الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني

الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني

 .. هل كانت قصائده نبوءة لما سيحدث لأمتنا

بقلم: * محمد المخلافي

تُعتبر الكتابة عن الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني تحديًا كبيرًا، إذ إنه ليس مجرد شاعر فذ، بل هو رمز وطني يحمل في طياته سيرة حياة تمثل تاريخ اليمن وثقافته. غادر المشهد الثقافي اليمني والعربي في الثلاثين من أغسطس 1999، بعد رحلة غنية بالإنجازات والإبداعات في مجالات الشعر والنقد والأدب.

كان البردوني واحدًا من أبرز الشعراء العرب في القرن العشرين، حيث أبدع في نقل الواقعين اليمني والعربي من خلال قصائده التي تعكس جوانب الحياة المختلفة، بما فيها الأمل والمعاناة. ورغم فقدانه للبصر في سن مبكرة، استطاع أن يفتح عينيه على عوالم جديدة من الإبداع، مما جعله يتألق في مشهد الأدب العربي ويصبح صوتًا مؤثرًا.

كيف حول الجدري ألم البردوني إلى إبداع؟

لا يمكننا تحديد تاريخ دقيق لولادة البردوني، إذ تشير العديد من الروايات إلى أنه وُلِد في عام 1929، ولكن قد يختلف هذا التاريخ قليلاً بسبب نقص التوثيق الرسمي في تلك الفترة. كان الناس يعيشون في زمن كانت فيه الحياة والموت يمران دون تسجيل رسمي.

وُلِد البردوني في قرية “بَردّون”، إحدى قرى مديرية الحداء بمدينة ذمار، التي تقع على مرتفع صخري يطل على وادٍ دائم الخضرة، حيث تندمج الطبيعة مع حياة سكانها. ومع ذلك، لم تكن طفولته خالية من المعاناة، فقد عانت قريته من وباء الجدري الذي كان يضرب البلاد بشكل دوري، وكأنه جزء من فصول السنة. في تلك الفترة القاسية، كان الجدري يحصد الأرواح ويدفن الآباء والأبناء في قبور الفراق.

تأثرت عيون البردوني بشدة خلال تلك الفترة الصعبة، حيث فقد بصره، مما أضاف بُعدًا جديدًا لتجربته الحياتية. هذه المعاناة العميقة انعكست بشكل جلي في قصائده، لتصبح صوته الذي يعبر عن آلام وآمال شعبه.

الشاعر الذي ينظر بعين القلب:

فقد الطفل عبد الله عينيه في مجتمع يغرق في ظلام الجهل والفقر. في بيئة تعاني من العمى، يصبح من الصعب تقدير حتى من يمتلك البصر. عاش أيام طفولته ككابوس مزعج، مليئًا بالظلام المادي والنفسي. ومع ذلك، لم تنكسر إرادته،  بل شق هذا الطفل الضرير طريقه في عتمة الحياة، متجاوزًا الصعوبات التي واجهته في وحل قريته وأشواكها.

عانى من حرارة النهارات الشديدة وبرودة الليالي القارصة، لكنه لم يستسلم للواقع. بل كان قلبه النابض وعقله المتفتح دليله في هذا الظلام، حيث كان يتلمس كل ما حوله بشغف لا ينضب. كانت لديه رغبة قوية في المعرفة، وفضول عميق يدفعه لفهم العالم واستغلال كل فرصة لتطوير ذاته.

لم تكن تلك الروح الساعية للمعرفة مجرد محاولة للهروب من الواقع، بل كانت بداية رحلة شاعر عظيم استطاع أن يحول معاناته إلى إلهام أدبي عميق يترك أثره في قلوب الملايين.

انتقل الطفل عبد الله إلى مدينة “ذمار”، حيث بدأ يدرك ما حوله بوعيٍ جديد، مستشعرًا نقص الزاد الفكري واللغوي في المسجد الذي كان يرتاده. تملكه شعورٌ من العناد والمكابرة، فبدأ يعبر عن استيائه بطرق عدة،  فكان يهجو، ويسجن الأفكار في زوايا عقله، ويعاني جوعًا فكريًا وعاطفيًا.

سافر إلى صنعاء، حيث التحق بالمدرسة العلمية. كانت الحياة هناك تسير بإيقاعٍ بطيء، رغم أن الشاب الضرير لم يعرف معنى التوقف. كان القفز فوق التحديات يبدو كالمستحيل، لكنه تحدى كل ذلك. استطاع أن يتواصل مع ما يُنتج في العواصم العربية المضاءة، مُستمتعًا بدواوين شعراء رواد القصيدة العمودية مثل أبو القاسم الشابي، وعلي محمود طه، وبشارة الخوري، وسليمان العيسى.

تغذى من هذا المعين الجديد، مبتعدًا عن محاكاة الموروث الشعري، ونجح في كسر حاجز العزلة الثقافية، ليصل، رغم ظلام الليل والتخلف، إلى ما لم يتمكن ملايين المبصرين في بلاده من الوصول إليه. كانت معلوماته الدينية تتسع، وخبراته في علوم العربية تتعمق، حتى بدأ “الشعر” يلين له، مُقدمًا له ثمارًا لم يكن يتوقعها.

احتفى الشاب الضرير بهذا الزائر الذي أضفى على وحدته ألوانًا جديدة، وعزف على أنغامه ألحان طموحه وآلامه، ليصبح الشعر ملاذه وسبيله نحو عالم أوسع، يعبر به عن ذاته ويحقق أحلامه.

كيف شكلت القيود شعر البردوني؟

استمر البردوني في مسيرته الشعرية وسط ثلاث محاولات للتغيير السياسي في اليمن. بدأت أولى هذه المحاولات بالثورة الدستورية في فبراير 1948، لكنها انتهت بالفشل، حيث قُبض على قادتها وأُعدموا.

ثم جاءت المحاولة الثانية، وهي انقلاب إبريل 1955، الذي انتهى أيضًا بقطع رؤوس القائمين عليه، تاركًا دماءهم الزكية لتكون وقودًا للثورة الكبرى في 26 سبتمبر 1962. هذه الثورة، التي نالت دعم مصر بقيادة جمال عبدالناصر، كانت نقطة تحول حاسمة لتحرير جنوب اليمن من الاحتلال البريطاني وإنهاء الحكم الملكي المتخلف.

خلال هذه الفترات العصيبة، دخل البردوني السجن في أوائل الخمسينيات مع مجموعة من الطلاب الذين قاوموا النظام الملكي، حيث بدأوا في كتابة المنشورات لتوعية الشعب ورفع وعيه ضد الظلم والفساد. لقد عزلتهم السلطات عن العالم، مدعية الحفاظ على الاستقلال، لكنهم سعوا لتغيير هذا الواقع. في السجن، كتب البردوني قصيدة بالغة الحزن تعكس معاناتهم وآمالهم في التغيير، من أبياتها:

هدَّني السجنُ وأدمى القيدُ ساقي 

فتعاييت بجرحي ووثاقي 

وأضعتُ الخطوَ في شوكِ الدُجَى 

والعمى والقيدُ والجرحُ رفاقي 

ومللتَ الجرحَ حتى ملَّني 

جرحي الدامي ومكثْي وانْطلاقي 

وتلاشيتُ فلم يبقَ سوى 

ذكريات الدمْعِ في وهْم المآقي

كيف أذهل البردوني عمالقة الشعر؟

عندما وصل البردوني إلى العراق للمشاركة في مهرجان “أبي تمّام” عام 1970، لم تلقَ ملامحه وملابسه البسيطة استحسان بعض الحضور. لكن الشاعرة العراقية لميعة عباس كانت تحمل رؤية مغايرة، فقد سعت لإقناع وزير الثقافة العراقي آنذاك، شفيق الكمالي، بأهمية وجود البردوني، حتى لا تؤثر بساطته سلبًا على مكانته مقارنة بالشعراء الآخرين الذين تمتعوا بالأناقة المطلوبة في مثل هذا الحدث.

وعندما صعد البردوني إلى المنصة ليلقي قصيدته الشهيرة “أبو تمّام وعروبة اليوم“، توقفت أنفاس عمالقة الشعر الذين حضروا الملتقى. لقد كانت هيبته تشبه هيبة أبي العلاء المعري، وقامته تذكر بأبي تمّام والمتنبي. كان ذلك مشهدًا تاريخيًا نادرًا، حيث تجسد فيه تاريخ الأمة وحاضرها، وأيضًا مستقبلها من خلال قصيدته.

وسط هذا الجمع الغفير من شعراء الوطن العربي والنقاد والمثقفين، أطلق البردوني بائيته مخاطبًا حبيب بن أوس الطائي، المعروف بأبي تمّام، وجاء مطلعها:

ما أصدقَ السيف إنْ لم ينضِهِ الكذِبُ 

وأكذب السيف إن لم يصدق الغضبُ 

بيض الصفائح أهدى حين تحملها 

أيد إذا غلبت يعلو بها الغلبُ 

وأقبح النصر نصر الأقوياء بلا 

فهم سوى فهم كم باعوا وكم كسبوا 

أدهى من الجهل علم يطمئن إلى 

أنصافِ ناسٍ طغوا بالعلم واغتصبوا 

قالوا: هم البشر الأرقى وما أكلوا 

شيئاً كما أكلوا الإنسانَ أو شرِبوا 

ماذا جرى يا أبا تمام؟ تسألني! 

عفواً سأروي ولا تسأل وما السببُ؟ 

يدمي السؤالُ حياءً حين نسأله: 

كيف احتفت بالعِدا (حيفا) أو (النقبُ) 

من ذا يلبي؟ أما إصرار معتصم 

كلا وأخزى من (الأفشين) ما صلبوا 

اليوم عادت علوج (الروم) فاتحة 

وموطن العرب المسلوب والسلبُ 

ماذا فعلنا؟ غضبنا كالرجال ولم 

نصدق وقد صدق التنجيم والكتبُ 

تتناول هذه القصيدة موضوع الواقع السياسي والاجتماعي للعرب في العصر الحديث، مع التركيز على مأساة اليمن وفلسطين. فالشاعر يستعرض بألم وحسرة حال الأمة العربية المنقسمة والمغلوبة على أمرها أمام قوى الاستعمار والطغيان. كما يستذكر البطولات التاريخية للعرب من خلال التلميح إلى شخصيات كأبي تمام والمثنى وبابك الخرمي.

بعد أن ألقى قصيدته أمام كبار الشعراء، جاءه نزار قباني ليقول له: “نعتذر يا أستاذ عبد الله لأننا قرأنا قصائدنا وأنت موجود”. فرد البردوني: “لماذا تعتذر؟” فقال نزار: “لأنك قلت كل ما نريد قوله”. فسأله البردوني: “من أنت؟”، فأجابه: “أنا نزار”. فقال له البردوني: “قل نــَـــزَار وليس نـِزار”.

بين البصر والبصيرة: قصة صداقة المقالح والبردوني

كتب الدكتور عبدالعزيز المقالح في أحد مؤلفاته عن البردوني، مشيرًا إلى أن عام 1958 كان نقطة تحول في حياته. فقد شارك في مسابقة أدبية للشباب نظمتها وزارة التربية والتعليم في مصر، وكان من بين الفائزين. كانت تلك اللحظة بمثابة بداية جديدة له، حيث سافر إلى القاهرة لأول مرة. وهناك، لفتت انتباهه لافتة كُتب عليها “معهد تعليم المكفوفين القراءة والكتابة”. تذكّر في تلك اللحظة صديقه البردوني، فاتجه مباشرةً إلى المعهد الذي كان يقع في الطابق الأول من عمارة كبيرة، ويتكون من فصلين: أحدهما للمكفوفين الذكور والآخر للمكفوفات الإناث.

عندما دخل المعهد، استقبله مديره بابتسامة دافئة، وشرح له طريقة “برايل” المستخدمة في التعليم. قدّم له نماذج ورقية تحتوي على الأبجدية، التي يتمكن المكفوفون من التعرف عليها من خلال اللمس. عاد إلى صديقه الشاعر، الذي حاول فهم الحروف، لكنه لم يفلح. قال له: “إن للأبجدية في ذهني صورة أوضح وأسهل”.

مع مرور السنوات، سافر العديد من المكفوفين إلى مصر وحققوا نجاحًا كبيرًا في تعلم طريقة “برايل” والوسائل التعليمية المتاحة. وعندما عادوا إلى وطنهم، حاولوا مجددًا مع شاعرنا، لكن برغم خبرتهم، لم يستجب. فقد كان يؤمن بأنه يرى بوجدانه ما لا تستطع الحواس الخمس إدراكه. كان يكتب القصائد في ذاكرته، بيتًا بيتًا، مرتبة بدقة قبل أن يمليها على الكاتب.

لم يكن بحاجة إلى وسائل قد تشوش صفاء ذاكرته أو تغير طريقة معرفته. كان مثالًا يحتذى به بين المثقفين والمفكرين المكفوفين، وكان يتمنى الكثيرون أن يكونوا عينيه وقلمه في كل الأوقات. هكذا، تتجلى قوة الإرادة والخيال، حيث تتجاوز المعرفة التقليدية حدود الحواس، لتصل إلى أعماق الروح.

جوائز البردوني وإنجازاته الأدبية:

نال البردوني العديد من الجوائز المرموقة، منها: جائزة أبي تمام في الموصل عام 1971، وجائزة شوقي في القاهرة عام 1981، وجائزة الأمم المتحدة «اليونسكو» التي أصدرت عملة فضية تحمل صورته في عام 1982 تقديرًا لإنجازاته كمعوق تجاوز العجز. كما حصل على جائزة مهرجان جرش الرابع في الأردن عام 1984 وجائزة سلطان العويس في الإمارات عام 1993.

تعددت الدراسات والكتب التي تناولت حياة الشاعر عبد الله البردوني وشعره، ومن أبرزها أعمال لطه أحمد إسماعيل (رسالة دكتوراه)، ود. وليد مشوح، ومحمد أحمد القضاة (رسالة دكتوراه)، وناجح جميل العراقي، و د. شهاب غانم. كما تُرجمت العديد من أعماله إلى لغات أجنبية، بما في ذلك عشرون قصيدة مترجمة إلى الإنجليزية في جامعة ديانا في أمريكا، وكتاب “الثقافة الشعبية” المترجم إلى الإنجليزية، وديوان “مدينة الغد”، و”اليمن الجمهوري”. بالإضافة إلى مجموعة محاضرات بعنوان “الخاص والمشترك في ثقافة الجزيرة والخليج” التي أُعدت باللغة العربية لطلاب المنطقة، وقد تُرجمت الكتب الثلاثة الأخيرة إلى الفرنسية.

عملة فضية تخلد عبقرية البردوني

جائزة الأمم المتحدة «اليونسكو» ( فيسبوك)

في عام 1982، أصدرت منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة عملة فضية تحمل صورة الشاعر عبدالله البردوني، تقديرًا له كأعمى تغلب على جميع التحديات وقدم ما لم يستطع كثير من المبصرين تحقيقه.

اسم عبد الله البردوني يكفي دون أي ألقاب، لأنه كان فوق كل ذلك، ولم يكن بحاجة إلى الألقاب التي يتشبث بها البعض. كان يختتم مقالاته في صحيفة 26 سبتمبر بعبارة بسيطة: “المواطن عبدالله البردوني”، مما يعكس تواضعه وارتباطه العميق بجذوره.

أصبح اسم البردوني مرتبطًا باليمن، مثل سد مأرب وعرش بلقيس وجبل نقم وصهاريج عدن. لقد تجاوز البردوني شعراء جيله وأسلافه، وأصبح علامة بارزة في الشعر العربي، مؤرخًا لأسلوب شعري جديد. على الرغم من أنه كتب في شكل تقليدي، إلا أنه أثبت أن الشعر العمودي قادر على احتواء كل ما هو حديث. فقد بدأ الكتابة في زمن كان فيه الشعر العمودي مهددًا بالانقراض، لكنه أظهر أن القصيدة العمودية تستطيع استيعاب الحداثة والتعبير عن قضايا المجتمع المعاصر.

*كاتب وباحث من اليمن

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com