قصة قصيرة للقاص المصري : محمد ياسين خليل القطعاني

لا يا أبي…!

على مَقعد حجري في الحديقة العامة جلسَ ساهماً مُطالعاً الأفق، هذا دأبُه في مِثل هذا اليومِ من كل سنة على مدى عشرين سنة خلتْ، يرتحل من قريتِه المنغرسةِ في بطنِ الريف؛ ليجلسَ على المَقعد نفسِه، حَفِظ آثار الزمن التي نقشها على سطحِه، في كل حولٍ تتآكل من وسطِه وأطرافِه أجزاء، هذه المرة نُشْبةُ مَخالبِ الزمن فيه مُوجعةً، انشقَ منْ مُنتصفه، لم يتبقَ منه إلا نَزرٌ يسيرٌ يكاد يكفي الجالسَ عليه .
عينُه على الشمسِ في أفقها، تغرب مُلملمةً أشعتَها في رَمقِها الأخير هاربةً حتى كادتْ لا تُرى، ظلّ يُحدّق فيها حتى تلاشتْ، تملّكته رَعْشةٌ، فأزاحَ وجهَه عن غروبِها، عاودَ النظر إلى الشفقِ مرةً أخرى مُرتعشاً .
من غروبِها أقبلتْ فتاةٌ تتهادى مُحتضنةً يدَ امرأةٍ في العقد الرابعِ من عمرها، يبدو أنها أمُّها، كلما اقتربا بدتْ ملامحُهما تبرزُ أكثر، عدّل من نظارته على أنفه لمّا شَعرَ أنّ وجهَ المرأة كأنه طافَ بعقلِه من قبل .
جَلستا على مَقعدٍ خشبي، الأمُّ تتحدث، الابنة تُنصتْ، تبتسم، ثم تضحك ضحكةً طُفولية رنانة، ثم حديث بينهما لا يسمعه، تنطلق ضحكتهما بعده .
الابنةُ ترفلُ في ملابسَ بلونِ الورودِ حتى أوشكت الورودُ أنْتَفوحَ بعطرِها، الأم تكتسي ثوباً بلونٍ أزرقٍ داكن أنْطَقَ بياضَ بشرتِها، لا تزالان تتحدثان، تبتسمان، تضحكان، لكنه لا يفطن لحديثهما .
أحكمَ نظارته على أنفه مُتأملاً وجهيهما، الفتاة زهرةٌ تخطو نحو َالعشرين من عمرها، ذات مُقلتين ناعستين، فوقَهما حاجبان سوداوان كهلالين على جبهةٍ بيضاءَ ناصعة، أنفٌ دقيق ، مَبْسمٌ مُكتنزٌ، عنقٌ طويل مُنساب، شعرٌ أسود ُمُسترسل، بجوارِ فمِها شامةً ٌسوداء أسْفَرَتْ بياضَ وجهِها .
حينَ وقعتْ عيناه على الشامةِ في طرف فمها المكتنز تسمرتْ عيناه على الفتاة، ثم أبْعدَ وجهَه عنها بسرعةٍ حتى كادتْ نظاراتُه تُغادر أنفَه، وتودع أذنيه، مالَ برأسه إلى الأرض، قبضَ عليها بكلتا يديه، نظر عِنْدَ قدميه، غشيَه دُوَار، ارتعشتْ يداه، تفصّدَ العرقُ من جبهته، ارتجفَ قلبُه ،
نَبَسَتْ شفتاه :
ـ هذه كَشامةِ زَينب ، هذه كَشامةِ زينب .
الشامةُ ارتدتْ به القهقرى إلى عشرين سنةٍ خَلتْ، حينَ وفدَ إلى المدينة من بَطنِ الريف مُلتحقاً بعملٍ وهو في الخامسةِ والعشرين، ساقتْه الأقدارُ إلى السُكنى في ذلك الحيّ الشعبي العتيقِ حيثُ الأجواءِ هناك تقارب أجواءِ نشأتِه في الريف .
استأجرَ شُقةً ًمن غرفتين في الطابق الأرضي في بناية قديمةٍ تخالُها ستنهار بعد قليل، في إحدى الغرفتين نافذةٌ ممتدة طولاً وعرضاً تُطل على الحارةِ، وقريبة من باب البناية الرئيس، منها يُشاهد المارين ذهاباً وجِيئةً والدالفين إليها .
زينبُ ابنةُ مالك البناية التي يقطنها مُقبلةٌ على العشرين من سِنيّها، بوجه نَضِرٍ، وعينين دَعْجاوين ، ابتسامة ٍحيِّية، صوتٍ كهمس الورودِ ينسابُ من ثغرٍ لطيف، أسيلةِ الخدين لينةِ الغصن، تمشي في خَفَرٍ مصحوبٍ بعزةٍ، مُستعليةً برأسِها في كبرياء، هي كما ينعتُها جيرانُها :
ـ حَصَانٌ عفيفة، لا ينظرُ إليها ناظرٌ إلا اختلاساً مَهابةً ًواعتزازاً، مُنذُ تراها تجذبُك براءتها، تأسرُك عفويتها، هي طفلةٌ في جَسدِ أنثى .
بعد عودتِه من عملِه ليلَ كلّ يوم يجلس خلفَ مكتبِه المتهالك بجوار النافذة؛ لينجزَ بعضَ مهامِه، يُبصرَ الذاهبَ والآيبَ من ساكني الحارة .
من خلفِ النافذة يشاهد زينبَ وهي عائدة من بيت أختِها المتزوجةِ في نهاية الحارة بعد مَغْربِ كل يوم حيث موعدِ دواءِ والدها الطاعن في السن، يبتسمُ لها، لكنّها لا تَعرُه اهتماماً، لمّا تدلفُ المنزلَ يسمعُ صوتَ إغلاقِ ِمصراعِ البابِ رداً على ابتسامته .
الأيامُ تتوالى، لا يمَلُّ من انتظارِه بجوار النافذة، لا يزال يبتسم، لا يزال يسمع صوتَ إغلاق مِصراع الباب، تزداد الابتسامةُ اتساعاً، ويزدادُ تعلقُه حرارةً بهذه الحسناءِ المُتلفعةِ بالحياء، لا يجرؤ على أكثرَ من هذا، كأنهما تراضيا على ذلكَ، واكتفيا به، هو يبتسم، وهي تصك مِصْراعَ الباب .
ذاتَ يومٍ شاهدتْ زينبُ النافذةَ مفتوحةً، لم تجدْه كالعهدِ به خلفها مُبْتسماً، مرَّ يومٌ، ثم يومٌ ، تملكها قَلقٌ، شعرتْ كأنها فقدتْ شيئاً عزيزاً، حدّثتْ نفسها مُطمئنةً ً:
ـ لعلّه سافر لأهلِه، أو لعّله …
شعورُها بفقده يُقلقها، لابدّ من عملٍ ما، اضطرَها القلقُ أنْ تحكيَ لأختها هواجسَها، لامتْها أختُها حينَ وجدتْها واجدَةً عليه، لكنها ترفقتْ بها، أشارتْ عليها أنْ يتوجها معاً لشُقتهِ، ويطرقا بابَه مُتذرعتيْن بحملِ وصلِ الإيجارِ.
طرقا الباب، لا مُجيبَ، استمرّ الطرقُ، استمرّ الصمتُ، بعد لحظاتٍ فتحَ لهما البابَ وهو شاحبُ الوجه زائغُ العينين، يتصبب عرقاً، لا تقوى قدماه على حمله، أصابتْه الحُمى مُنذُ ثلاثةِ أيام، ولا أنيسَ له، ولا جليس .
زينبُ تعهدته بالطعامِ، والشراب، والعلاج حتى تعافى، كانتْ تحملُ له الطعامِ ثلاثَ مراتٍ في اليوم والليلة، تدلفُ مُسرعةً ً، تنصرفُ مُسرعةً ، ما وجدَ منها إلا الحياء، فلا لانتْ في حديثٍ، ولا مالتْ في فِعلٍ .
عُوفِيَ مِنْ عِلّتِهِ، عادَ يجلس بجوارِ النافذة، عادتْ تَمْرقُ من أمامه، عاد يبتسم لها، ظلّتْ في خَفَرِها، لكنّه لم يعدْ يسمع قلقلةَ َصوتِ إغلاق مِصراعِ البابِ.
الجرأةَ طاوعتُه بعد َمُعاندة، حادثَها بصوتٍ خافتٍ في أثناء مرورها بجوار نافذته أنّه يريدُ أنْ يلتقيَها مَغربَ اليوم ِفي الحديقة القريبة لأمرٍ يخصهما، بعد لأيٍ ورفضٍ أذعنتْ، التقيا في الحديقة، جلسا سوياً على المَقعد الذي يجلسُ عليه الآن .
يَوْمَها أسَرَّ لها بولَهِه، ورغبتِه في الزواج، سوف يسافرعمّا قريبٍ لوالدِه كي يُخبرُه الأمر، ويعود إليها حاملاً البشرى، ما رفعتْ رأسَها مُذْ جلستْ، ما ظَفَرَ منها إلا بابتسامةٍ حيّيةً، أيقنَ رضاها .
في أثناءِ عودتِها من لقائِه هزّتها فرحةُ غامرة، كأنها ملكتْ الدنيا، ترغب أنْ تحلق كطائرٍ يستكشف الكونَ حوله، تتبخترُ عند عودتها كظَبيةُ آمنة تداعب الورود في المروج، قلبُها يزغرد، وجهُها ينضُح بهجةً .
في حاجة إلى مَنْ يفرح معها … عَرجتْ على أختها، أفضتْ إليها بسرِّها، هي لأختها بمثابةِ ابنتِها، أختُها أكبر منها بسنواتٍ، لم يُقدّر لها الإنجاب، أنصتتْ لها مُنْدَهشةً ومتعجبةً من جرأة طاعتها له، فرِحتْ لفرحها، احتضنتْها .
بجوار النافذة يجلس، ينتظرُ مرورَها، يبتسمُ لها، الآنَ فقط هي تبتسمُ له ابتسامةَ َطِفلةٍ خجولة، تزداد ابتسامتُه اتساعاً مع الأيام، تزدادُ ابتسامتُها خجلاً، تهيمُ به عِشقاً، لكنّ حياءَها يُغالبُها، هو يُطالبها بالمزيد، هي غير قادرةٍ على أكثر من ذلك، تظنُ بينها وبين نفسها أنْ هذا يكفي .
شغفُها به النامي مع الأيام أخذَ يُنحِّي حياءَها شيئاً، فشيئاً، ويُضعف خشيتها، تحفظها أخذ يتآكل مع مرور الأيام، انفلتْ منها حرصُها حينَ أشار لها بيدِه ذاتَ يومٍ وهي عائدةٌ من عند أختها أنْ أريدَكِ لأمرٍ ما .
كالمسحورةِ ساقتْها قدماها إلى بابِ شقتِه، كالمسحورةِ دخلتْ، كالمسحورةِ أُغلقَ الباب، كالمسحورةِ استسلمتْ، كالمسحورةِ سُلبتْ عزيمتُها، كالمسحورةِ أطاعتْه، وكالمسحورةِ فقدتْ … .
عادَ يجلس بجوارِ النافذة في انتظارِ مرورِها، عادتْ تمر بجوار النافذة، لكنّها حزينةٌ مَهمومة ٌنضبَ ماءُ الحياة من مُحيّاها، أنهكَها الندم، تسيرُ مُنكسةَ َالرأسِ، هَزَلَ جسمُها ، طالَ سهادُها، اللومُ يفتكُ بها، مُحطّمة الفؤادِ ، تقتلها الهواجسُ، انطفأتْ الفرحةُ، لم تعُد الظبيةُ المرحة كما كانت .
أختُها طرقتْ بابَه بعد عِدّةِ أسابيعٍ، أخبرتْه أنّ زينبَ حاملٌ، عليه إدراكُ الأم، والوفاءُ بما عاهدَها، وعدَها خيراً، لن يتخلى عن مَعشوقتِه، هو عِنْدَ عهدِه، سيرحلُ غداً، ويعود بموافقةِ والدِه .
أخْبَرَ والدَه برغبتِه في الزواج مِمَّنْ هواها قلبُه، ويحمل داخلَه ديناً نحوها، َرمَقَه والدُه بعينين حمراوين مُحْولتين مُستهجناً اختيارَه بنتَ المدينةِ، قطّب حاجبيه، عبسَ، ثم مسحَ شاربَه الكثَّ بإبهامه والسبابة وصرخَ بصوتٍ أجشّ قاطعٍ :
– يبدو يا ولدي أنّ المدينةَ أتلفتْكَ، وأنْستكَ تقاليدَ آبائِك، وعُرْفَ أجدادِك ، وأكمل كلامَهُ:
ـ تعال خلفي إلى منزلِ عمِّك؛ لنخطبَ لك ابنتَه ذاتَ الحسبِ والمالِ .
أُسْقطَ في يده، ذَرَعَهُ الفزعُ، تلجلجَ، أجابه بصوتٍ مخنوقٍ :
ـ لكنّ ابنة َعمي أكبرُ مني بعشر سنواتٍ، وصَعبةُ المِراس .
والده: المالُ عِوض عن العمر.
هو : يا أبي ، هيَ لا تشتم ّمن رائحةِ الجمالِ شيئاً .
والده : المال عِوض عن الجمال .
هو : هي مُطلقةٌ، ونصيبُها في الخَلَفِ مَعْدوم .
والده : المالُ عِوض عن العيال .
لم يَعُدْ للمدينة كما وَعَدَ، طالَ انتظارُ زينب، طال انتظار اختُها ، الألم يعتصر مُهجة زينب، شبح الفضيحةُ يُطاردُها، باعتا البيتَ، انتقلتا إلى مَنطقةٍ أخرى بعيدةٍ، بدأ حملُ زينب يُعلنُ عن نفسهِ.
زينبُ ماتتْ بعد الولادةِ بحمّى النفاس، نسبتْ أختُها مَولودتَها الرضيعة َ لزوجها بعد رِضاه نَخوةً منه، وجبراً لخاطرهما، أسمتْها زينب على اسم أمها، استرعتْها، كفلتْها، جعلتْها في حَدقتي عينيها .
من مَقْعده لا يزال ينظر إلى الأم، وابنتها، يتأملُ الشامةَ، يتألمُ من َوجَعِ السنين، وطعنةِ أبيه، لايزال يُحدّقُ في المرأة الجالسة أمامَه، وفي الفتاةِ ذاِت الشامةِ، وتحدثُه نفسُه :
ـ شامةَ هذه الفتاةِ، كشامةِ زينب .
أمَّ الفتاة تطيل النظر إليه، تغيرتْ ملامحها بعد الضحك والمرح إلى عبوسٍ وتقطيب ،أخذتْ يدَ ابنتِها، غادرتا المَقعدَ، مرَقتا بالقرب منه، نظرتْ إليه مُجدّداً بعينين لوامتين، سِهامٌمن نارٍ تخرج منهما تمزقُ أحشاءَه، بعد أنْ تجاوزاه بمسافةٍقريبةٍ، تركتْ الفتاةَ واقفةً، وعادتْ إليه ، انتصبتْ أمامَه، قالتْ له بصوتٍ مَكْلومٍ :
ـ هذه ابنتُكَ زينب، ابنةُ أختي المرحومةِ زينب، قالتْ ذلك، وأدارتْ له ظهرها، ورحلتْ .
الدنيا طوقتْ رقبته، سيفٌ مَسْموم ٌاخترقَ فؤادَه، مزّقَ كبدَه، لظى يشوي عقلَه، استعادَ صورةَ زينب، براءتها، رقتها، وصورةَ أبيه الفظّ ،الغليظ ، وحديثِه عن الميراثِ، والعاداتِ، والأصول، والمالِ، والعيالِ .
من الحديقةِ خرجَ مُهْرولاً، يُكلِّم نفسَه، يَهذي، يترنح، لا تَقوى قدماه على حمله، يضحك، ثم يبكي، الناسُ تلتفُ حولَه، سقطتْ نظارته، داسها بقدمه، لم يعد يرى أمامه،تتخبطه الأرصفة والجدران، هائماً …
في اليومِ نفسِه من كُلِّ سَنة … يظلُّ المَقعدُ الحجريُّ خالياً .
(الكويت / مصر)