في بيت خالتي 

في بيت خالتي 
أحمد جاريد
إلى اليوم، كلّما عبَرَتْ أنفي رائحةَ القهوة بنَكْهة الزنجبيل والقِرْفَة وهي تُغلى فوق النّار، يستعيد ذهني صورة رمضان، وتحديدا مشهد ما قُبَيْل أذان المغرب. لم تكن أمي تعرف أن إيداع غلاية القهوة فوق النار إلى أن يفيض هو تحضيرٌ على الطريقة الترّكية، إذْ بالنسبة لها، ما ثمة خيار آخر سوى غليها فوق النار. وهو شأن أهل المغرب من زمان، ثقافتهم ثقافة الشاي الأخضر المُنَعْنَع لا ثقافة القهوة. أمي بدورها كانت تفضل الإفطار بالشاي، وهو ما كان يثير استغرابي أنا الذي كنتُ استطيبُ طعم القهوة المدموغة بالحليب! هو في الواقع ليس حليب البقر. كنتُ مُمْلقاً أتابع بناظري بائع حليب الماعز الذي يَعْبُر زقاقنا قبل حلول وقت الإفطار، ويتوقّف كالعادة عند باب جارتنا على اليمين لتخرج ابنتها فيسكب لها حليباً طازجاً تتلوه رغوة بيضاء تطفو “الكسرولة” الخزفية. حليب أشهى من تلك العلبة المعدنية البائسة للحليب الاصطناعي المُرَكَّز التي تدعوني أمي لجلبها من البقال. لم يكن في وسعنا أن نشتري حليباً طبيعياً طرياً. ويا للخيبة! حينما اصطحبني ابن خالتي مرة لتناول الإفطار ببيتهم لأكتشف مدى ميوعة قهوتنا وصفاقة حليبها الاصطناعي
ذات رمضان، بدعوة من خالي سافرتْ أمي رفقة خالتي إلى مدينة فاس، ومكثنا تحت رعاية أبي. كان كلما أنهينا إفطارنا يَهَرعُ إخوتي لِلَعِبِ لُعَب الليل الرمضانية مع أبناء الدرب. فيما أبي يمنعني من تلك المتعة التي هي أقوى لحظاتنا في رمضان. فأجلس مكْتَئِباً أصِيخُ لصَخَبِ أقراني في الزقاق. بعد فترة سَيُدَخِّنُ والدي سيجارته الموعودة ثم يلبس جلبابه الصوفي البنّي الغامق، فيأمرني بأن آخذ المصحف وأتبعه لنتوجه إلى بيت زوج خالتي الذي لا يبعد كثيراً عن بيتنا. خطوات أبي العملاقة تُتْعِبُني فأهَرْوِل وألْهَجُ كي أدرِكه، وشعور الغُبْن يتبعني وأنا أشاهد أصحابي طُلَقاء يمرحون تحت سماء مُرصَّعة بالنجوم. أمّا الذي أتأبَّطُه فهو يشبه المصحف فقط، ذلك لأن غلافه وأوراق الأحزاب الأولى وأوراق قصار السور ضاعت. كان من بين أدواتي المدرسية ولو أنه لا يناسب فصلي الدراسي أخرِجُه عند حصة القرآن كي أتجنب طرد المعلم لي، وأكتفي بالمتابعة في مصحف زميلي بجانبي. لا أدري كم واحد من إخوتي وأبناء الجيران استعمل قبلي ذلك المصحف المسكين كي ينتهي إليّ كبقية مصحف
في بيت خالتي أجلس بمحاذاة رُكْبَة أبي، بينما زوج خالتي مُستلقٍ غير متوقِّف عن التدخين، فيما أسترق النظر إليه وجِلاً، رُبَّما يلفُّه شيئا من قبيل الهالة والمهابة، أو لرُبَّما بفعل نظارتيه الخضراوتين شبه الداكنتين أو لشعره الطويل النّاعم الممشوط للخلف على طريقة “الراسطا” الإيطالية. طريقة كلامه التي هي أفضل من طريقة أبي. كان يحفظ بعض سور القرآن إذ أحيانا يُصحِّحُ إلقائي أو ينقذني من التّهَجّي. لاحظتُ بأن مشهد قراءتي للقرآن أمام زوج خالتي يبعث نوعاً من الاعتزاز لدَى أبي فيما كنتُ أحْوَجَ لاعتزاز زوج خالتي. مغلوب عليَّ ومشاعر التذمر تسْتبِدُّ بي أواصل القراءة وذِهْني معَلِّق بجَلَبَةِ الأطفال في الخارج.. ماذا اقترفتُ من ذنبٍ حتى أحْرَم من اللّعِبِ مع أصدقائي وأحْشَر بلا شفقة في غرفة أمام رجلين يدخِّنان ويستمعان لقراءتي؟ دون أن أفهمَ شيئاً عن معنى استمتاعهم بطفل يَتْلُو القرآن. ودون أن يفهموا شيئاً عن استيائي. كنتُ أسترسل في القراءة بنفاذِ صَبْرٍ وأنا أتطلَّعُ إلى الإفْراج عنّي. كان زوج خالتي دائماً هو مَنْ ينطق تلك الجملة السّاحرة التي يطول انتظارها، فيقول لي بنبرة يتخللها الإشفاق
– “صَدَقَ الله العَظيم، بَرَكَة عْلِيكْ أَولْدِي. اخْرَجْ تَلْعَبْ معَ الدْراري (الأطفال)”
وقبل أن ينهي جملته تلك، أضعُ لثمةً خفيفة بسرعة على المصحف، ثم أقفزُ لأنتعل صندلي مستعجلا أتمم انتعال الفَرْد الثاني في الخارج
أمّا اليوم فأنا أتأمل الآيات وشهاب الدين السُّهروردي يردد في أذني: “اقْرأ القُرآنَ وكأنّه تنَزَّلَ بِشَأنِك”
أحمد جاريد                                                                                                                                                                                                                                                           
فنان تشكيلي – المغرب

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com