اليوم العالمي للغة العربية: مي زيادة
اللغة العربية ثابتة مدى الزمن
سبق لنا في جريدة ألوان الإلكترونية أن نشرنا بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية العام الماضي مقالة للأديب اللبناني جبران خليل جبران عن اللغة العربية بتاريخ: 23 ديسمبر 2023 (من خلال حوار أجرته معه مجلة الهلال المصرية)، وها نحن هذه السنة ننشر مقالة عن اللغة العربية للأديبة مي زيادة مأخوذة من كتابها: بين الجزر والمد. صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة بعنوان: “حياة اللغات وموتها، ولماذا تبقى العربية حية “. راجين أن نكون في مستوى التطلعات والمنتظرات .
إعداد: ذ. المختار عنقا الإدريسي
حياة اللغات وموتها ، ولماذا تبقى العربية حية ؟
1 – اللغة والحضارة :
الشعوب كالبحار : لهذا مد وجزر ، ولتلك ارتفاع وهبوط (…) وللشعوب مدنيات تنمو فتعلو إلى ذروة المجد والسؤدد ، ثم تهبط إلى منحدر الوهن والنسيان متخلية عما لديها من نظام وقوة وخبرة (…) وليس في وسع المتأمل المخلص إلا إثبات ماقد تتابع وقوعه منذ فجر التاريخ : وهو أن الشعوب والمدنيات تعقب المدنيات ، وأنه في دوران الأحقاب لابد ان يمسى الجديد قديما ، وأن ينقلب القديم يوما جديدا .
كذلك تنتشر لغة قوم بانتشار حضارتهم فيسارع المغلوب إلى تعلمها وإتقانها ما استطاع ، حتى إذا انحطت تلك الحضارة ،
عاد ينكمش انتشار لغتها ، ودخلت مع الزمن
في صف اللغات الميتة .
2 – عند اليونان
اللغة اليونانية الأولى من أوفر اللغات ثروة ، تتجلى الفصاحة في رناتها الرقيقة وألفاظها الأنيقة وأساليبها الفخمة ، وقد أكسبها تنوع تشكيلها وتحريك منطوقها رخامة في مقاطع الأصوات وموسيقى لفظية في التعبير عن الأفكار والعواطف
وقد فازت بما لم تفز به باقي اللغات الأخرى (…) ولما جاء العصر الشهير المدعو بعصر بركلس – وهو خطيب وسياسي أثيني – سما
النتاج الفكري إلى درجة الإتقان العظيم في الروايات المفجعة مع اسخيلوس وسوفوقليس و أوربيذس ، والروايات الهزلية مع أرستوفانس والتاريخ مع هيرودتس وثوسيديدس وزينفون ، والفلسفة مع أفلاطون وارسطو ، والبلاغة مع خطباء الأطيقيين ، هؤلاء وغيرهم جعلوا الآداب اليونانية آيات ينسخ عنها الناسخون (…) ولم تتلاش اللغة اليونانية …تماما بعد سقوط بيزنطة ، بل ظل شعب الأقاليم يتكلم خلال القرون الوسطى لغة اصطلاحية مشتقة من اليونانية القديمة ، ومن تلك اللغة الإصلاحية استخرجت اليونانية الحديثة . أما اليونانية القديمة فقد دخلت في عداد اللغات الميتة منذ زمن طويل، ولا يعنى اليوم بدرسها إلا بعض العلماء .
3 – عند اللاتين
يبتدىء التاريخ الروماني بدور هو أقرب إلى الأساطير المبتدعة منه إلى الحقائق التاريخية الراهنة (…) وفي 510 ق . م
أعلنت الجمهورية في روما ، (…) ولما اتحدت كلمة روما وملكت أمرها في الداخل ، كبرت مطامعها في الاستيلاء على أنحاء جديدة ففتحت جميع جهات إيطاليا وزحفت إلى الشرق ، فهدمت قرطاجنة العظيمة وحولت بلاد الاغريق إلى إقليم لاتيني (…) ثم انتقل الصولجان إلى القياصرة ورغم ما تخلل أيام حكمهم من ثورات عسكرية ، فقد أصبحت روما بعد اخضاع الاغريق عاصمة الشرق والغرب ، فسميت سيدة العالم ، وتكاد تنحصر عظمتها الخطيرة في القرون الأولى من عهد الإمبراطورية ، لأنها كانت حقا عاصمةالعالم وكانت دماغه المفكر وقلبه الخافق ويده العاملة . وليس من مدينة أخرى حتى انطاكية والاسكندرية لتقوى على منافستها وادعاء ما لها من الشان والفخار .
(…) اللغة اللاتينية كاليونانية ، شعبة من شعب اللغات الهندية الأوربية وهي التي تكلمها جنود اللاتين والمستعمرون من الرومان ، فحملوها إلى جميع أنحاء الدولة ،ونشرتها في كل بلد فتحته جيوشهم ، فتولدت منها اللغات اللاتينية الجديدة Néo latines : كالفرنساوية والبرفنسالية والإسبانية والبرتغالية والإيطالية والرومانشية والرومانية . ويظن علماء اللغات أن هناك وسيطا بين اللاتينية الأصلية واللغات الحديثة المشتقة منها ، وهي اللغة الرومانية Langue romane المحضة ، وهي شديدة الشبه الفرنساوية والبروفنسالية .
4 – عند العرب
سقطت روما العظيمة ، فتسائل العالم : أي شعب قدر له أن يحمل مصباح الحضارة باعثا بأشعته إلى القارات الثلاث ؟ فإذا بحركة جديدة تنشأ في أرض بعيدة بين قوم جهلت أسماءهم سجلات التاريخ (…) ولكن كيف تكونت المدنية العربية ، وهي التي انبثق نورها الأول في شبه الجزيرة حيث تستعر الرمضاء ليل نهار ؟
نعم ان بعض الجهات الساحلية مثل اليمن والحجاز وحضرموت كثيرة الخصب (…) غير أنها بعيدة عن أوساط التمدن والعمران ، بعيدة عن تأثير الاغريق ونفوذ الرومان ، فأي سر أوجد تلك الحضارة التي انتشرت بسرعة لم تظفر بها حضارة ، فعبرت من قارة إلى قارة تحمل عز العرب ، باسطة تمدنهم على آسيا وأفريقيا وبعض أوربا ، جالبة ثروة وعلما وانتعاشا حيثما نشر القوم اعلامهم ؟
تنتمي اللغة العربية إلى طائفة اللغات السامية ، وهي ثالث فروع الارامية والكنعانية والعربية (…) أما العربية فتشمل العربية الفصحى ولهجات مختلفة ، تكلمتها القبائل القاطنة في جنوب بلاد العرب وبلاد الحبشة وغيرها وهي اللغة التي فازت بالبقاء ، على حين أخواتها وبنات عمها طُوِيًن في عالم النسيان منذ أمد مديد .
ظلت العربية منزوية إلى أواسط القرن السادس ، فبرزت بغتة تتمتع بقوة بالغة أشدها ، فما عرف لها التاريخ أدوار الطفولة والنمو ، وذلك لا ينفي أنها قد تكونت في زمن بعيد القدم ، أو أنها قد تكونت في زمن بعيد القدم أو أنها قد تكون شعبة من لغة سامية سابقة فُقِِِدت في مجاهل التاريخ ، لأن بعض خصائصها اللغوية – كجمع التكسير مثلا – يميزها عن العبرية والارامية فيجعلها أشمل منها للمعاني وأوفي للاغراض (…) بدت العربية في القرن السادس لتكون لسان الحضارة الجديدة ، فانطلقت من شبه الجزيرة في القرن السادس لتكون لسان الحضارة ، فانطلقت من شبه الجزيرة تنتقل إلى الأمصار القصية مفرداتها ومميزاتها وجابت الأمطار ناشرة لهجاتها المختلفة ، من أطراف جزر الهند إلى أوساط القارة الافريقية .
ففي القرون السبعة الأولى التي بدأت بالدعوة إلى الإسلام والهجرة من المدينة عام 622 ، وامتدت إلى القرن الثالث عشر ،
يشهد المؤرخون لمدنية من أعظم المدنيات التي عني باثباتها تاريخ الآداب (…) ولقد عني العرب بالتاريخ عناية خاصة ، لأنهم شعروا باحتياجاتهم إليه لتدوين ما يقع من الحوادث في صدر الإسلام ، وما يلقاه الدين الجديد من المقاومة أو الترحاب . أما العلوم اللغوية فقد كان لها عندهم شأن لم يكن لعلم آخر ، وسرعان ما وضعوا قواعد الصرف والنحو لغتهم الزاخرة (…) ومعلوم أن أوربا مَدِينة للعرب بكتب جمة ، نقلها اليهود من العربية إلى اللاتينية ومنها إلى اللغات الأوربية الحديثة ، كما أن فلسفة أرسطو لم تصل الى علماء القرون الوسطى إلا عن طريق العرب ، وبعد تراجم أربع : من اليونانية إلى السريانية فالعربية فالعبرانية فاللاتينية .
وقد نشر الأستاذ سلامة موسى في جريدة البلاغ المصرية مقالا ، نقلا عن مجلة كونكست الانجليزية ، جاء فيه : ان العلم الحقيقي دخل أوربا عن طريق الاغريق ، فقد كان الرومان أمة حربية ، وكان الاغريق أمة ذهنية ، أما العرب فكانوا أمة علمية .
5 – لماذا تبقى العربية حية ؟
لقد ذاع القرآن بسرعة لم يظفر بها كتاب قبله ، ولا كتاب بعده ، ولم يقصر انتشاره على الشعوب التي نزل بينها وتوافقت مع تعاليمه ومدركاتها وطبعتها، بل خضعت له بعدئد امم لها من حضارتها السحيقة ما كان يعد كافيا للتفلت من سطوته ورفض الاذعان لاحكامه (…) والقرآن مصدر جميع العلوم التي عني بها المسلمون في اوج حضارتهم ، فلتفسير آياته وسوره وجدت علوم الكلام وعلوم المنطق ، ولتفهم مافيه من نظام وتشربع وجدت علوم الشرع والفقه ، ولم تكن غاية المؤرخين الأولين من العرب إلا تحديد وقت نزوله وتدوين الأحاديث النبوية .
سبق القول ان قد اشترك مع العربية لغتان أخريان بكونهما قوميتين نشرتا عقيدة دينية ومذهبا سياسيا بين شعوب مختلفة هما اليونانية واللاتينية (…) لكن ما أضيقه انتشارا إذا ما قوبل بانتشار العربية التي امتدت إلى اسبانيا وأفريقيا حتى خط الاستواء وجنوب آسيا وشمالها إلى ماوراء بلاد التتر ! أما الفصحى فقد استولت على جميع أنحاء الشرق الإسلامي، وأن لم تكن لها الغلبة كلغة كلامية على بعض اللغات في الشرق والشمال (…) لقد عُدت اليونانية واللاتينية في صف اللغات الميتة منذ سقوط مدنيتيهما ، فما الذي حفظ العربية حية بعد زوال مدنية العرب بقرون سبعة ؟
ان الذي كان باعثا على تكوين المدنية العربية هو الذي مازال حافظها إلى اليوم ، انه القرآن الكريم . لذلك ستظل اللغة العربية حية مادام الإسلام حيا ، ومادام في أنحاء المكونة ثلاثمائة مليون من البشر يضعون أيديهم على القرآن ، يقسمون .
النص مأخود من كتاب :
[ بين الجزر والمد صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة ] للأديبة : مي زيادة