ليسَ هنالكَ من اِندماجٍ مطلقٍ حينَ نباشرُ كتابةً ما، مخصوصةً مستفزّةً ومحرّضةً، ليسَ هنالكَ من معالمَ ثابتةٍ أو عوالمَ بعينها نرصدها أو نقعُ عليها، حالةُ الحالات دائما أو الكينونة المتشظيّة في تنفّسها أو في إيمانها بالكفر، اِحتمالاتُ اقتضاءٍ لايقينَ لهُ في شكّه، أو قَبولهِ في المستقبلِ القريب، هكذا تبشّر تجربةٌ تديمُ مطال إنشائها حتّى تحييه، في محاولة أخرى لتجربةٍ جديدة، لتصمّم على الفعل أو على الوجود على الحدود، على الكتابة مقاومةً متجدّدة حتّى تسفَر أو تسافِر من منحنى إلى آخر، أو حتّى تجدَ نفسها دائما على الخطّ وفي مستوى المراهنة، تطول ولا تقصُر في تماسٍ مع كلّ شيءٍ، ترى من قريبٍ أو تُرى من بعيدٍ أجراسا وحكاياتٍ، هل هي الوجوديّة مرّة أخرى كباعث في العمقِ أو كقادحٍ للمواجهةِ، توجّه شاعرنا عادل المعيزي في كلّ مرّة نحو شخصيّة شعريّة تونسيّة مميّزة بملامحها في التّفلسف اليوميّ أو في النّقاش، يتقاطع فيها الشّعريُّ بالحياتيّ، الدّاخل بالخارج، من دار “شمتو” إلى سائر العناوين الجديدة، عبر طرائقه أو عبر تسفاره الحيّ، يكادُ ولا يكاد، العهدُ نفسهُ للشّعراء لا يغادرون متردّمهم، شأنهُ في تجديد طريقته أو في حياته بالشّعر
تقديم
التّأطير لا يعسر حينَ نجابهُ تلكَ الزّمنيّة المحتجّة النّاهضة من مسالكَ شتّى تؤثّثُ وجهتها الحديثة في العاصمة مع مفتتح تسعينات القرن الماضي، كانت على اعتقاد أنّ الاجتماع بين الوجوه الحاضرةِ نوع آخر من الوجود، مع أولاد أحمد أو مع المزغنّي أو مع الميداني …ذواتٌ حضنت تلك الثلّة المغامرة تتنازع في الأبياتِ، بأصوات متشابهة متباينة في آن
عادل المعيزي من بينها، من مؤلفيها ومؤَلَّــفاتِها، القصديّة لديهم عموما هي حياة ثانية تخالف الواحدة الأخرى في ظلّ تزاحم حول توظيف التّفعيلة وأختها، أو حول جدوى الأسطورة واستعاراتها، أو حول النّثر في الشّعر والشّعر في النّثر حالاتِه مقتضياته في السّياقات، أو في الفرق بين تلك الطّليعةِ وهذه، أو ذلك السّور وجماعته وهذا السّور وأصحابه من الطّلبة والعصاميين والصّحفيين والّذين جابتهم أقدارهم إلى هذه المدينة وزحمتها بهواجسها وهوامشها، من أجل شعريّة حرّة تونسيّة بطابعها التفسّحي حول منتقيات ملارمي أو هيغو أو بودلار أو غيرهم من متنفّسات التّلقّي من الضفّة الأخرى من المتوسّط إضافةً إلى صدى الأصوات من المدرسة العراقيّة أو من مسرّات مديح الظّلال أو معيشها عند درويش أو نزار أو أدونيس أو النوّاب
وللعمود دائما حضور في استشهاداتهم عن حالة الوقوف، أو وقوف الكأس، من حكم الرّحلة وشواردها إلى جلسات الحواضر والاخضرار وتكسّبها، والقديمُ جديدٌ في الحافظة أو في الذّاكرة الحيّة، فاكهةٌ وحجاج
عادل المعيزي واجهة لكلّ هؤلاء، شعراء التّسعينات بعد غرور سادة مقهى “شي ليناقر”، ناقش محدوديّة شعريتهم “المناضلة” في أخذ وردّ اعتباري إيجابيّ في النّهاية، نهايته صوتٌ صاعدٌ متاخم للبوهيميّ التّونسي الحديث في شباب مستفزّ ينهض على التحدّي من مقامٍ إلى آخر، بين فضاء بيت الشعر في “تـُمْبُكِ تأسيسه” إلى فضاء النّخلة بشارع باريس في “عنفوان ميدانه”، تولد القصائد ويولدُ الشّاعر وتتولّد الحلقةُ
والبيّنةُ على ذلك المجموعة الأولى بعد عَصبيّةٍ مفعمةٍ باللّهوِ والمسرحةِ والذّكاء، باكورةٌ عالية عن دار الأطلسيّة 1998 “وطّان القصيدة” وقد أخذت حيّزها من الاهتمام الصّاعد احتفاء بصوت جريءٍ في مقاربته للنصّ وللحياة
تلتها مجموعاتٌ خلّقت الشّاعر مرّاتٍ ومرّاتٍ “أحبّك حين أحبّك” سنة 2002، و”حكمة العصر2003 “مطبعة سيراس، و”أمس منذ ألف عام (رواية شعريّة) عن دار الفارابي 2004، و”تطير الخطاطيف بي”(أقاصيد) دار ورقة للنشر2009، و”أما أنا فلأيّ فردوس”(يوميّات شعريّة) دار المها 2011، و” قصائد مؤقّتة (إرساليّات شعريّة) منشورات كارم الشريف 2014، و”استدارة كاملة ينقصها جناحٌ”(بعد الشّعر) دار شامة للنشر 2019، و”هذا الّذي يقوله الجسد”(تدوينات شعريّة)2020، ثمّ ” من النّافذة تطلُّ شروخُ النّهار”(يوميّات روائيّة)2022
ومازال المدُّ متواصلاً في إطلالات شعريّة تتوزّع فيها الأسئلة واجهةً مواجَهةً طفوليّةً كعقيدتها منذ البدايةِ عندهُ، يرومُ فيها المعرفة حول الكينونة المتغيّرة للمفردِ الشّاعر يحاولُ وجودَهُ، عادلُ هذا، هكذا له قابليّة التّواصل حول النصّ بحريّة اِختياراته لا ترسي على برّ منذ انبهاره باللّعبةِ وحتّى اليوم تشاغبهُ أنفةُ الانتماء بعد الّذي جرى من أمر البلادِ والعباد، ومن النّصوص تتوافد من كلّ سيرةٍ وجانبٍ، ظرفيّاتٌ وجهّتنا لاقتفاء هذه العلامة الشّعريّة في ممارستها للكتابة حرجا مكثّفّا لتأصيل كيانه ولطرائقه في التّداول المخصوص من ورشةٍ إلى أخرى في قناعةٍ تكادُ تفرز منحًى يضربُ في الشكِّ في مشروعيّةٍ قديمةٍ جديدةٍ تحتّمهُ وجها للكتابةٍ لا تستقرُّ على حالٍ، والدّلائلُ نماذج من قصائد أظهرت ماديتَّها رغم صعوبة الكلام على الكلام، إلاّ أنّ ما عاشَرْتُه من معينٍ إنسانيِّ تاريخيٍّ مباشر نقابلهُ فيقابلنا هو ما قرّب لنا الوجهةَ حتّى نقرّبه للمتلقّي شاعرا مفكّرا بأسلوبيّة مشتركة يتعاضد فيها التفعيليّ بالنّثريّ وينفرد فيها الخاص الحميميّ والدّاخليّ جداول وممرّات تأخذنا إلى معرفة المعيزي، أليس الشّعر من الإنسانيات المؤرّخة للفضاء وللذّات، للفعل يصف ذاته بين الأفعال عملا لغويّا يسأل ليسأل من جديد، هذا ما فضّله منشئُنا في رحلته التُّونسيّة تمتح من المغمور وترصد من المأمول، ما به تنسج خطاباتِها فسحاتٍ من تأويلات ممكنة وطريفةٍ
عادل المعيزي: بين الطرّيقة والطّريق
منذ ذلك العنوان التعريفيّ ” وطّان القصيدة” ترسّخت صورة عادل المعيزي بين أقرانه من الشّعراء وجها طافحا سرّع من وتيرة الإنشاء الشّعريّ التُّونسيّ، غير أنّ مناسبتَنا هذه هي لرصد تمشيّاته في قناعته أنّ الكتابة لا تكون إلاّ بالتجديد إلاّ بطرق مسالك أخرى في جدليّة تأخذ ممّا هو مضى وممّا هو سيأتي كان المنزع الرّومنطي الحاضنة التجريبيّة الأولى، والتوظيف للأسطورة نسقا تصاعديّا تتنوّع فيه أساليبٌ تونسيّة تتوازى كتابة صاحبنا مع غيرها من الكتابات “المنافسة” غير أنّ نموذجه كان قابلا للقسمة، للتأويل الاستعاري القريب من الذّات التّونسيّة، لا يطيل صيرورة التّركيب ولا يربكُ سير التّقفّي، نرصد منه هذه الأبيات في دواخلها المفضوحة حين يدلي في “وطّان القصيدة” أو في “تطير الخطاطيف بي “مسارات حكائيّة تتشكّل من الدّاخل الشّعري من لغة تتوسّط حبكتها، شيء من حركة التصّوف، شيءٌ من شبكات الرّوافد المحيطة المعاصرة الحاضرة بقوّة التّأثير، مازال منشئنا لم يتخلّص من تبعيّات محاكاتها، غير أنّ نسقيّات الوزنيّة المتداركة هي من حيّرت هواجس اِنفعاليّة عند ذائقة جديدة بدأت تحفل بالغريب ” اللّذيذ” الرّومنطيقي الوجودي المحفّز لإعمال رياضيات التّزاوج بين العلامة اللّغويّة في اعتباطيتها داخل البنية التّسعينيّة التّونسيّة وبين وقوعها أيضا على وجه الشّبهة، وفكّ شفرات هذه الاستعارات الممكنة بكلّ عذوبة التّنصيص الحداثي لشعريّة التّفعيلة في مشتركها الإنشادي المعاصر
اللّيلُ فاتحتي وفاتنتي القصيدةُ
اللّيلُ أشواقٌ مُضرّجةٌ وما يأتي من الأحراشِ
من تعبِ العوانسِ في مواويلِ الرّعاةِ
اللّيلُ ما تأتي بهِ الأحزانُ والذّكرى
وما يرسي مع البحّارِ من خللِ السّباتِ
واللّيلُ يمضي
مثلما تمضي برونقها البديعِ حكاياتي
رغم ما انسجم معه من طرف الخيطِ في ألعابه معها، مع النّصوص تخبره عن قدرته على الإدارة والتّدوير، غير أنّ قلقه من مستقرّاتها هذه أوجب عليه التّغيير، وما تمثيله لمختلف إنتاجاته مرّة بالأقاصيص” ومرّة “بالإرساليّات” وأخرى ب “التدوينات” وبعد ب” بعد الشّعر”.. إلاّ أدلّة قاطعةً على هذا التمشّي المتصاعد نحو إنشاءات أخرى لا تحتفل كثيرا بالوزن أو بالعجنِ، لا تكترثُ كثيرا للإعجابِ، هي طموحةٌ لإرضاءِ صاحبها حتّى لبعضِ الوقتِ
الطّريقةُ حينئذٍ من الخارجِ أيضًا من المجاورِ والحتميِّ، من التنفّسِ بين المجرّاتِ الصّغيرةِ، أحلاما ورؤًى، تقديراتٍ من الغيبِ، تأثيراتٍ من مشهديّاتِ معاصرةٍ لمسرحيّاتٍ وأفلامٍ يحاولها بالمراجعةِ والكتابة مواقف من ذاكرةٍ مضت وأخرى تتنامى في المخيّلة، والقلبُ نفسهُ، والموسيقى لا تخون، والتّفعيلةُ تحضرُ وتغيبُ، يبعدُ عن التّسعيني، والتّسعينيّ فيهِ يمكثُ بصرختهِ الأولى، والدّلائلُ لغةٌ تشهدُ بذكاءِ تواجدها في السّرد وفي الحكاية وفي الحلقةِ وعلى الرّكح، هكذا هو المعيزي بعنوانهِ الفريد الغريبِ عن العربيّةِ لكنّهُ خالقها من الدّاخلِ الإنسانيّ فيه، من الدّاخلِ الوجوديِّ فيه شكّا يراوحُ في مكانهِ، صناعتهُ الحجاجُ أو هي تيمته الجديدةُ تترصّدُ أخطاءَهُ المحببّةَ في النّصوص بكلّ واجهاتها بين الأقاصيص المبتورةِ والتّداوليّات في الأخذ والردّ وجوها وأقنعةً وهوامشَ ومتون
ظلّ الأطفالُ يلعبون” الحلّيلة”
والبنات يلعبنَ “الكاري “على جذور الظّلال
ويقطعنَ المسافةَ بالسّكّين
يتواصل الحكي بدافعيّةٍ ناسجة للخيال مع قارئ يعِد بالخلق، بالإنشاءِ يدفعهُ إلى رسم ذاكرتهِ على طريقتهِ، وقوفٌ في حيّزٍ من مربّعةٍ ملغمّةٍ تقتضي تأطيرا منسجما مع العلامات في كسرها للرّوتين، في رؤيةٍ أخرى للأجناسِ تتناسل من بعضها البعضِ، ولا وقوف إلاّ على الحدود
خاتمة
عادل المعيزي وجهُ مشدِّدُ على الحوار دائما مع الشّعر في لحظاته، وصفيّة أنتجت كتابات تواتر في التّجريب، منذ انبعاثها من المعاصرة، ومن المعاصرة تنبعثُ من جديدٍ نصوصا اِحتفلت بالحريّة فسمحت له بالمجاوزة المجاورةِ لشتّى الفنون ينضّد حكاياه وينشدُ نسيجهُ الحيّ موقفا بموقفٍ، والحركات متسارعةً لا تغادر تفعيلتهُ المميّزةَ، تشيرُ فتُغيرُ موجةً بموجةٍ والتّجربةُ تتنامى في اللّغةِ وبها تحثّهُ على طريقهِ في رسم طريقتِهِ حياةً تجادلُ حياةً
زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية
المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام
Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian
Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French)
هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة
كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر
رابط الموقع: Alwanne.com