في القنطرة جلجلة
في القنطرة جلجلة: الجزء الخامس
استيقظ متروي على صوت مواء قطط ونباح كلاب وغناء عصافير. في البداية، اعتقد أنه يحلم. بقي مستلقيا على السرير الخشبي، الذي يعتبر من الأثاث المقدس بالنسبة إليه ويساعده على النوم في راحة نسبية، بسبب آلام الظهر. استمر يتردد، وهو الذي انقطع عن الصلاة، هل يقوم لصلاة الفجر أم لا؟ وازداد تردده مع وجود ديكورالكنيس والكنيسة والمسجد يسائله عن شطحاته المسترسلة منذ مدة. تردده لا علاقة له بالإيمان والإلحاد أواللادين. أبدا، فهو ينحدر من عائلة اشتهرت بالتصوف، ويتصوف على السليقة أحيانا، ومسألة الإيمان، بالنسبة إليه، غير مطروحة تماما. ولكن الذي أصبح يرهقه، هو إمكانية الاستحواذ على المسجد من قبل من لقبهم رائد بالمتشددين. من غير المعقول أن يحدث مثل هذا الفعل، لأن المساجد متوفرة بكثرة ــ وهي دائما شبه خالية، إلا خلال شهر رمضان. ابتسم، عندما تذكر أحد السياسيين المثيرين للجدل حين قال: “لو فكر بعض المحسنين في بناء مدرسة ومستوصف من بين كل عشرة مشاريع يمولونها، عوض المبالغة في بناء أماكن عبادة لا يرتادها إلا قلة، لخففوا العبء على الدولة وأصلحوا الشباب الغارق في وحل اللاهوية.” جوبه السياسي، حينها، بوابل من الشتائم والانتقادات ذهبت إلى حد هدر دمه. ولكنه لم يسكت وأعاد الكرة، عندما استحوذ أحد المنعشين العقاريين على قطعة أرض تتكون من عشرات الهكتارات كانت قد تبرعت بها سيدة محسنة لتكون مقبرة لدفن أموات المسلمين، وحولها إلى عمارات للسكن بلغت من البشاعة الهندسية ما يعجز اللسان عن وصفها
لكن من بين الأسباب التي منعت متروي من القيام للصلاة، أنه بدأ يفقد الثقة في نفسه. علاوة على تفاقم الأوضاع، بزغت هوة صغيرة تتعلق بمدى قدرته على دفع مصاريف الحياة والحفاظ على المظهر المتميز الذي اكتسبه. فالمبلغ الذي كان يتوفرعليه، من موارد مختلفة قبل أن ينتقل إلى القنطرة، والذي كان محترما جدا، إضافة إلى ما حصل عليه من المشاركة الرمزية في الفيلم، بدأ يتقلص. كما أنه لم يرد أن يلجأ إلى حساب في دفتر التوفير يتوفر عليه، لأن ذلك يتطلب منه السفر إلى أݣادير؛ وهو الشيء المستحيل في الوقت الراهن
عاد ليستمع إلى مواء القطط ونباح الكلاب وغناء العصافير، فقفز من السرير، وكأن يدا خفية وخزته. أدرك أن شيئا غريبا ما قد حدث. رباه! عادت الكلاب والقطط من جديد، بعد أن تم طردها عشية بداية تصوير الفيلم. كان غناء العصافير جميلا، شعر وكأن روحا جديدة نفخت في داخله؛ نوع من الراحة؛ شكل من الطمأنينة. ربما ستعود الجرذان أيضا ــ إن لم تكن قد عادت وتختبأ في مكان ما. خرج إلى ساحة القنطرة. لاحظ ما يشبه أشباحا تتجول في كل الجنبات. قرص وجنتيه ليتأكد أنه لم يكن يحلم. تحولت الأشباح إلى بني آدم. ابتدأ الرواج باكرا. توجه إلى المرحاض، كان الماء يسيل من حنفية تركها أحدهم مفتوحة. لم يتوضأ. عاد أدراجه إلى العربة. لم يدر إلا وهو يتناول كتابا. لم يفتحه. ما الفائدة؟ مرت قطة من أمامه تحاول اقتناص فأر صغير. أين هي الجرذان؟ كانت ستمنعها من قتل الفار. ظهرت كلبة تتبعها جراء. لم يتوقفوا عند العربة وتابعوا سيرهم قبل أن يختفوا وراء القنطرة. إذا كان لا يحلم، فما معنى كل هذا؟ من قرر السماح للقطط والكلاب ــ وربما الجرذان ــ بالعودة؟ وهل يدخل هذا الإجراء في إطار مناورة جديدة؟ ومن يكون وراءها؟
أحس برغبة في التأمل. تجاهل كل ما يدور حوله، وقصد قمة القنطرة، كما كان يفعل في الماضي القريب. أغمض عينيه لدقائق، ثم بدأ حركات يوغا يثقنها جيدا. اليوغا والخيط الرفيع الذي كان يربطه بنفسه كي يغديها ويقاوم الرغبة في الاستسلام! أغمض عينيه، وغطس في الماضي. عادت صور رائعة لتسوقه إلى ما كان دائما يبحث عنه: الطمأنينة.
“كانوا ثلاثة أصدقاء. ارتأى استاذ الفلسفة أن يطلعهم على تجربة جديدة تختزل المسافة بين ما هو تأمل وروحاني وهلوسة ووسوسة واستلاب وبحث عما يشبه حقيقة غائبة. شدوا الرحال إلى إيمواز إد أوتنان في المرحلة الأولى. التقوا برهبان في قمة الجبل يتعاطون اليوغا ويعيشون كنباتيين. كانت تجربة رائعة وخطيرة في نفس الوقت. الهدوء في قمة الجبل وسكان القرية في أسفل السفح لايقلقون راحتهم. كان الراهب الأكبر والمريدين من جنسيات مختلفة، ولا يعيرون للدين أي اهتمام خاص، لأن الذي كان يهم قبل كل شيء، هو الانضباط والسعي إلى تنقية الذات من كل السموم الدنيوية وغير الدنيوية، حسب معتقدات كل فرد من المجموعة. ثم بعدها، كان السفر إلى مولاي إبراهيم. تجربة مختلفة وأفكار اختلطت فيها الرؤى والتصورات. كانت، على عكس تجربة إيموزار إد أوتنان، حبلى بالتناقض. اشتبكت فيها التجليات الروحية والدنيوية وعصفت بكل محاولة لتوحيد الرؤى. سألهم أستاذهم عن الخلاصة التي توصلوا إليها من خلال رحلتهم. لم يستخلصوا شيئا. سنوات بعد الرحلتين، علم متروي أن صديقيه اختارا وجهتين مختلفتين: الأول استقر في إيموزار إد أوتنان، حيث اهتم بتربية النحل وإعطاء دروس بالمجان للأطفال؛ والثاني سكن في قمة جبل قريب من مولاي إبراهيم، وخصص جل وقته للتأمل، والعناية بتعاونية نسائية لصناعة الزرابي التقليدية، إضافة إلى تدريس اللغة العربية لفائدة أمازيغ المنطقة، رغم معارضة بعض الأعيان. أما هو، متروي، فاختار العودة إلى تافراوت، حيث بدأ معركة جديدة للتخلص من تأثير الرحلتين. ولكنه، لم يفلح.”
“سأله رائد ذات يوم
ـــ ما الذي يعجبك في لحظات التأمل وفي حركات اليوغا؟
ـــ الطمأنينة. أشعر بالطمأنينة، وكأن الوجود وحدة متصلة ولا أسمع أي صوت مزعج؛ أتجرد من كل شيء وأنسى حتى أنني موجود
ـــ أين تعلمت هذا؟
ـــ نحن لا نتعلم مثل هذه الأشياء. هي تتواجد حولنا في كل ثانية ودقيقة، ولكننا لا نراها؛ وفجأة نجد أنفسنا داخلها، لأنها رأت، في لحظة ما، أننا يجب أن نكون هناك. كثير من الناس يتحدثون عن رؤية أو عن إلهام حين يريدون تفسير أشياء عميقة ظهرت في حياتهم وغيرت سلوكهم ومعتقداتهم
ـــ ويشعرون بالطمـأنينة التي تتحدث عنها
ـــ وبالإيمان أيضا. الإيمان ليس عملة واحدة من صنف واحد. الإيمان مثله مثل الحب، له أوجه متعددة. ولكن الناس يغفلون ذلك
ـــ والسبب؟
ـــ الوثوقية. اللون الواحد. الأبيض ضد الأسود. الحق والباطل
ـــ الناس تولد صفحة بيضاء، ومع مرور الزمن تتلون ولا يد لها في ذلك؟
ـــ ربما! وحتى ولو كان زعمك مصيبا، فيجب وضعه في السياق الذي ورد فيه
ـــ هل أنت متصوف حقا؟
ـــ نوعا ما. أنا أنحدر من أسرة عرفت بتصوفها أبا عن جد
ـــ هل التصوف وراثي؟
ـــ لا أظن ذلك، ولهذا، فإن حكاية الصفحة البيضاء تحتاج إلى تفسير أوسع. العلم أصبح يتدخل في تكوين شخصية الجنين وهو لم يكتمل بعد في بطن أمه. والاتجاه يسير نحو خلق إنسان خارق يشرعن تفوق نخبة من الأفراد سيوكل إليهم الحفاظ على الجنس البشري من الانقراض
ـــ وهل توجد طريقة ما للدخول في سلسلة التصوف أو التأمل؟
ـــ لا. كل حركة أو سلوك ــ أ كان عميقا أو شكليا ــ مرتبط بالتوقيت وبالسياق
ـــ أتفق معك
ـــ لا يوجد في الواقع أي اختيار عشوائي
ـــ الاختيار العشوائي جزء من منظومة الوجود الذي نعيشه
ـــ صدقني، يا بني، لا توجد وصفة مثالية لكل ما نريد. ولهذا، يبقى التأمل، عن طريق اليوغا أو التصوف، أو عن أي طريق يثلج الصدر، السبيل الوحيد لمصالحة الذات، مهما كلف ذلك من ثمن
(يتبع)