظهار وأثر تحقق الوظيفة الشعرية للوسيط التواصلي فيها ، واستند في هذا البحث على مقولة “الأبنية الكبرى” الشائعة في لسانيات النص وتسخيرها في استجلاء الوظيفة المهيمنة الكبرى في نصوص عارف الساعدي

وتوسعا في منظور فان دايك للأبنية الكبرى استثمر مقولته بأن القضايا الجزئية تترابط فيما بينها بروابط لفظية لتشكل في النهاية المعنى التجريدي للبنية. وبذلك تتحقق بها الوظائف المساعدة وتتضافر تلك الوظائف لتحقق شعرية الوظيفة للوصول إلى القضية الكبرى المهيمنة، هي الروابط التي تهيمن -بتعبير فان دايك- أو الوظيفة المهيمنة -بتعبير جاكوبسون-

وباختصار، الوظيفة هي المهمة المهيمنة على العديد من الرسائل. وفيما يتعلق بالنص الشعري فإن الوظيفة المهيمنة فيه هي “الوظيفة الشعرية” التي تتعلق بالرسالة. بوصف الشعر “عملا إبداعيا وفي الآن نفسه رسالة لفظية تتدخل فيها عبقرية المؤلف لتنسج أبنيتها داخل نظام لساني

 فهي إذن وظيفة غائية لها قيمتها الذاتية الخاصة. غير أن الوظيفة الشعرية ليست الوظيفة الوحيدة في الشعر، بل هي الوظيفة المهيمنة فيه، لذا ينبغي ألا يتوقف عند الوظيفة الشعرية في التحليل اللساني، فهي ليست سوى عنصر في بنية معقدة، بحيث تبرز إحدى وظائف عناصر التواصل لتمنح النص الشعري “الرسالة”. ومن هنا يظهر أثر تضافر الوظائف التواصلية في تحقق الوظيفة الشعرية في النصوص الشعرية، ومنها الوظيفة التعبيرية للمرِسل، التي “تهدف إلى تعبير مباشر عن موقف الشخص تجاه ما يتكلم عنه، وهي تميل إلى إعطاء الشعور ببعض الانفعال، حقيقيا كان هذا الانفعال أم مصطنعا”

وتظهر الوظيفة التعبيرية في نصوص عارف الساعدي الشعرية بـ “الحيرة” المتبدية، التي أنتجتها معاناة الشاعر. لذلك احتلت تلك الوظيفة المركز الأول في إضفاء “الشعرية” على مجاميعه

ليذهب إلى إبراز نتائج الوظيفة المهيمنة والرصيد المعجمي للشاعر، ومدى تضافر وظائف عناصر التوصيل لتعزيز شعرية الوظيفة المهيمنة. وكذا عتبة العنوان والوظيفة المهيمن، وبالتالي “تيمة” وعتبة العنوان والأبنية الكبرى في مجاميع عارف الساعدي الشعرية

ملاحظات نابعة من شرارة قراءة الكتاب

وأخيرا يمكن القول أن الكتاب الجيد هو الذي يخلق لديك قلقا نابعا من شرارة الأفكار التي يطرحها ويشعل جذوة السؤال والتساؤلات أكثر، وتنتهي من القراءة وأنت تبحث عن إشباع عقلك بمعارف جديدة تتمنى لو أن الكاتب ما زال يغديك بأفكار وتحاليل لا متناهية. فمن وحي هذا الكتاب الماتع اشتعلت في رأسي عدة تساؤلات تتعلق بالكتاب أو المشروع أو حتى مادة اللسانيات العربية بصفة عامة منها

هل يمكن تطوير الوسائطية عربيا من خلال التراث وبما يكتنزه التراث من علوم موازية لتطوير قراءة هذا التراث من جديد؟

هذا يدفعني إلى التساؤل بصراحة عن نظرية التواصلية أو الوسائطية في التراث العربي والإسلامي عبر التاريخ وإن كان عرفت بمصطلحات أخرى؟ كما فعل الجاحظ فهو استعمل القائل عوض المرسل عند جاكبسون، والسامع عوض المرسل إليه، وكشف القناع عوض الشفرة، والغاية عوض التأثير، والبلاغ أو التبليغ عند غيره من اللغويين العرب القدامى

ما هي علاقة المدرسة التواصلية مع باقي المدارس من تفكيكية دريدا إلى تأويلية غادامير وبنيوية دي سوسير …؟؟؟

ما مدى تأثير مدرسة جاكبسون في المجال اللساني العربي؟ وهل يمكن أن تؤسسه مدرسة لسانية تواصلية / وسائطية عربية؟

ما مصير المدرسة التواصلية الوسائطية في ظل التطور الإبداعي التفاعلي؟ هل يمكن أن تتحول الوسائطية إلى التفاعلية كما نرى اليوم من انتشار ساحق للأدب التفاعلي كما تقول فاطمة البريكي؟

هل يمكن أن نتحدث عن هوية لسانية عربية عموما وتواصلية بلغة جاكبسون أو وسائطية بلغة حيدر غضبان؟ أم مازلنا ننتج بحوثا هنا وهناك أو ترجمات لأطروحات الغير أو نضيف إليها وننقحها أو ننتقدها فقط؟ أم هناك أزمة في هذا التخصص رغم ما نملكه من تراث في فقه اللغة وفقه الألسن كما يقول الدكتور عبد الرحمن بودراع من المغرب؟

قراءة: محمد لحسن الحراق

كاتب وباحث مغربي مقيم ببروكسيل / بلجيكا 

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com