ألف خلطة وخلطة
والنقد العربيّ في ورطة
الدكتور رشيد بنحدو
(الحلقة الثانية)
كما أن نقد النقد هو إجراء وصفيّ – تحليليّ – تقييميّ – تقويميّ يتقيد بالخطاب النقدي المنتَج على الأدب. أما جمالية التلقي، فهي إجراء تأريخي – تحليليّ – تأويليّ لا يتخذ الخطاب النقدي موضوعاً للبحث والتأمل، بل تعلة للحكم الجمالي تتذرع بها من أجل تقدير نسبة (هوريستيك) على الأدب. فالخطاب النقدي بالنسبة إليها هو محض واسطة كشفية الجمال والأسلبة في النص الأدبي. كيف ذلك؟
تنطلق جمالية التلقي من إثبات جوهريّ مُفاده أن مناهج تاريخ الأدب ونقده ستظل قاصرة عن إدراك الأدب في خصوصيته ما لم تأخذ مَحْفِلَ التلقي بعين الاعتبار. فالمنهج التأريخي مثلاً ينظر إلى النص الأدبي من جهة كونه صورة أمينة للأسيقة الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في لحظة تاريخية معينة. كما أن المنهج السوسيولوجي يتناوله من حيث هو إفراز مباشر لرؤية الكاتب للعالم ضمن طبقته الاجتماعية. أما المنهج السيكولوجي، فيربطه بالبنية اللاشعورية للكاتب. في حين أن المنهج البنيوي يفصله عن هذه العوامل الخارجية ويعتبره بنية مغلقة. فمِن هذه اللمحة السريعة، يتضح إذن أن هذه المناهج لا تحتفي بالقارئ، والحال أنه هو ما ينبغي الاهتمام به. كيف لا والقارئ هو مَن يخاطبه الأدب؟ فالنصوص لا تكتب لتوضع في رفوف المكتبات! إنها سيرورات دلالية كامنة لا تتحقق ولا تتفعل إلا بالقراءة وفي القراءة. فوجود الأدب يتطلب القارئ بقدر ما يتطلب الكاتب
هذا يعني إذن تبئير الاهتمام لا على الخطابات النقدية في ذاتها، كما يفعل نقد النقد، بل على الخطاب النصيّ ذاته انطلاقاً من هذه الخطابات. فالإبدال الجديد الذي تمثله جمالية التلقي هو بالتالي الانصراف إلى تحديد أثر النص في القرّاء منتجي تلك الخطابات النقدية، وذلك بالتساؤل عن طبيعة وقعه في أنفسهم. وتحصيلاً لهذه الغاية، تنطلق جمالية التلقي من هذه الفرضية الأساس، وهي أن لكل من الكاتب والقارئ أفقاً فكريّاً واستيطيقيّاً يختص به
فللكاتب أفقه الذي يملي عليه أن يقولب نصه في هذا الشكل، لا في ذلك الشكل الآخر، ويكيف كذلك حساسيته الجمالية وإيديولوجيته الشخصية
وبالمقابل، يحتاز القارئ (والمقصود هنا طبعاً القارئ الناقد) أفقه الذي يشرط تلقيه النوعيّ للنص وتجهيزه بهذا المعنى، وليس بذلك المعنى الآخر. ويتكون هذا الأفق – المدعوّ ب “أفق التوقع” – من تمرّسه المسبق بالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص، ومن درايته المسبقة بالتفاعل التناصّيّ لهذا النص مع نصوص أخرى من جنسه، ومن إدراكه المسبق للخاصية التخييلية للأدب التي تجعله ينزاح عن كونه مجرد انعكاس لحقيقة مرجعية أو لتجربة واقعية
وحين تتحرك دينامية القراءة، فإنّ حواراً، لا يخلو من التوتر والتجاذب، ينشأ بين هذين الأفقين، بحيث يمكن أن يتمخض إما عن تطابق أفق الكاتب مع أفق القارئ، وإما عن تخييب ذاك لهذا، وإما عن تعديله. ففي الحال الأولى، يكون نص الكاتب رديئا لأنه يكرّس تصوّر القارئ للإبداع الأدبي ويتوافق مع انتظاره. وفي الحال الثانية، يكون محايداًً، ومن ثم مدعاة لخيبة انتظار القارئ لأنه مَانِعُ المفعولِ فيه. وفي الحال الثالثة، يكون جيداً لأنه يحفز القارئ إلى إعادة النظر في تصوره ذاك للإبداع الأدبي ويحثه بالتالي على معانقة أفق جمالي آخر جديد. (4)
لذلك يتعين على الناقد أو المؤرخ الأدبي أن يحدد نوعية استجابة النصوص لآفاق توقع القراء المتعاقبين في التاريخ، وذلك باستجماع تلقياتهم، أي خطاباتهم النقدية، وفحصها بغاية الكشف عن طبيعة أثرها في كل منهم. فإذا استطاع القارئ مثلاً أن يقاوم أفق النص، بحيث لم يغير أفق توقعه، أي معاييره الفكرية والجمالية، كان هذا النص مبتذلاً. وإذا استسلم لغوايته، وهو ما يؤدي إلى تغيّر هذه المعايير، كان رائعاً
هي ذي إذن مهمة النقد وتاريخ الأدب الجديدة: قياس القيمة الجمالية للنص الأدبي من خلال تقدير نوعية وشدة آثاره في القراء، اللتين يمكن استنباطهما من خطاباتهم النقدية. فكلما كان أثر النص قويّاً، أي بقدر انزياح النص عن معايير القارئ وتعديله لأفق توقعه، كان هذا النص ذا قيمة فنية عالية. فالمسافة الجمالية بين أفق النص وأفق المتلقي هي خير ما يمكن الاحتكام إليه لتحديد جمالية الأدب. (5)
في ضوء هذا التعريف الموجز بجمالية التلقي، يتأكد إذن أنّ مِن الإثم العلميّ أن يعمد البعض إلى الخلط بينها وبين نقد النقد. مثلما أنّ مِن العبث بمنطق الأشياء وبالحسّ السليم أن يعمد البعض الآخر – كما سأستدل على ذلك بعد قليل – إلى التوفيق بين مناهج نقدية لا يجمع بينها سوى انتمائها إلى حقل النقد الأدبي، وفي ماعدا هذا المشترك البسيط، فهي جد متعارضة يكاد كل واحد منها يلغي الآخر
سلاطة نقدية مُتَوْبَلَةٌ بمناهج متنافرة
بالفعل، لسنا نعدم نقاداً وباحثين يزعمون أنّ من المفيد، بل ومن الضروريّ أن نعقد – باسم “التناهج” (l’interdisciplinarité) الذي لا يفهمون مغزاه العميق – تنافذا بين مناهجِ مقاربةٍ متنابذة يتمخض عمّا يدعونه “المنهج التكاملي “. وينطلق هؤلاء، تبريراً لزعمهم، مِن هذه الفرضيات: (6)
أنّ المنهج مجرّد أداة “بريئة” و طيّعة رهن إشارة الناقد، يُشغّلها كما يشاء ومتى يريد لتحصيل نتائج مقررة سلفاً. ففي اعتقادهم أن الناقد يبدأ بتحديد الغاية التي يستهدفها خطابُه قبل الشروع في تصوره وإنتاجه، والتي قد تكون مثلاً أطروحة يريد الدفاع عنها أو دعوى يريد تفنيدها أو وساطة جمالية يريد التنويه بها وغير هذا من الغايات. ومن أجل بلوغها، فإن نفس الناقد يتصرّف، في آنٍ واحد، في شبكة من المناهج لن يحتار إطلاقاً في اختيار أحدها، اعتقاداً راسخاً منه أنها جميعاً كفيلة بتحقيق مراده، بصرف النظر عمّا بينها من اختلافات بدهية، مِن حيث الْقِوَامُ الابستمولوجي لكل واحد منها، ومن حيث مدوّنته المصطلحية وكذا أسلوبُ تدبيره وطبيعة النتائج المراهن عليها
أنّ النص الأدبي نفسه مادة “محايدة” ذات طبيعة مطاطية وانسيالية تخوّل لها أن تتكيف بكل سلاسة وتلقائية مع جميع هذه المناهج على رغم هذه الاختلافات بينها. ولذلك، لا ضير بتاتاً في أن يعمد نفس الناقد إلى الإجهاز على النص مسلحاً، في آن واحد، بترسانة كل هذه المناهج، ومُصادِراً على أنه (أي النص) لن يعاندها أو يقاومها، بل سيرتضيها بكل مرونة وإذعان
أنّه كذلك موضوع مُتعال ذو خاصية استكفائية بالذات، قوية ومكينة، تجعل غايته محايثة له، لا مجاوزة له. أما مناهج مقاربته، فلا تعدو كونها أدوات جاهزة، يتوسل بها في نفس الآن نفسُ الناقد، إدراكاً لذلك الموضوع وبلوغاً لهذه الغاية
أنه أخيراً لا آخراً كتلة دلالية تنبض بمعان افتراضية متعددة لا يمكن لمنهج واحد ومحدد أن يدّعِي القدرة على استنفاذها جميعاً بمفرده. لذلك، يجدر بنفس الناقد، وبنفس الحركة الاستيفائية غير التمييزية، أن يتذرع بكل المناهج الجاهزة للقبض على هذا التعدد الدلالي، بحيث يجوز له أن ينوّع زوايا مقاربة النص بكل حرية وبكل مواءمة ومشروعية
في ضوء هذه الفرضيات – التي سأنظر فيها، بعد حين، بعين العقل والمنطق –ألاحظ باستغراب شديد أن بعض النقاد والباحثين عندنا لا يستنكفون في دراساتهم عن استنفار معلوماتهم (السطحية!) حول مناهج نقد الأدب، القديمة والحديثة، حيث يتقمصون في نفس الآن شخصيات متعددة ومتنوعة (مع التشديد على عبارة “في نفس الآن “) وينتحلون أساليب عملهم
– شخصية الفقيه السلفي، ذي الغيرة على صفائية اللغة العربية وقدسيتها، الذي يحسب بواسطة حَبّات سُبْحَتِهِ أخطاء النص،
– وشخصية المحلل السوسيولوجي الذي يفسر النص بما هو تعبير آليّ وحتميّ عن مخاضات وتحولات مجتمعية،
– وشخصية المؤرخ الذي يتعامل مع النص كما لو كان حدثاً عرضيّاً في السيرورة التاريخية
– وشخصية الخبير البلاغيّ الذي يكشف عن إواليات البيان في النص، تسجيعياً و تجنيساً و تورية و تخييلاً وتشبيهاً الخ
– وشخصية عالِم النفس الذي ينظر إلى الكاتب نظرته إلى مريض بالعُصاب مٌُمَدَّدٍ على أريكة، و مِن ثم يعتبر نصه وثيقة حية كاشفة عن عقله الباطن
– وشخصية المفتش الذي يبحث في النص عن أوجُه تشابُهِه مع نصوص أخرى، معتبراً هذا تناصّاً، و إلاّ فسرقة أدبية
– وشخصية الباحث الإحصائيّ الذي يهتم بتعداد وتصنيف وتحليل السِّمات و الآثار الانزياحية في النص، تلك التي تميز أسلوب الكاتب في ضوء العلاقة السانكرونية بين التعبير ووعيه السيكولوجي الخ
فهل هكذا يكون النقد، أي ربيكة مشوشة مِن الآليات المنهجية المتنافرة والمتنابذة؟ إنّ منَ الضروريّ، والحالة هذه، أن أذكِّر بأنّ لكل منهج نقديّ مفترَضات نظرية وأسساً معرفية خاصة به تنبني عليها مسلّماتُه ويتكيف معها أسلوبُ تدبيره وتتحدد تبعاً لها نتائجُه. فليس بين المناهج التاريخي والسوسيولوجي والسيكولوجي والبنيوي، على سبيل المثال، أية علاقة مزعومة أو متوهمة تجيز الخلط والتلفيق بينها. فالأول، كما تمّ تطبيقه مثلاً على الأدب العربيّ القديم، ينظر إلى المضامين الفكرية والأغراض الفنية والقوالب الشكلية في إطار تبعيتها الآلية للمتغيرات التاريخية التي رافقت تداوُلَ الأنظمة السياسية والإيديولوجية المتعاقبة على الحكم. والمنهج الثاني، لاسيما التقليدي منه، يتعامل مع النصوص الأدبية، قديمها وحديثها ومعاصرها، من زاوية جدّ رحبة هي كونها تعبيراً واعياً عن الطبقة التي ينتمي إليها كل واحد من مؤلفيها، في ظل الصراع المرافق لتعارض المصالح وتنازع الرغبات بين الأفراد والشرائح الاجتماعية. لكنّ هذه الزاوية تضيق حتماً في المنهج الثالث الذي لا يربط النص بالذات الجماعية للمؤلف، بل بذاته الفردية التي تمُتّ بصلة وثقى لا إلى الوعي المباشر، بل إلى اللاشعور، أي إلى أحلامه واستيهاماته واستحواذاته وهلسناته وزلاّت قلمه اللاإرادية، وكل هذه ظواهر شخصية تفرِّد كل كاتب على حدة. ومن المؤكد أن تلك الزاوية ستزداد ضيقاً في المنهج الرابع، أي البنيوي، الذي يقطع عن النص كل صلة ممكنة بما هو خارجيّ، سواء أكان سياقاً تاريخيّاً أم ذاتاً بيوغرافية، أم أنا لاشعورية، أم سوى ذلك من العوامل والمحددات، وينظر إليه بوصفه، حصريّاً، مادة تعيش في المطلق خارج التاريخ والجغرافيّا والإيديولوجيّا، لا تتأثر بما يحيط بها أو يؤثر فيها، مكتفية بذاتها، إذن من حيث هي بنية مغلقة
إذا كان أمر المناهج كذلك، وهو فعلاً وحتماً كذلك، فكيف أمكن إذن لنقادنا التكامليين المزعومين أن تتخايل لهم إمكانية ومشروعية الخلط بينها؟ إنّ مناهج النقد ليست، كما يتوهمون، من طبيعة مطاطية تسعفهم مرونتها على التصرف فيها بحريّة، وتسمح لهم طواعيتها بإسقاطها، مجتمعة وفي الآن نفسه وفي دفعة واحدة، على النصوص مفصولة عن أسسها النظرية وبغض الطرف عن اشتراطاتها التطبيقية
(يتبع)
Related