مراد وريد يكتب قصة قصيرة

“ليل ومنحدر”

بينما كانت الشمس تتهيأ للمغادرة، كانت هي الأخرى تلمم نفسها لتعود أدراجها إلى بيتها القابع وسط المدينة، برمجت منبهها على أن تغادر القرية في واضحة النهار، لكيلا تقع ضحية الخوف والارتباك، حالما يرخي الليل بسدوله على الأزهار والأشجار المركونة بالشارع المؤدي الى المدينة.
تخاف أن يحاصرها وحيدة خلف مقود السيارة، أو أن يفقدها تركيزها بعدما يحشو أفكارها بالقلق والهواجس.
تمكنت أخيرا بعد أن قدمت عدة مبررات من الانفلات من بين يدي الحاجة، اتجهت مسرعة نحو سيارتها الرابضة خلف السياج، فتحت بابها ثم قفزت داخلها، ودون أن تنتبه إلى الإطار النائم، أدارت المفتاح وانطلقت بأقصى سرعتها باتجاه الهضبة الكبيرة مخلفة سحابة من الغبار..
وهي تمضي في هضاب كالجبال بين الحقول والسهول بسيارتها الصغيرة ذات اللون الأحمر القاني، على ممر حجري يصل بيت الحاجة بالطريق المعبدة، سمعت صوت طقطقة يأتي من الخارج، توقفت لترى ما المشكلة، وإذا بها تفاجأ بالإطار الخلفي للعجلة نائما يلامس وجهه الأرض، وقد أضحى في حاجة ماسة للاستبدال، طرقت الخيبة بابها عندما تذكرت أنها لا تفقه شيئاً من هذه الأمور فكل ما يتعلق بالسيارة كان يقوم به زوجها، تنحت عن الطريق بخطوتين أو ثلاث ثم رمت بنظرها خلف الهضبة تتنقل بعينيها يمنة ويسرة علها تصادف أحدا من الساكنة مارقا من هناك، ولحسن حظها لمحت شابا عشرينيا يذرع الطريق البيضاء مع خرافه الإحدى عشر..
استوقفته وطلبت منه المساعدة، فكان لها ذلك، لم يأخذ منه تغيير الإطار الكثير من الوقت، لأنه كان يعرف جيدا ما يفعله من خلال عمله لسنوات على جرار أبيه.
ورغم حرصها الشديد على المغادرة قبل الغروب، لكنها لم تغادر المكان إلا بعد احمرار السماء واختلاط البنفسجي بالأزرق والأصفر بالأحمر، وهذا دليل على ان الشمس قد غمست نصفها السفلي كاملا في المحيط وتركت نصفها العلوي يتلاشى شيئا فشيئا في الظلام.
هي الآن على الطريق وسرعتها لا تكاد تتعدى الستين كلم، تتلمس بعينيها الغائمتين الشريط الأبيض، عله يساعدها في الوصول إلى بؤرة النور، (بيتها في المدينة)، ومما زاد الطين بلة رؤيتها الضبابية التي تشتت الأجسام أمامها وتحول بينها وبين تحديد ماهية الشيء أو شكله، إلا بمساعدة نظاراتها الطبية، التي قد نسيتها بالمناسبة داخل حقيبة يدها المعلقة خلف باب ..
طال بها المسير على تلك الطريق الموحشة، وبينما هي هائمة في ظلالها وظلامها، لاحت امامها سيارة بأضواء كاشفة غشيت على عينيها وحجبت عنها الرؤية، فأرغمتها على التقليل من سرعتها لحين مرورها، لكنها وجدت نفسها بلمح البصر في قاع المنحدر الذي ترصدها بجانب الطريق، لم يكفه أنه ابتلع سيارتها دون بسملة، بل وأنه كاد أن يقضم جسدها المرهق لولا ستر القدير ..
مدت يدها بثتاقل نحو مقبض الباب، فتحته لتسقط من فورها وسط بركة من وحل كانت تتسع هناك، اتسخت ملابسها ويداها البضتان استحالتا الى لون السواد، زادت عصبيتها ارتفع ضغطها وسكرها .. أحست بخدر بجسمها وطنين يقرع طبلتي أذنيها، استلقت على الأرض ملقية بظهرها فوق العشب تناجي رب السماء أن يسخر لها من يساعدها ..
وما هي إلا دقائق حتى لاحت سيارة كانت تقل ثلاثة أشخاص (زوجان وابنتهما التي كانت تدرس الطب بإحدى الجامعات ).
لمحت الزوجة ضوءا يومض من بعيد فنبهت زوجها الذي لم يتوان، فعرج في الحين الى أقصى اليمين ثم ترجل من سيارته ليراها ممددة فوق العشب ومنظرها كان يوشي بمعاناتها. نادى ابنته وطلب منها أن تحضر حقيبة الإسعافات.. كانت شبه فاقدة الوعي إلا أن الطبيبة الصغيرة أسعفتها بشيء من خبرتها المكتسبة ، سألتها عن حالها وعن ما إذا كانت حالتها تستلزم الاستشفاء ..
طلبت منها الماء بإشارة من يدها ناولتها إياه، وبعدها طلبت من والدها ان يتصل بدورية الدرك التابعة لتلك المنطقة التي بدورها اتصلت بسيارة الإسعاف بعدما استفسرت عن ملابسات وظروف الحادث ..
حضرت سيارة الإسعاف وقبلها سيارة الدرك الذين قاموا بعملهم على أكمل وجه خصوصا عندما رأوا الحالة التي آلت إليها السيارة .. لقد فكروا للحظة أن صاحبتنا قد توفيت أو على الأقل أصيبت بكسور واستغربوا حقا كيف أنها نجت من هذه الحادثة.
وكانت قد اتصلت بزوجها قبل أن تلقي بنفسها خارج السيارة، دلته على مكانها برسالة من هاتفها، لم تشأ أن تفزعه وتحكي له التفاصيل فقط أخبرته ان السيارة توقفت بها وهي لا تدري كيف تعالج الأمر..
التحق بها زوجها بعد ساعة من الاتصال، وعندما رأى سيارتي الإسعاف والدرك واقفتين خفق قلبه بشدة وكاد يقفز من صدره .. (ما الأمر هل وقع لزوجتي مكروه ؟ كان يتساءل).. ركن سيارته بالجانب الآخر من الطريق ثم هرع مهرولا نحوهم .. وإذا به يصادف مجموعة من الناس يصوبون أنظارهم نحو المنحدر وحديث بعضهم لبعض ( غير جا الله من جيهتها أما كون … ) (عندها الزهر الفوسي ما غارقش) ( واش داوها ولا باقي ) .. كان عليه أن يتجاوزهم ليصل الى زوجته التي كانت ما تزال ممددة على الأرض، وهو في طريقه إليها رمى بعينيه الى أسفل المنحدر حيث السيارة الحمراء كانت ملطخة بالوحل وخدها الأيمن مضغوط وبه عدة خدوش نتيجة الارتجاج المريع .. فكر هو الآخر بأن زوجته قد أصابها مكروه .. هرع اليها كطفل خائف يتحسس أطرافها بيديه ويسألها هل هناك من ألم.. لكن الطبيبة الصغيرة طمأنته عن حالها وأخبرته أنها بخير ..
وهم يحملونها إلى سيارة الإسعاف تمتمت بكلمات لم يكد يسمعها أحد ( خدمة الليل ضحكة للنهار ) ..