قصيدة نثرية: لعبد اللطيف زكي

رسالة إلى صديق هجر زمنه …
التقينا صُدفةً في محطةِ تشحيمِ السيارات،
دعاني لمشروبٍ وشرعَ يستحضر أيامًا خلت،
يحكي لي تفاصيلَ حياته،
يشكو ما صارت عليه الظروف،
وشقاءَ وعيِ المثقفين،
وكأنه لم ينسحب،
ولم يدخل غِمده،
بل لم يستكن لوافدٍ كان غريمًا له،
أو كأنني غبيٌّ لا أعلم…
وقد كنتُ إبّانها قد أقسمتُ ألّا أنافق أحدًا –
وقبل أن أحنث –
وأنا أنتظر استعادة عربتي، أرسلتُ إليه هذه الرسالة القصيرة:
“أتدّعي، في سريرتك المرتجة،
وتوحي لصغار أقاربك،
وأنت أصبحت ترتجف من ظلك،
أنك من صفوة النخبة؟
أم حسبت أنني انخدعت لك؟
أيُّ نخبةٍ وأنت قابعٌ في بيتك،
وخلف شاشتك،
تسحق وقتك بين جدران المقاهي،
تُغرق صوتك المهزوم في صخب الحانات،
حيث لا يُسمع إلّا صدى وهمك…
تُضيع ذكاءك وطاقاتك ومهاراتك،
تُحبِط نموَّ فكرك،
ترفض أن ترى المركب والمعقد من الأمور كما عرفتك،
تلجم حَصافتك المعهودة فيك،
تتخلى عن نزاهة أحكامك وكنت متعلقًا بها،
تمنع الشك عن ذهنك وكان منهج تفكيرك،
تتشبث باليقينيات والمطلقات ولم تكن ترتاح لها،
تهيم في العموميات مبتعدًا عن التدقيق وكنت تمقتها…
تُغمض عينيك عن الأهم،
تنقاد لكلام لا يمكن ألّا تفهم مقاصده،
تنحاز لمواقف تخجل منها،
وتعتدّ بشهاداتك العليا!
وتزيّن صدرك بثقافة لم تبلغ شغافك!
ولا زلتَ تعارض من وراء ستائر الجبن،
تخنق صرخةً كادت أن تكون يومًا لك،
تسخط على الخراب وكأن لا يد لك فيه،
ثم تسجد لشروط بقائه،
ترتعد أن تفقد موقعًا هشًّا لا أمان له،
وتخشى لعنات التهميش ولن تدخر جهدًا لتنالك…
أتدّعي، في صخب المواسم والمهرجانات،
أن وعيك لا يُضاهى،
ونظرتك لا يدانيها خيال،
وتعمي عينيك عن تداخل النظريات والعلوم والمناهج وقد كنت تنادي بها،
تبكي عدمية النقد الشامل وكان شرط تحاليلك،
تتعلق بما لا روح له ولا دليل،
تكبّل العقل بأغلال العادة والأسطورة وتاريخٍ مفترض، وكنت لهم كلهم ناقدًا منتقدًا،
ثم تنكسر، عن طيب خاطر،
تطأطئ جبهتك للجهل والظلم،
بل لمن جمعهما معًا،
ولم يُجبرك على ذلك أحد.
تسجن روحك طواعيةً في قلاع الخراب، وفي أزمنة صدئت،
وتُغلق على خيالك نوافذ الهواء…
تحمّلت كل هذا، تطلب رأفةً ممن لا يرأف،
فهل وعيتَ أن الطريق انتهى بك منفيًّا في سراديب نفسك،
بلا أهلٍ، ولا صوبٍ، ولا صوتٍ،
ملغًى في أعين ذويك،
فاقدًا المدى، واللغة، والمعنى…
صديقك من زمنٍ هجرتَه…”
عبداللطيف زكي
نانت، في 27 أبريل 2025