في القنطرة جلجلة: الجزء الثالث

في القنطرة جلجلة: الجزء الثالث
صورة الغلاف للتشكيلية الازربيدجانية جميلة هاشموفا
حسن حامي
3: في القنطرة جلجلة

کانت الغيوم فی السماء تحجب تسلل أشعة الشمس إلى القنطرة. كما أن استمرار الاستعدادات لتصوير بعض مشاهد الفيلم لم تكن تساعد على بدء يوم جميل. كثرت الإشاعات أيضا حول هوية الممثلين الرئيسيين وعلاقتهم ببعض الشخصيات التي أصبحت تتنافس في التردد على القنطرة، وهي ترفل في ملابس أنيقة لجذب الأنظار. ومن بين المفارقات التي لم تسلم من سخرية الجميع، أن بعض أبناء هذه الشخصيات انقطعوا عن دراستهم للتواجد أيضا في محيط القنطرة لعلهم يظفرون بسيلفي أو بصورة نادرة مع أحد نجوم الفيلم ونشرها على صفحاتهم في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. وعندما علم أحدهم بأن عربة متروي ومكتبته ستكونان ضمن الديكور، عمل على التقرب منه لإنجاز سبق في ميدان التواصل، ولربما لتخليد مشاهد قد ينتج عنها نفع كبير في المستقبل. لم يكن متروي سعيدا، وقد ملأ مفكرته السوداء بملاحظات غلب عليها طابع الانفعال وغياب التروي. ولكن قليلا من الدفء تسرب إلى نفسه عندما أخبره مصطفى بأن مستعد ينتظره في ‘المنتزه’ لأمر مهم. مستعد، هذا اللغز الجديد في دائرة اللامرئي والنقطة البيضاء التي تتنطط في السواد
ذهب متروي للقاء مستعد على الفور
ـــ كان بودي أن ألتقي بك أياما بعد لقائنا الأول. ولكنها الظروف التي تتلصص على المعروف لتطعن في المألوف. كما أنني انتظرت أن تكتمل عندك الصورة. الناس تتكلم كثيرا. الاحترام الذي يظهرونه لي صوري يجسد قمة النفاق
ـــ أتفهم الأمر، أجاب متروي
ـــ الناس يحسدوني، لأن بناتي يوفرن لي ما أنا بحاجة إليه من أجل استقرار مادي مریح
ـــ أتفهم
ـــ لا، لن تتفهم عندما أقول لك إن إحدى بناتي تعيش بین الفینة والأخرى لحظات جحيم
لم يتمالك متروي نفسه، فسأل
ـــ كيف؟
ـــ إنها تعاني بین الفینة والأخرى من انفصام الشخصية وتقوم بسلوکات غريبة
ـــ من متى؟
ـــ عرفت الأمر متأخرا.  کانت قد التحقت بأخواتها هناك وتغيرت الأمور
ـــ لا حول ولاقوة إلا بالله
ـــ كانت طفلة في العاشرة من عمرها. التحقت بأختها البكر، التي تزوجت من ابن رجل أعمال خليجي كانت تدرس معه في لندن  ولم ينعما بذرية. ظن الجميع أن بإمكاننا ضرب عصفورين بحجر واحد
توقف مستعد قليلا ليسترجع أنفاسه، ثم تابع
ـــ كان الرجل في أمس الحاجة إلى خلف. ورغم أنه متعلم، كان يحاول أن یقنع نفسه بأن عدم إنجابه حدث عرضي و أنه غير مسؤول عن ذلك
ـــ آسف يا سيدي
ـــ لا داعي للأسف. المهم هو أنني قبلت الاقتراح؛ وكان الرجل أكثر سخاء مما كنت أتصور، ساهم فی استقرار وضع البنات وسهر على حمايتهن من لهيب الكليشيهات التي يتداولها البعض، بما فيهم أعز الناس؛ كما أنه ائتمنني على أشياء ثمينة. قمة النبل
ـــ متى بدأت أعراض الانفصام تظهر على ابنتك؟
ـــ عندما بلغت الثانية عشر من عمرها. والآن هی في سن السادسة والعشرين. ما يحز في النفس هو أننا لاحظنا أن شيئا لم يكن على ما يرام عندما كانت صغيرة، واعتقدنا أنها تعاني من التوحد. ومع مرور الوقت، نسينا الموضوع، لأنها كانت متفوقة في الدراسة
ـــ أنا آسف جدا
ـــ لم الأسف؟ هذا موضوع شخصي يهم ابنتي. إنها تتكيف مع الوضع. المهم أنها نجحت في إكمال دراستها
ـــ هل هي متزوجة الآن؟
تساءل متروي متسرعا، فعض على شفتيه ندما
ـــ نعم. ولها ولد
أجاب مستعد دون تردد
ـــ كيف؟
ـــ لأن مشكلتها مشكلة نفسية وليست عضوية
ـــ ألم يكن في ذلك مغامرة؟
ـــ بلى. ولكن غريزة الأمومة كانت أقوى، كما أن زوجها ــ وهو أوروبي الجنسية ــ يساعدها في كل شيء. وهو يتفهم سلوكها، لأنه عانى من التوحد في فترات متفرقة من طفولته، وتمكن من تجاوز هذه العقبة
ـــ يا إلهي! هذا كثير
ـــ قلت لك إنك لن تتفهم الأمور
ـــ لم أسمع عن حكايتك هذه من أحد. لوعلم الناس
ـــ ثق بي يا سيدي، واحد على الأقل يعلم
ـــ مصطفى؟
ـــ بالطبع. وقبل أن يعرف أن ابنتي قد تزوجت من أجنبي، اقترح علي تزويجها لابنه الأكبر
ـــ رائد؟
ـــ نعم رائد
ـــ لا أكاد أصدق
ـــ قصة الزواج المختلط وفرض شروط صارمة أو التغاضي عنها في حالة زواج بنات المسلمين من غير المسلمين في صميم التناقضات التي نعيشها في مجتمعاتنا وتطرح مشكل الحريات الفردية
ـــ أعرف، ولكن ما العمل؟
ـــ لست أدري. إن وضع شروط تعجيزية يدفع الناس إلى تبني سلوك التحايل والمراوغة. وفي حالة مثل هذه، لا يهم لا رأيك ولا رأيي. وأنا أحدثك ا‌لآن، قد أدعي بأنني لست فخورا بأن أكون أبا لبنت تعیش انفصاما شخصیا یبلغ حد التنکر لکل شيء. ولكن في أعماقي، أحبها بنفس القوة. إنها تذكرني بالمرحومة زوجتي
ـــ أظن أن الناس يقدرون أن ردة فعلك كانت قمة العقل
ـــ يتحدث الجميع عن الشرف والكرامة، ولكن لا أحد يعرفهما إلا بالقدر الذي يؤذي الآخرين ويحفظ ماء وجهه عندما يكون ضحية لألسنتهم
ـــ هذه حقيقة صادمة جدا
ـــ الناس تحترم الواجهة التي أظهرها، إضافة إلى أن البنات يظهرن سخاء غير عادي كلما أتين في زيارة
ـــ أتفهم. نعم السخاء
ـــ البنات يتصرفن وكأنهن يحاولن شراء صمت الناس، رغم أنهن بريئات من الكليشيهات التي يتداولها البعض بوضع الجميع في خانة واحدة. المؤلم هو أن لا أحد يعرف الظروف التي تدفع البعض الآخر لسلوك ينبذه المجتمع.  بالمناسبة، بناتی كلهن يشتغلن ويكسبن قوتهن من عرق جبينهن. اثنين منهمن تخصص معلوميات واتصالات، والثالثة، التي تعاني من الانفصام، فنانة تشكيلية تبرع أيضا في فن الديكور
ـــ صدقني، تخونني الكلمات كي أعبر عن مدى أسفي. ولكن مادامت البنات يعشن حياتهن بصفة عادية هناك، فلا حرج إذن
ـــ البعض يمني النفس أن أتوسط له ويحصل على عمل في الخليج
ـــ وهل هذا ممكن، بعد تلوث المياه التي تجري بينا وبين الخليج؟
ـــ كل شيء ممكن، وسيدرك من أساء الظن أن المعدن الأصيل ضمانة مدى الحياة. وأنا على يقين أن الأمور ستعود إلى سابق عهدها. سحابة صيف ليس إلا. ولكن لمَ تسأل؟ هل أنت مهتم بالذهاب إلى هناك؟
ـــ أبدا! أنا لا أصطاد في الماء العكر
ـــ ما الذي تعنيه بالماء العكر؟
ـــ الناس تنسى أنها ليست سوى حفنة غبار تسافر قسرا مع الرياح
ـــ لست متأكدا أنني أفهم قصدك، ولكن الجملة رائعة
ـــ قد أكذب إذا قلت لك إنني سعيد بوجودي في هذا المكان. ولكنها الظروف، كما يقال
ـــ الظروف؟ إنها مطية فقط. لا يوجد على وجه الأرض أحد سعيد باختياره، ولكن كل اختيار يظل الأمثل لحظة الاختيار؛ كما أن الندم ليس سوى ولادة قيصرية لحزن جديد
ـــ كم هو جميل تطريز الكلمات عندما يغيب الشغف بالحياة
ـــ صدقني إذا قلت لك إن أكبر سجن هو أن تكوِّن صورة خاطئة عن شخصك وتسجن نفسك فيها؛ وأكثر فظاعة من الإثنين، هو أن يعرف الآخرون ذلك، ويرفضون إطلاق سراحك
ـــ وما هي الصورة التي تسجنك؟
ـــ سؤال وجيه. الغريب هو أنني أعرف الجواب. الصورة التي تقلق راحتي هي أن تتحول من كاتب سيناريو أو من مخرج أو من ممثل إلى كومبارس
ـــ مرحبا بك في علم الخيال، إذن
ـــ أنا لا أمزح، صدقني
ـــ أصدقك
ـــ سأحتاج إليك قريبا
ـــ للعب دور كومبارس؟ آسف، لقد اقترحوا على لعب دور أهم من ذلك، ومازلت أفكر في الأمر
ـــ لا ليس للعب أي دور؛ فقط للمشورة. الكومبارس هو أنا… وربما سألعب دورا لا يشرفني أبدا. ولهذا السبب، أحتاج إلى المشورة
ـــ حول زواجك المرتقب؟
ـــ من حدثك عن هذا؟ مصطفى؟  كم هو سليط اللسان هذا الشخص
ـــ لا، أبدا
ـــ ثم إذا افترضنا أنني أريد الزواج من جديد، فالمرأة التي تستأثر باهتمامي بعيدة المنال، كما أن صف المهتمين بها يكبر كل يوم
ـــ إذا عزمت، فتوكل! هذا ما يقال في كل آن وحين
ـــ وهل حدثوك عن الثروة الخيالية التي ورثتها عن المرحومة زوجتي؟ لعلمك، كل ما كانت تملك، كان المنزل الذي نسكن فيه، والذي اشترته البنات وكتبنه باسمها بعد موافقتي بطبيعة الحال، ولا تسألني عن الظروف التي أعطيت فيها موافقتي
ـــ آسف، لم يكن قصدي أن أجرحك
ـــ لا تبالي
ـــ أتمنى أن يتم كل شيء بخير، أعني أن ينتهي تصوير الفيلم وأن تعود القنطرة إلى سابق عهدها. ثم لا أخفيك أنني أفكر في الرحيل في أقرب الآجال
ـــ هل عندك أسرة تنتظرك في مكان ما؟
ـــ عندي بيت… لا أولاد
ـــ كم هو مؤسف أن يكون هناك بيت بدون أولاد
ــ أنا غير آسف. أظن أن من يؤمن بالقدر، لا يجب أن يتفنن في تصنيف الصالح والطالح على هواه
ـــ أود أن أخبرك، قبل أن أنسى، بأن ضيوفا مهمين سيأتون من الخليج، وأتمنى أن تكون معي حين ألتقي بهم
ـــ لا أظن أني سأقبل الدعوة. ما محلي من الإعراب وسط أناس مهمين؟
ـــ أنت مهم جدا بالنسبة لي، وهذا هو الأساسي. أحتاج إلى مشورتك بهذه المناسبة. بعدها، إن لم تحضر، لن يكون لمشورتك أي معنى
ـــ دعني أفكر في الأمر. فأنا، بدوري، لدي أولويات، ومكوثي طويلا في رحاب القنطرة قد يبعثر كل شيء
ـــ مم تخاف؟
ـــ كل واحد منا وجبة طازجة متنقلة يتهافت الآخرون على الظفر بها حتى ولو لم يكونوا جياعا، ولكنهم ينفرون منها تباعا عندما تبلغ درجة متقدمة من التعفن
ـــ كفاك تفلسفا! سأراك قريبا
ـــ إن شاء الله

(يتبع)

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com