قصة للكاتب محمد ياسين خليل القطعان

قصة للكاتب محمد ياسين خليل القطعان

إياب بلا ذهاب…

محمد ياسين خليل القطعان

أقلعتِ الطائرةُ مُتجهةً إلى إحدى الدّولِ الواقعةِ في شمالِ العالمِ، يَجلسان على مَقعدين مُتجاورين، كُلٌّ منهما يترقبُ أنْ يبدأ الآخر بالحديث، سادَ صمتٌ طويل قضياه في مُطالعةِ ما حواه ظهرُ المقعد أمام كل منهما من إرشاداتِ الطيران، خاصةً عند حالة الطوارئ .

الوقتُ يمضي ثقيلاً،  يأمل أن يبدأ جاره بالحديث وبدء حوار، يختلس النظر إليه بطرف عينيه، مالَ بكتفه نحوه مُدعياً أنه نائم، دّبرَ أنْ يعتذر له إذا بدا علي جاره الامتعاض ، لكن خذلته الجرأة، فآثرَ الصمت والسكون، وتجنب المحاولة ، فجأة أدارَ  رفيقُ الرحلة وجهَه نحوه قائلاً: ـ  أنا اسمي : عزيز .

أجابه مُسْرِعاً مُمْتناً لمبادرته :

 ـ وأنا اسمي (باسم )، هذه أولُ مرة أغادرُ فيها أهلي و…. ، صمتَ خجلاً، وطأطأَ رأسه .

فَهِم مُحدثه ما أخْجلَه، فهزّ رأسه، وابتسم ابتسامةَ مجاملةٍ، وأضاف :

ـ  أنا مثلُك، هذه أولُ مرة أفارقُ فيها أهلي وزوجتي، وكررَ كلمة زوجتي، هزّ باسم رأسه … و لاذ بالصمتَ، آملاً أن يستطرد جاره في حديثه، لكنه قال ما قال ولاذ بالصمت هو أيضاً.

هبطت الطائرةُ، في انتظارهما سيارة الشركة التي التحقا بها للعمل، آثرا أن يسْكنا معاً، الوَجَلُ من المجهول لا يترك لهما مَجالاً للمجازفة مع الآخرين، شيءٌ ما ربط بينهما منذَ لحظة تحليق الطائرة …شيءٌ غامضٌ، يشعران به، ولا يتمكنان من تحديده، كل منهما اطمأنّ للآخر.

مرتِ الأشهر بطيئة على كليهما، لكنها أشدُ قسوةً على باسم، (عزيز) تأقلم بسرعة وتعايش مع مَنْ حوله، كوّن صداقات كثيرة، روحه مرحة، يميل إلى الدعابة، باسم ما زال تائهاً منسحباً ممن حوله متقوقعاً على نفسه .

مع إشراقةِ كل صباح يُحادث باسم زوجتَه (بسمة) بصوتٍ خفيضٍ حتى لا يسمعَ مَنْ حوله توجعَه، يبثها حنينه وأشواقه، يعيدُ على مسامعها بعضَ المواقف والأحداث التي مرت بهما، في كل مكالمة يُعيد المواقف والأحداث نفسها، لكن بلغة أشدّ إثارةً، يصف هذه المواقف من خارجها كأنه ليس هو، وهي ليست هي .

مع نهاية كل مُحادثة يفشل جفناه في صَدّ الدمعات التي تنزلق من مقلتيه، بعدها يلْزم الصمت، يتوجه إلى عمله بشكلٍ آلي، كأنه يُحرَك عن بُعد بأيدٍ خفية، لا يشعرُ بنفسه إلا وهو مُنخرطٌ في العمل، ويؤديه بدقة متناهية.

في جلسةِ توجّعٍ بَثّ كل منهما ألم بعد الزوجة، اتفقا  بعدها أنْ يستقدما زوجتيهما، بعدَ مرور ِسنةٍ التحقتْ زوجةُ عزيز به، أمّا زوجة باسم فلم ترحبْ بالفكرة .

في نهايةِ كُلّ أسبوعٍ يحلُّ باسم ضيفاً على مائدة صديقِه عزيز، تقبلتْ زوجةُ عزيز الأمر لعلمها بعلاقة زوجها بباسم منذ تجاورهما في الطائرة حتى وصولهما أرض الأحلام، ولما لمسته في باسم من رهافة المشاعر.

باسم شابٌ من أبناء الريف، ملامح وجهِهِ طفولية، متوسط الطول، يميل إلى النحافة، حواجبُه سميكة، عيناه سوداوان واسعتان، أنفُه مستقيم مع طول ظاهرٍ، شعرُه ناعم، لكنه لا يُطيله، يتعهده دائماً بالتقصير، له قَبُول عند مَنْ يراه لأول مرة، ضِحكتُه قصيرة تبدأ عالية ثم يقتلها فجأة كأنه نَدِمَ على إطلاقها، ملامحه مُحملة دائماً بالخجل، كثيراً ما يترك لحيته مُنْطلقة،  دوماً يتخللها بأنامله وبنظر بعيداً، بشرتُه تميل إلى السُّمرة، لكنّها سُمرة نقية مُحبّبة .

في زياراتِه لصديقه عزيز لسانُه دائماً ينطلق بالحديث عن زوجتِه، وقصةِ حبهما التي استمرتْ سنوات دراستهما بالجامعة، زوجتُه بسمة تنبض ملامحها بالبراءة المختلطة بالجمالِ والرقة، صوتُها حالم  لا يتجاوز آذان مَنْ تحُدثه .

تشابهتْ أحرفُ اسمه مع اسمها، لكنها فاقتْه في بياضِ لونِ بشرتها ونعومتِها، جرأتُها في التعبير عن مشاعرها تسلبُه عقله، ملابسُها منتقاةٌ بحيث تبرزُ مفاتن جسدها، هي فاقته حسناً ، هو فاقها حبّاً، إنه المتيم بها، وهي العاشقة له كما يردد دوماً.

منذ زواجهما صارا في قريتهما القابعة وسطَ الحقول مَضْرب المثل على العشق، هو المُدّله بحبها، المُلبي لرغباتها  حتى أنّ الأمهات يدعون لبناتهن أن يَرْزُقَهنَ  الله بمثل باسم، أهل باسم يرددون أنها سحرتْه، لجأوا إلى السحرة وقارئي النجوم والكواكب، قالت لهم مَرَدة الجن السفلي:

 ـ إنّ بسمة في شِغاف قلبه، ولا فكاك له من قيد حبها.

ما تقوله بسمة هو الصواب بعينه؛ لأن بسمة تعلم ما لا يعلمه غيرها كما يردد عن قناعةٍ، في عيد الأم يفاجئها بهدية مع أنها لم تَحْملْ، ولم تلدْ، يُهاديها في عيد ميلادها، وعيد زواجهما .

أسَرَّ إليها ذاتَ يومٍ برغبتِه في الانجاب، صمتتْ ، طال صمتها ، صوّبتْ عينيها داخل عينيه، أخذتْ كفَ يدِه أنامته بينَ كفيها الناعمتين، ابتسمتْ، قبلتْ  ظهرَ كفِه وباطنه، قالتْ في صوتٍ رهيف :

 ـ  نؤجل ذلك يا رُوحَ بسمة حتى لا يَشْغلُني عنك أيُّ أحدٍ، حتى لو كان ابنَنا، دعني أريكَ صُنوفَ حُبي، وأرويك من وَلَهي، وشوقي .

صمتَ باسم، أسقطَ في يده وقلبه، تعطلتْ حواسُه من نظراتها وكلماتها، لسانُ حاله يقول :

 ـ  كم أنا محظوظ بك يا روحَ باسم ! كم أنت مخلصة!  كم أنت رقيقة !

 صباح ذلك اليوم ابتاعَ باسم مَقعدين وَثيرين وطاولتين، وضعَ ما اشتراه في شُرفة منزلِه الفسيحة المُطلةِ على النهر المتراقص أمام منزله الريفي،  تلك الشرفة المظللة بشجيرات الياسمين التي يفوح عطرها مع مداعبات الرياح.

وَضَعَ على إحدى الطاولات لوحةً زجاجيةً مُزخرفة بألوان بهيجة نقشَ عليها : (حبيبتي إلى الأبد)، خصَّ الطاولة الأخرى بأطباق العَشاء الخفيف وأقداحِ القهوة، وما يطيبُ لهما من مأكولات عندما يتقاسمان المقعدين، هيّأ الشرفة وأبدعَ تزيينَها؛ ليكونَ فيها لقاء نهاية الأسبوع، إنه يوم الخميس ،عيدهما الأسبوعي .

ليل خميسِ كلِ أسبوعٍ يجلس باسم وبسمة في شُرفة منزلِهما على مَقعدين مُتجاورين يتناولان العشاء الخفيفَ الذي يعقبُه قدحان من القهوة، ومن الخلفيةِ يتسلل صوتُ الموسيقا الهادئة  التي تنسابُ صانعةً ًمع الاضاءة الخافتة سحراً.

تجلس بجواره مُرتديةً ذلك الروبَ الأحمرَ الشفاف الذي لم تُغلقْ أزرارُهُ قط منذ تزوجها، تتعمدُ كشفَ مفاتنَها المتوهجة مُسدلةً شعرَها على كتفيها العاريتين مُتعطرةً بالعطر الذي انتقاه لها، وأصبحَ علامةُ عليها عند صويحباتها.

تجلس ملتصقةً به، تداعبُ شعرَها بيدها، تميلُ برأسِها على كتفِه، تهمسُ في أذنه بكلماتٍ، وتبتسم، ثم تنهضُ مُتغنجةً ، فيفوح عطرُها، ينهضُ وراءها كما نهضتْ، تقبض على  يده، تنطلق به إلى غرفة …

في إحدى زياراتِه لصديقه عزيز انطلقَ في الحديث عن معشوقتِه بسمة، وحبِها له ، ذلك الحب الذي فاق كلَ حب، وأنها فضلتْه على ابنِ خالتها الذي كانت تُطلق عليه عبارة : ( الجلف الأغبر) بعدما  لاحظتْ أنه دائماً  يُظهر كُرهَه لحبيبها باسم، ويحطُّ من شأنه، فكانتْ تلصق به كل نقيصةٍ  حتى ترضيَه، زادتْ أنها قاطعتْ منزل خالتها لتثبتَ له عشقَها غيرَ المحدود.

عزيز وزوجتُه يُنصتان لإسهاب باسم ولا يقاطعانه، حتى لو قاطعاه فسوف يسترسلُ في حديثه عن وفاءِ بسمة وحبِها له، هذا هو حديثُه الأثير، يؤكد لهما افتتان بسمة به، ولمّا لمحَ في عينيهما التعجب القريب من التكذيب ، دعاهما إلى زيارتِه  في منزلِه في الإجازة  السنوية القادمة التي اقترب موعدُها .

مرَقتْ سنتان على غُربة باسم، ومازال وفياً لحبه، ها هو يصطحب صديقَه عزيز وزوجتَه إلى الأسواق ليشتريَ لمحبوبتِه ما تريده وما لا تريده، فسوفَ يُغادر قبلَهما لقضاء عطلته السنوية؛ ليلقى الحبيبةَ بسمة، وهما  سوف يلحقان به بعد ستة أشهر.

تجولوا في الأسواق، أُعْجبَتْ زوجة ُصديقِه بروبٍ نسائي برتقالي اللون من الحرير، ومعَه روبٌ أبيضُ رجالي، فاشترتْ لها ولزوجها، اختار مِثلَهما، فزوجتُه تُحب هذا اللون، لا شكَ أنها ستكون به رائعة ًفي لقاء خميس كل أسبوع .

اصطحبَ عزيز صديقَه إلى المطار مُودعاً وداعياً  بسلامة الوصول وراجياً له عطلة مُبهجة مع زوجته بسمة، مُوصياً إياه إبلاغها سلام زوجته، وأنهما سوف يزورونهما عمّا قريب.

في مطار الوصول  كانتْ بسمة في استقباله، عندما شاهدتْه خارجاً، وشاهدَها أسرعتْ به قدماه إليها، حملَها بين يديه صانعاً بها دوائر مُتتالية في الهواء وَسَط ضحكٍ مُختلط بالبكاء حتى أنّ  المنتظرين أقاربَهم خافوا عليهما أنْ يَطيحا بينَ أرجلِ الواقفين، ويصيبهما ضررٌ.

وصلا إلى عُشِّهما، أراها ما ابتاعه لها، فاجأها بما حملَه من الهدايا وخاصةً رَوبَها البرتقالي الحريري الذي أبهرها،  فارتدته من فورها، وأخذت تخطو في زهوٍ وخُيلاء ، احتضنتْه، قبلته بلا توقفٍ وهو يضحك .

 ليلةُ وصولِه كانتْ ليلةَ العمر كما أسمتْها، طعام يحبه أعدته له، حكاياته في الغربة وشوقه إليها الذي لم ينقطع، استعادا مواقف طريفة بينهما مرت عليها سنوات، لكنها محفورة في الذاكرة والقلب ، كانت ليلةً متوهجة.

مُبكراً استيقظتْ، أعدتْ وجبةَ الإفطار، ارتدت روبها البرتقالي، تعطرت بعطرها الفواح، أسرعتْ إلى حبيبها؛ لتوقظَه حتى يَهْنأ معها بتناول أولِ إفطارٍ لهما معاً بعد عودته.

باسم مازال نائماً، لا يسمع نداءَ زوجتِه، رفعتْ صوتَها، تنادي …، لا مُجيب ، اقتربتْ منه ، تناولتْ يدَه قبلتها، وجدتْها باردةً ما زال مُغمض العينين، صرختْ … صرختْ صرخاتٍ مُتتالية، عَجَّ المكان بالبكاء والنحيب، باسم حبيبها غادرَ الدنيا.

مع مرور الأيام  بسمة تتأقلم مع الحياة، تُطوِّع نفسَها على غيابه، اعتادتْ على فراقِه، عَلِمَ صديقُه خبر وفاته، شعرَ كأن خِنجراً مَسموماً طعنَه في قلبه، يبكي ويردد :

 ـ أهذا حقاً ؟  أَ باسمٌ مات ؟

 انقطعَ الاتصال بين عزيز وزوجتِه ببسمة، يبدو أنّ رقمَ هاتفها تغير هكذا ظنا، لكنهما عزما زيارتَها  كما خططا من قبل  للاطمئنان عليها، ولتعزيتِها في وفاة زوجِها وحبيبها.

مضتْ سبعةُ ُأشهر على وفاةِ باسم، وصلَ عزيز وزوجتُه إلى الوطن لقضاءِ العطلةِ، خطّطا لزيارةِ بسمة، لا شك أنها عانتْ بعد فقده، باسم  كان لها الحبيب والزوج وكل حياتها، زوجة عزيز تنظر لزوجها وتقول :

 ـ  معك الله يا بسمة،  موت حبيبك يقسم الظهر، لك الله يا بسمة.

في يومِ خميس  قصدَ عزيز وزوجته منزلَ بسمة، وصلا مع غروب شمس ذلك اليوم ، شاهدا المنزل كما وصفه لهما تماماً، حتى رائحة الياسمين تعبق المكان.

طرقَ عزيزٌ الباب عدةَ مرات، فَتحَ لهما رجلٌ عملاق كثّ الشاربِ، منكوش الشعر ،عيناه جاحظتان ،عَرضُه مِثلُ طولِه، يرتدي الروبَ الأبيضَ الحريري، سألهما  بصوتٍ غليظٍ :

ـ  مَنْ تريدان ؟ ومن أنتما ؟

أخبراه أنهما جاءا لزيارة بسمة، وتعزيتها، فهما صديقان للمرحوم .

لفتْ انتباه زوجةَ عزيز أنه يرتدي الروبَ الأبيض الحريري الذي ابتاعَه باسم معهما قبل سفره، كادَ الروب الحريري أن يتمزقَ من حجمه الضخم غير المتوافق مع مقاس الروب .

خرجتْ إليهما بسمة، استقبلتْهما بفتور، وجهُها خالٍ من أي علامات الحزن، لم يُطيلا الزيارة، شعرا أنهما غير مرحبٍ بهما، وأنهما في المكان الخطأ، والزمان الخطأ، عزياها وانصرفا وهما مُندهشان مصدومان مما شاهداه وسَمِعاه.

بعد مُغادرةِ عزيز وزوجته نادى لابسُ الروب الأبيض الحريري بسمة َبصوتٍ خشنٍ غليظ :

 ـ  هيا يا بسمة، أنا في الشرفة، البسي الروب البرتقالي، وتعالي بسرعة .

هرولتْ بسمة مُرتديةً الروبَ البرتقالي الحريري، جلسا على المَقعدين مُتجاورين يتناولان العَشاءَ الخفيف الذي يعقبُه قدحان من القهوة.

في الخلفيةِ صوتُ الموسيقا الهادئة تنسابُ حيث هما مصحوبة بالإضاءةِ الخافتة، تأكدتْ أن الروبَ أزرارُه مفتوحة، كشفَتْ مفاتنَها المتوهجة مُسدلةً ًشعرَها على كتفيها العاريتين مُتعطرة بالعطر المعهود.

تداعبُ شعرَها بيدها، تميلُ برأسها على كتفِه، تهمسُ في أذنِه بكلماتٍ، تبتسم، تنهض مُتغنجة، يفوح عطرُها، ينهض كما نهضتْ، تقبضُ على يده، تنطلقُ به إلى غرفة …

في طريقهما إلى غرفة … أطاحتْ  قدمُه باللوحةِ  الزجاجية (حبيبتي إلى الأبد ) ، كسرها،  حطمها، تناثرتْ قطعاً صغيرة، نظرتْ إلى قطع الزجاج، ونظرتْ إليه ، ضحكتْ، أسْرَفَتْ في الضحك ، قالتْ  :

ـ  مازلتَ (الجلف الأغبر ).

محمد ياسين خليل القطعان (الكويت / مصر)

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *