قصة قصيرة بقلم: د. مهدي عامري


رجل خارج الخدمة…
إن سر الوجود الإنساني ليس في البقاء فحسب، بل في أن يجد المرء شيئًا يعيش من أجله ― فيودور دوستويفسكي–
ها هو ذا جالس في شرفة البيت، يرتشف قهوته ببطء، كأنه يتذوق الحياة لأول مرة، لكنه يعلم أن الطعم لم يعد كما كان. الزمن سرق منه كل شيء، حتى متعة الأشياء الصغيرة. لكن لا يهم…
تطاير بخار القهوة في دوائر عشوائية، كأنه يسخر منه هو الآخر، تمامًا كما سخرت منه الأيام والمجتمع، بل الحياة نفسها. خمسة وستون عامًا. لم يعد محتفظًا بشبابه. الدوام لله. ليست الأجساد وحدها من تشيخ، الأرواح أيضًا، وهو يشعر بأن روحه قد هرمت أكثر مما ينبغي. من يراه يظن أنه بخير، لكن الباطن كئيب مهجور كبيت العنكبوت. الداخل أطلال قديمة، لم تعد تسكنها سوى المرارة وآلاف الخيبات.
خمسة وثلاثون عامًا من الوقوف أمام سبورة ممتلئة بالحروف والنظريات والمعلومات التي لم يعد أحد يهتم بها. أمام عيون فارغة، ووجوه بلهاء تحدق في شاشات هواتفها، إبهام ينزلق لأعلى ولأسفل، عارضًا فيديوهات الرقص التافهة، والمشاجرات المفتعلة، ومحتوى لا يمت بصلة لما يحاول أن يزرعه في عقول هؤلاء الشباب. كم مرة توقف في منتصف الحصة، ألقى نظرة على الطلاب، وسأل نفسه:
ما الذي أفعله هنا؟ لماذا أضيّع وقتي؟ هل يهم أي شيء مما أقوله؟
لكن غروره الأكاديمي كان يمنعه من الاعتراف بالحقيقة. كان يصر على إكمال درسه، كأنه يخوض حربًا خاسرة، كأنه يدير معركة لم يعد أحد يكترث لها سواه. كان يدرك جيدًا أن ما يقوله لن يغيّر شيئًا، لن يبني حضارة، ولن يوقظ العقول المخدرة المغيبة، لكنه استمر. ربما كان يواصل لأنه لم يعرف غير ذلك، ربما لأنه كان يخشى الاعتراف بأنه مجرد آلة تعليمية تستهلك نفسها حتى تتعطل نهائيًا.
ثم جاءت لحظة النهاية. مرحبًا بك في يوم التقاعد.. أهلاً وسهلاً في جنازة الرجل الذي لم يمت بعد…!
عندما دخل قاعة الاحتفال، شعر كأنه يحضر جنازته الخاصة. الجميع ينظر إليه بنوع من الشفقة، كانت النظرات تقول:
– لقد انتهيت، حان الوقت لتتوارى إلى الظل. لم تكن هناك فرحة، لم يكن هناك شيء سوى طقوس بيروقراطية مملة لإنهاء وجوده الرسمي في هذا المكان.
وقف رئيسه في العمل، وتحدث الروبوت عن “جهوده العظيمة” و”تفانيه في العمل” و”أثره الذي لن يُمحى”.
كاد أن يضحك. أي أثر؟ لن يتذكره أحد بعد أسبوع. لقد درّس الآلاف، لكن من منهم سيتذكره؟
ثم جاء التكريم، وهي لحظة تاريخية أخرى من الإهانة المغلفة بالمجاملات الكاذبة. … وكانت هدية التقاعد غنية عن التعريف: “بورتريه له بالأبيض والأسود”. تأمل الصورة للحظة. كانت كئيبة، كما لو أنها تأبين رسمي. كأنهم يقولون له: لقد أصبحت من الماضي، وأصبح مكانك الآن على الجدران، لا بيننا. كان بإمكانهم إعطاؤه شيئًا أفضل، شيئًا ملموسًا، مبلغًا يحفظ كرامته، دعمًا ماليًا حقيقيًا، شيئًا يجعله يشعر بأنه لم يقضِ ثلث قرن من حياته سدى. لكنه كان يعلم أن هذا مستحيل. في هذا المجتمع، المال يُمنح لمن يصرخ أكثر، لمن يرقص أكثر، لمن يبيع نفسه أرخص.
تأمل في هذه الحياة الكلبة.. مؤثرو يوتيوب يجنون ملايين الدولارات فقط لأنهم ينتجون الهراء. صناع المحتوى التافه يملكون سيارات فاخرة، بينما هو، الأستاذ الذي تقوس ظهره من كثرة مطالعة الكتب وفك شفرة المخطوطات في مكتبه، خرج من المهنة بمعاش بالكاد يكفي لإطعام طيور الزينة.
في تلك اللحظة، لم يستطع أن يمنع نفسه من الضحك. ضحك بصوت مرتفع وسط القاعة. نظر إليه الجميع بدهشة، ثم سرعان ما تجاهلوه، لأن لا أحد يهتم. هذا هو الزمن الذي يعيش فيه. العبث. زمن اللامعنى. زمن المسخ…!
وعندما عاد إلى البيت، ألقى البورتريه على الطاولة بلا اكتراث، جلس في شرفته، وأعد لنفسه فنجان قهوة. هذا كل ما تبقى لي؟
تأمل الشارع من شرفته. إنه نفس الطريق الذي كان يعبره يوميًا متوجهًا إلى العمل. أصبح الآن بلا وجهة، بلا حافز للنهوض صباحًا، بلا شيء ينتظره سوى الصمت. رشف القهوة، ثم نظر إلى البورتريه مجددًا. شعر بالغضب، لكنه لم يكن ذلك الغضب العنيف، بل ذلك النوع البارد، المستسلم، الغضب الذي لا يجد حتى طاقة للانفجار. تمتم لنفسه:
– “ماذا ضرّهم لو احتفظوا بالصورة لأنفسهم وأعطوا كل متقاعد مكرّم شيئًا حقيقيًا؟”… “المال هو الاحترام.” …”المال هو التكريم، أيها البؤساء.” لكنه يعلم أن لا أحد سيهتم. لا أحد يهتم بالأساتذة، بالعلماء، بالمفكرين. نحن نعيش في زمن يسوده الجهل. يحكمه الصخب. لا قيمة للصوت العاقل فيه. كان يمكنه أن يظل جالسًا هناك لساعات، غارقًا في أفكاره السوداوية، لكن الفجر كان يقترب. لم يكن من النوع الذي يصلي بانتظام، لكنه في تلك الليلة شعر بحاجة غريبة للقيام بشيء مختلف. شيء لا علاقة له بكل هذه الفوضى. نهض بحماس، غسل وجهه، توضأ، ثم وقف ليصلي.
الله أكبر.. عندما رفع يديه وكبّر، شعر بشيء لم يعرفه منذ سنوات. سبحان الله.. كأن شيئًا ثقيلاً قد أُزيح عن كتفيه. طوال حياته، كان يبحث عن التقدير، عن الاعتراف، عن الاحترام. لكنه أدرك الآن أن هذه الأشياء لا تُطلب من العباد، بل تُطلب من رب العباد، خالق الخلق، رب العالمين. البشر يخذلون، لكن الله لا يخذل. مستحيل!
في تلك اللحظة، وهو يسجد، شعر براحة غريبة، كأنه أخيرًا وجد مكانًا ينتمي إليه. ليس على منصة تكريم كاذبة، وليس بين كتب مليئة بالغبار، بل في حضرة الرحمن، بين يدي الواحد الأحد، بعيدًا عن كل شيء زائف. وعندما انتهى من الصلاة، جلس على الأرض، شعر كأنه إنسان مختلف. لم يعد يخترقه الغضب، لم يعد يشعر بالخذلان. نعم، العالم قاسٍ، ظالم، مليء بالتفاهة، لكنه لم يعد يهتم.
نهض، خرج إلى الشرفة مجددًا، لكنه هذه المرة لم يحمل معه القهوة، لم يحمل معه أي أفكار سوداء. نظر إلى السماء، كانت الشمس قد بدأت تلوح في الأفق، بلونها البرتقالي الناعم، كأنها تعده بأن اليوم سيكون مختلفًا.
ابتسم لأول مرة منذ سنوات، وتمتم: “الحمد لله..”