في القنطرة جلجلة: الجزء الثالث(5)

في القنطرة جلجلة: الجزء الثالث(5)
صورة الغلاف للتشكيلية الازربيدجانية جميلة هاشموفا
حسن حامي

في القنطرة جلجلة            

                                             
نشرت المقابلة الصحفية بعد أيام، ولم تلبث أن تحولت إلى مادة دسمة لتعليقات، كانت في مجملها إيجابية وحظيت الصفحة السريانية التي أنشئت تحت إسمه واسم جينفر، بنصيب الأسد منها. علم متروي بكل هذه المستجدات من خلال رائد، الذي لم يخف إعجابه بذكائه. شعر متروي ببعض الارتياح، ولكن ذلك لم يدم طويلا. بدأ مسلسل تعكير الجو مصحوبا بجملة من المفاجآت، رسالتين من مصدرين مختلفين جمدا الدم في عروقه تم إبلاغه بهما عن طريق وسيط أرسله مناجي
واستمرت المتاعب. زاره مستتر. كان يحاول أن يظهر رائعا في دور الصديق الناصح الأمين، الذي لا يتوخى إلا الخير لرجل يقدره تقديرا كبيرا في حجم ما اكتسبه من سمعة. لم يكثر من الكلام وأخبره بأن ميمون يعد له مفاجأة غير سارة. تتلخص المفاجأة في تحريض أهل الاختصاص على إلقاء القبض على متروي بتهمة العمالة لجهات خارجية. وظهر من خلال تحريات مستتر، أن ما يروج له ميمون أصبح يجد بعض الآذان الصاغية. ما هو أساس التهمة؟ أولا، إسم متروي مزيف، إسمه الحقيقي هو متردي؛  ثانيا، جاء إلى القنطرة واستوطنها بدون عناء، وأحدث تغييرات كبيرة ما كان أحد ليتجرأ على القيام بها لو لم يكن له هدف مدروس ويد خفية تساعده؛ ثالثا، تم اختياره للقيام بدور كومبارس درجة أولى، في حين أن ممثلين مقتدرين لم يظفروا بهذا الشرف؛ رابعا، بقدرة قادر، حصل على توكيل ليصبح محافظا على القنطرة وكل ما فيها، باسمه الحقيقي وبناء على بطاقة تعريف وطنية تحمل عنوانا مختلفا؛ خامسا، أصبح الوحيد الذي يتكلم باسم شركة أجنبية لا يعلم أحد ماهي الغاية من تصوير مشاهد من فيلم لا يعلم أحد، أيضا، ما هو موضوعه في قنطرة لم يحدد مالكها أو مالكيها لحد الآن؛ سادسا، يستنتج مما سبق، أن متروي عميل أو جاسوس أو شيء من هذا القبيل
استمع متروي إلى مخاطبه بكل اهتمام، ثم سأله
ـــ ما هي الغاية من زيارتك؟
ـــ أردت أن أحيطك علما بما يحاك ضدك
ـــ لا شيء مجاني في الحياة. أعرف أنك تهتم بشيء ما، وأريد أن تخبرني بدون مراوغة. أنا أحب الناس الذين لا يدورون حول الموضوع
ـــ اسمح لي بأن أقول إنني من هذا النوع؛ وأنت لا، لأنك لم تخبرني بأن الشرطة زارتك وطلبت منك معلومات عني وعما دار بيننا من حديث
ـــ هذا صحيح
ـــ كما أنك زرت مركز الشرطة، وقدمت شكاية. ـــ هذا أيضا صحيح، ولكني لم أتسبب في إيذاء أحد
ـــ أعرف
ـــ كيف عرفت؟
ـــ المدينة، على سعتها، ليست سوى قرية صغيرة. كما أني أتوفر على مفكرة معارف مليئة ومهمة
ـــ ما دام الأمر هكذا، أخبرني، إذن، ما هو سبب الزيارة، هذه المرة بدون لف ولا دوران
ـــ أعرف ناسا لهم اهتمام بالقنطرة. ويبدو أنهم مستعجلين
ـــ منذ مدة، أصبح الاهتمام بالقنطرة شيئا عاديا
ـــ أنا أتحدث عن الوقت. الاستعجال يفرض ضرورة التموقع لتحقيق المبتغى
ـــ وما هو المبتغى؟
ـــ الحصول على فرصة الاستفادة من مشاريع سيعلن عنها قريبا
ـــ وما علاقتي بالموضوع؟
ـــ أنت أصبحت الموضوع
ـــ لا أفهم
ـــ ركز معي رجاء! أنت حلقة الوصل بين مصالح متشابكة. ولكنك تتمتع بامتياز ــ وأنت الوحيد في ذلك ــ بكونك تحضر اجتماعات المجلس البلدي إلى جانب نخبة من المسؤولين، وبالتالي، يمكنك أن تؤثر في القرارات بموجب أنك الوكيل المحافظ على أشياء ثمينة في ملكية ‘ݣلوبال شيرن وان
ـــ أظن أنك أنت الذي فقدت التركيز وأصابتك وصلة من الخرف الظريف
ـــ أعلم أني محق. واسمح لي بأن أنصحك؛ أنت لست سوى مطية، وسوف يتم التخلص منك عندما تنتهي مهمتك. ولهذا السبب، أنصحك بأن تستفيد قبل فوات الأوان
ـــ أنت قليل الأدب، وتعرف أنك تكتسح هدوء الآخرين مثل الجرافة، ولكنك لا تكثرت. اسمح لي بأن أنصحك بدوري. لا تعد إلى هنا مرة أخرى. لا أريد أن أكون ضحية مرتين 
ـــ ضحية مرتين؟ كيف؟ أخبرني أيها الفيلسوف
ـــ سأكون ضحية، مرة لغبائي ومرة لذكائي
ـــ أول مرة أسمع تعريفا بهذا الشكل
ـــ مهما يكن، إن لم تتركني في حالي، سأبلغ عنك
ـــ هذه فكرة غبية
ـــ سأشتكيك إلى من يهمهم أمرك، وهذه فكرة ذكية
ـــ لا تستفزني! قد أضع يدي في يد ميمون، فتصبح نكرة
ـــ فليكن! نكرة أحسن من شماعة
ـــ يا للسانك الطويل
راجع مستتر نفسه، فقرر تلطيف الأجواء
ـــ لا تؤاخذني، فأنا متوتر بعض الشيء. لي مشاكل مع نساء. واحدة انتحرت، والملف لم يغلق. واحدة، تتزوجني شبه عرفي، وتتماطل في القيام بواجباتها. وشخص ينافسني على كل شيء، حتى على زوجتي
ـــ من منهما؟ المنتحرة أم الممتنعة؟
ـــ كم أنت سليط اللسان! أنا أتحدث عن الممتنعة
تردد متروي قليلا، ثم قال
ـــ هل تعلم أن الناس لا يحبونك هنا
ـــ ولا هناك. أعلم
ـــ الآن، أخبرني بصراحة ما الذي تنتظره مني؟
ـــ هناك ناس يهتمون بالقنطرة
ـــ أعرف
ـــ الأشخاص الذين أتكلم عنهم، لهم وضع خاص وأهداف واضحة
ـــ طيب. ما هو الوضع الخاص؟
ـــ هم مغاربة، ولكنهم ولدوا خارج المغرب
ـــ لا أفهم. كثيرون يوجدون في نفس الوضعية
ـــ أباؤهم وأمهاتهم تركوا المغرب في ظروف استثنائية منذ ما ينيف عن ستين سنة
ـــ والآن يفكرون في العودة؟
ـــ ليس العودة النهائية، ولكن صلة الرحم والاستفادة من بعض ما يزعمون أنها حقوق بشكل من الأشكال
ـــ لا أفهم جيدا. من له حقوق، ليثبتها بالحجة والدليل. وعليه، كتعبير على حسن نيته، أن يعيد لأصحاب الأرض هناك حقوقهم. المهم هو تجنب الاحتيال، كما حدث ذلك قبل سنة أو أكثر، بتزوير وثائق رسمية للحصول على الجنسية المغربية
ـــ المشكل أن البعض يتوفر على دليل، والأغلبية لا. وثائق مهمة ضاعت أثناء المرحلة الاستثنائية
ـــ لا أفهم، ولكن يوجد قانون، ومحاكم، وشهود وما إلى ذلك
ـــ هناك مشكل كبير، وهو قاعدة التقادم؛ إضافة إلى إشكالية ظهرت في بعض مواد مدونة الحقوق العينية وعلاقتها بملف السطو على عقارات الغير، وهي جرائم تبث فيها المحاكم مع ظهور أعمال أخرى تدخل في نفس السياق
ـــ وما علاقة كل هذا بالقنطرة؟
ـــ القنطرة! أيتها القنطرة تكلمي، وسوف ينطق التراب والحجر
ـــ أظن أنك تهذي، ولا بد لك أن ترتاح قليلا؛ ركز على حواء، قبل أن يصيبك التقادم، وعدم الصلاحية والخرف العميق
انفجر مستتر ضاحكا، ولكن متروي لم يحد عن جديته، وقال
ـــ ثق بي، يا سيدي! أنا لن أنفعك فيما تسعى إليه. وإذا حدث وفهمت ما الذي تنتظره مني، سأكون سعيدا بمساعدتك. وقبل أن أقوم بذلك، لا بد أن أجد حلا لمساعدة نفسي أولا
بدأ مستتر يفقد صبره، أخرج علبة سجائر من جيبه وأشعل سيجارة. قال له متروي، وهو يبسم قليلا
ـــ التدخين ممنوع
ـــ لا توجد لافتة تمنع ذلك
ـــ أنت على صواب؛ والآن، بصفتي محافظ المكان، أصدر أمرا وحالا بمنع التدخين
ـــ أنا أمتنع. بالمناسبة، أين هي لافتاتك الشهيرة، إنها غير معلقة في أي مكان؟
ـــ ذهبت مع الرياح. إني أمزح، إنني نزعتها مؤقتا أثناء إعادة ترتيب المكان. تمزقت إحداها، فقررت عدم عرضها إلى حين إعادة كتابة المقولة الممزقة. وسأقوم بإعادتها إلى مكانها فور مغادرتك
ـــ لماذا تنتظر؟ أعرض ما هو جاهز ريثما تتم كتابة المقولة التي تمزقت
ـــ لا يمكن، لأن اللافتات مجموعة متناسقة، ولها معنى، لا يمكن عرضها مبتورة
ـــ أنت غريب الأطوار. وما هي المقولة التي تمزقت؟
ـــ تلك التي تتحدث عن العلاقة بين الذكاء والغباء
ـــ أتذكرها، لم تكن مقولة موفقة. من قالها؟
ـــ أحد عرف لم قالها، وفرض أن تكون مقولة يرددها كثيرون
ـــ طيب سأكون معك صريحا هذه المرة
ـــ أنت حر في أن تكون صريحا أو مراوغا؛ العبرة هي هل أصدقك وأكون ذكيا بغبائي أو أن أكون غبيا وأنا أتذاكى كما قال لي أحد يوما
ـــ هل تعرف الحطاب؟
ـــ لا. لم أسمع به من قبل
ـــ إنه شخص له حكايات. إنه متعة. لذيذ الصحبة، يتذاكى أحيانا، يتغابى أحيانا أخرى، ولكن الذي يهم، هو أنه غني… أعني من الأغنياء الجدد
ـــ طيب، وما علاقتي بكل هذا؟
ـــ هل سمعت بحكاية زيارته إلى القدس الشريف؟
ـــ لا، وما الغرابة في ذلك؟
ـــ لا تهم الزيارة بقدر ما تهم علاقاته المتينة
ـــ أنت أيضا لك علاقات متينة
ـــ دعني أشرح لك؛ إنه على علاقة بناس من هناك، وهم يهتمون بالقنطرة
ـــ فلسطينيون؟ من أين لهم هذا الاهتمام؟
ـــ لا، هؤلاء الناس يهود
ـــ يهود مغاربة؟
ـــ يهود مغاربة وآخرين
ـــ جاذبية القنطرة تجاوزت الحدود على ما أرى
ـــ إنه الفيلم. كل ما يحدث هو بسبب الفيلم
ـــ ولم تخبرني بكل هذه الأمور؟
ـــ سامي، وهو مغربي يدين باليهودية، صديق طفولة حطاب، يفكر في مشروع مميز لتنمية القنطرة. وقد كلف حطاب بتتبع تطورات قضية الملكية وغيرها من النزاعات التي تعطل المشاريع هنا وهناك
ـــ مرة أخرى أسألك، ما علاقتي بهذه المواضيع؟
ـــ أنت تحضر اجتماعات المجلس البلدي بصفتك ــ نظريا ــ محافظ القنطرة أو بعض جنباتها؛ سامي وحطاب يريدان الحصول على معلومات تهمهم ليكون لهم موضع قدم مستقبلا في هذه المنطقة
ـــ هذا أغبى حديث سمعته من شخص يتذاكى
ـــ فكر في الموضوع ولا تنس أنك لن تفلت بجلدك، ميمون وآخرون يترصدون خطواتك
ـــ غريب منطقكم هذا، ولكني لا أهتم
ـــ الغريب، يا سيد متروي، هو أن لك يد في كل شيء، ولكن يدك مشلولة الآن، وسوف يتمدد الشلل إلى أجزاء أخرى من جسمك. الوقاية خير من العلاج. هذه المقولة أحسن من تلك التي تتكلم عن الذكاء والغباء وغيرها من الحكم المنمقة التي لا تسمن ولا تغني من جوع
ـــ أنت تهددني وأنت تعلم أن لا حول ولا قوة لي
ـــ لا يا صديقي، نحن نريد أن نخرجك من الفقر المدقع الذي تعيش فيه
ـــ ومن أخبرك بأنني فقير؟
ـــ أعرف أنك غير الشخص الذي تتظاهر به. ولكنك مورط إلى حد العنق، لأنك تنتحل شخصية مزيفة، وتتكثم على أشياء خطيرة. ومن باب الإنسانية، أنصحك بقبول العرض
ـــ أي عرض؟
ـــ قريبا سيأتي سامي، وعندها سأنسق مع حطاب لمتابعة الموضوع وإخبارك بما يجب القيام به
ـــ أنا لا أشتغل عندكم
ـــ منذ اليوم، أنت تشتغل عندنا. وقبل أن أودعك، أنصحك بأن تخبر الشرطة بزيارتي إليك، ولتذهبوا جميعا إلى الجحيم
 وعندما غادر مستتر وهو يقهقه، كتب متروي في مسودته السوداء
“سوف تتعفن البضاعة. هل ينفع الحفظ؟ نسيت أن أقلم أظافري. وهذه الوسطى التي تسخر من الخنصر والبنصر والكف تفقد القدرة على الإشارة. لا يهم لون القلم الذي أكتب به؛ الأهم، هو أن تلتقي شفته بوجه الورق، فيتبادلان القبل ويرقصان. وأنا، هل إذا رقصت، انفرجت كربتي؟ وهل أنا فعلا حزين؟ بيني وبين الحزن ميثاق التجاهل الأبدي. لا أملك حيلة لأبعدهم عني. أنا ورطت نفسي. لو لم أكن مضطرا للبقاء قليلا، لرحلت مع أول نسائم الفجر. وهذا التوكيل المفخخ الذي لا قيمة قانونية له سوى استغباء من له قابلية لذلك. هذه المسرحية! هذا العبث
قرر متروي أن ينتقل إلى مستوى آخر لعله يخفف عن نفسه قليلا. صحيح أنه لم يقلم أظافره منذ مدة، لأنه لم يجد مكانا لدفنها كما عهد، ولأن العلب اختفت، ولأن كل نقرة فاس على أي شبر من القنطرة سيحدث تسونامي يختلط فيه البر بالبحر. ولكنه نسي عادته في القراءة. صحيح أيضا أنه غير من ترتيب الكتب، إلا أن الزلة أكبر، لأن القدرة على التمويه ستنفذ مع الوقت. ثم، وهذا خطأ كبير كان سيرتكبه، كثرة العناية بكتب ثلاث مهمة: ‘مراجعة القرطاس من الأساس’، مخطوط بخط يد جده، لم تنج من التلف سوى نسخة واحدة، حرص على عدم التفريط فيها وهو يهم بالرحيل من تافراوت، و’1984’ لجورج أورويل، الذي قرأ الألفية الثالثة بحدس يحبس الأنفاس، و’جدل الإيمان والإلحاد وما بينهما’، لمؤلف مجهول وجدهما في العربة.  كان يحرص على هذه الكتب، لأنها تدفعه إلى التفكير ومراجعة بديهياته من جهة، وإلى عدم التسرع في إصدار الأحكام، من جهة أخرى، لأن العقل، من وجهة نظره، ينمو مع المخيلة، والنقد البناء وتقبل فكرة أن الموثوقية أساس البلاء في كل ما يتعلق بحياة الأفراد والجماعات. هذا هو التفسير الشكلي لاهتمامه الكبير بهذه الكتب، لكن أهم من هذا كله، هو أنها تطرح أسئلة وتنأى بنفسها عن إعطاء أجوبة في شكل وجبات سريعة. والواقع أنه، إضافة إلى ما سبق، فإنه كان يخفي بين صفحات بعض منها رسائل… الرسائل

(يتبع)

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com