في الحاجَة إلى الجَرّافة…!!
سنواتٌ من الشِّدة والعُسر مرّت على المَغاربة عبر التاريخ الحديث، وظلّت فواجعُها تتعقّبُهم وذكرياتُها تلاحقهم. عاشوا أزمات تعاقبت على البلاد، أهلكت الحَرث والنّسل، كان بعضُها أشدّ وَطئًا، وعُرفت بما أسمَاهُ المغاربة في عهد الحماية: عام الجوع، عام “البُون“، وكان لها تأثير على حياتهم ومعيشتهم. وقبلها عاشوا عام الطاعون، وإلى عهد قريب حلّ بيننا عام “كورونا“ السّيء الذكر، وصولا إلى عام “المونديال“، وسينضاف بكل تأكيد إلى هذه السنوات عام آخر، سيُعرف عند الأجيال اللاحقة من المغاربة بما ميّزه في سياقه التاريخي، وهو عام “الجَرّافة“.
ويظل السّؤال هنا مطروحًا: هل كُنّا فعلا في حاجة إلى هذه الجَرّافة؟
الجواب سيكون بكل تأكيد: نعَم، كنّا في حاجة إلى الجَرّافة،
كم كنّا في حاجة إلى هذه الجَرّافة. ولو طرحنا السؤال بشكل لولبي مُختلف، نتساءل ونقول: هل كان “المونديال“ ضرورة مغربية، حتى تتحرّك كل هذه الآليات والجَرّافات في كثير من المدن المغربية؟ وماذا حمل معه “المونديال“ من جديد؟ هل هو نعمَة أم نقمَة على بلدنا؟ والنّعمة ليست بالضرورة أن ترتبط بالجسم والبطن، وما بينهما من مُتشابهات. وقبل أن تسيطر الجرّافة على الحديث في المشهد الاجتماعي وقنوات التواصل والإعلام، هل كان لزامًا أن تنفجر كثير من الفضائح دفعة واحدة: مالية، أخلاقية، اقتصادية وسياسية… إلخ؟ ألم يكن حريًّا بالجرّافة أن تقوم بدورها، قبل أن يحُل “المونديال“ بين ظهراننا، وحتى لا نكتشف فجأة أن الكثير من الحدائق التي تُزَيّن أزقتنا وشوارعنا، أصبحت في “خبر كان“، لأنها تعاني من احتلال “ناعم“ للملك العمومي بتواطؤ من جهات متعدّدة. وأن العديد من أضواء لوحات الإشهار التي تزيّن شوارعنا، لا تنيرُ في حقيقة الأمر ظلمة ليالينا، بقدر ما تملئ جيوب المُحتلين وتفقّرُ صناديق بلدياتنا ومدننا، وتُعمينا عن حقيقة أمورنا، وتحجب الجمال الحقيقي عنّا، وتنشر القبح في وجه عيوننا، وتحرمنا من خدمات كان من المفروض أن تقوّي البنيات التحية والفوقية في مُدننا وقرانا.
كنا نسمع ببعض الفضائح المالية والسياسية عبر الجرائد ووسائط التواصل الاجتماعي، وإذا بنا نرى نظيراتها من الفضائح بأم العَين، تتجوّل بيننا جهارًا نهارًا، دون الحديث عن تلك التي تمُرُّ بالغَمز واللّمز والهمس في جلسات مقاهينا. ما أن ننسى القديمة، حتى يتناسل جديدها بصغيرها وكبيرها في القرى والمدن المغربية، ونكاد نراها وهي تتجول أمام أنظارنا وأبصارنا. ألم يكن مُمكنا أن نقوم بتطهير بيوتنا من تلقاء أنفسنا دون حاجة إلى “المونديال“؟ نرتّب فضاءات مُدننا وقرانا، ونُحرّر مِلكنا العُمومي من قبضَة “الشنّاقة“ دون حاجة إلى جرّافة؟ وقبل أن نحظى بشرف تنظيم المونديال؟ أم أنها فرصة لا تُعوّض، كي نقوم بترتيب أمورنا من الداخل على الأقل، إن لم يكن مُمكنا دفن كل بلاوينا دفعة واحدة.
ألم يكن جديرًا أن نعمل على تخليق الحياة السياسية في مَغرب، لم نعُد نفرّق فيه بين كلام الحكيم وحماقة السّفيه، وبين منطق الفلسفة ومُغالطات السّفسطائيّين، وبين صالونات الأدب وصالونات الحلاقة والتّجميل. ألم يكن مُمكنا مُحاكمة من أفسدوها وأفرغوها من مُحتواها، كي نظهر وَجه المغرب الذي يُريده مغاربة المركز والهامش على السواء؟ ويبزغ مغرب آخر يليق بشعب عريق في الحضارة والتاريخ. ونظهر للعالم أنّنا قادرون على تنظيم تظاهرة كونية تطمح إلى تنظيمها كُبريات الدول وصغيراتها. ألم يكن من الأفضل أن نُطيح بالعَشوائيات، قبل أن تنبت كالفطر حول مُدننا الصغيرة والكبيرة، ونحرّر الملك العمومي المُغتصب جهارًا نهارًا، وألا تُمنح رخص البناء في الحدائق العمومية إلا وفق ما يسمح به قانون البلاد، لأن العشوائية في التّصاريح أثخنت في القبح وتشويه جمالية الشوارع والأزقة والحدائق.
هل كان لا بدّ أن نقوم بهذا “التّحرير“ إرضاء لعُيون السّياح وزوّار المغرب المُحتملين في كأس العالم؟ وكأنّ عيون المغاربة غير جديرة بالجمال، ولا تستحق سوى الخراب والقبح كعيون الغِرْبَان؟ ألم تكن عيون المغاربة أولى بها، وجديرة أكثر من غيرها بجمال يليق بتاريخ أسلافنا وأجدادنا؟ ألم يكن مُمكنا محاربة الفساد بترويض الطغاة والعُصاة وإخضاع أهوائهم للقانون، قبل أن يتغوّلوا في القرى والمدن، وتتضخم أنَوَاتهم في البرلمان والإدارات والوزارات؟ أسئلة نطرحها لا لملاحقة أحد، ولكن من باب النقد الذاتي والموضوعي لواقعنا السياسي والمُجتمعي في المغرب، مقارنة بماضينا الجميل الذي يتعارض كليا مع مسخ حاضرنا البئيس.
أمرُّ أحيانا بين أزقة فاس المحيطة بضريح مولاي إدريس في فاس البالي، وإذا بي أمام جمال مغربي مُختلف، أزقة تحمل أسماء وحِرَف مُختلفة: حيّ العَطارين والشرَابيليّين، الدبّاغين والنجّارين والصفّارين، وأسواق الحدّادين والهيادريّين والسبيطريّين وغيرها. لا أجدُ من ينازع أحدًا في مهنة أو يُجاوره في مهنة مختلفة، كل مهنة لها مجالها وفضاؤها. لا تجد في كل هذه الأزقة، وهي أقرب إلى أحياء صغيرة، سوى حرفة واحدة وحرفيّيها، وكل حرفة لها من يشتغل فيها، ومسجدهم الخاص بهم للصلاة، مع ما يلزمه من ماء ودور للوُضوء. وإذا بنا في العصر الحديث، المفروض فيه أن يكون أكثر حداثة وتنظيمًا، نجدُ المقهى إلى جانب محل الميكانيكي، المطعم إلى جانب ورشة الحدادة، المطعم والمَحلبة إلى جانب ورشة لصباغة السيارات، والضحية هو الزّبون ومَعِدَته، والمواطن وصحّته. هناك “خالوطة وجالوطة” تواجهك أينما ولّيت وجهك بروائحها ورواسبها، وحتى في بعض أحياء مُدننا القديمة والحديثة. مشاهد مُقزّزة تصادفك في تجوالك وأنت أحيانا في أرقى الأحياء. وتتمنى لو أنك عشت مع الأسلاف في فاس البالي قبل 12 قرنًا، عساك تنعم بتنظيم جيّد في الحياة العامة، لم نعُد نراه سوى في المدن الأجنبية، وقليل من مُدننا المغربية المحظوظة.
الجميع يعرف أن المغرب أصبح تحت عيون المستثمرين الأجانب، وضعوا بلادنا نصب أعيُنهم لاستثمار أرصدتهم المالية، ليس لأن بلادنا تزخر بمناظر طبيعية خلابة وفريدة من نوعها في الاختلاف والتنوع، من: جبال، براري، بحار، غابات، صحاري، أنهار وغيرها. ولكن، لأن شباب وشابات المغرب يمتلكون من الطاقات الفكرية والإبداعية الهائلة ما لا يتوفر في غيرهم في مختلف المجالات، وأيادي عاملة مؤهلة تمتلك مهارات وكفاءات أكثر من غيرها، وهي في حالة تأهب تنتظر من يحرّرها من عقالها. ولكن دعنا نقرأها من الجانب الآخر، حين تجد بعض المُستشارين والبرلمانيّين يُشرّعون القوانين في البلاد، وهم أميّون يجهلون القراءة والكتابة، ينتابنا الشك، وتقول بأن الطريق لا زال أمامنا معوجًّا وطويلا، لكي نصبح دولة في المراتب الثانية، بعد التي تتفوّق علينا في التقدم والحضارة والنموّ الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي، وقد كنا متوفقين عليها قبل مئة عام من اليوم أو أقلّ قليلا. وبالنظر إلى ما يُعشّش في عقلية بعض مسؤولينا، لن نصل إلى ما نطمح إليه، ولو نظمنا أربع نسخ متتالية من كؤوس العالم. ولذلك، يلزمنا أن نتخلص من بُقع الماضي السّوداء في مشهدنا السياسي والمُجتمعي، حتى يصبح بياض بلادنا في الخارج أكثر نصاعة.
اليوم، وقد فرحنا بما حصل من تصحيح وتصويب لاعوجاج عشش لسنوات بيننا، وفيما كنا نراه بالعين المُجرّدة، وما رأيناه بأم العين من تجريف لكل الشوائب والزّوائد المشوهة في حدائقنا وشوارعنا وحاراتنا، هل نقول بأنّنا انخرطنا فعليا وعمليا في “الجهاد الأصغر“، وأنها بداية الطريق الصحيح نحو “الجهاد الأكبر“، وأن مسلسل الإصلاح قد بدأ فعليا وعمليا في الشوارع والأحياء بجرّافة، وسيكتمل بإرساء مسطرة القانون في حياتنا السياسية، وما يدور في فلكها؟ هل نفرح لأن بلادنا بدأت الإصلاح جديًّا بمُحاربة الفساد والمفسدين؟ وهل خلقنا بذلك الأجواء التي تليق باستقطاب الاستثمارات الأجنبية للوصول إلى مراتب متقدمة، وتنمية شاملة وحقيقية في بلدنا؟ أم نحزن لأن بلادنا تستّرَت على فساد ظل يُعشّش بيننا طول هذا الوقت، ووصل إليه الجرّافة في وقت متأخر؟ ولكن مهما كان، الأكيد أن هذه المبادرة قد استحسنتها جميع فئات المجتمع المغربي، وهي تستحق فعلا التنويه والإشادة والتشجيع، ولم يعترض عليها أحد من المواطنين. وهذه لوحدها رسالة واضحة من المغاربة بأنهم مستعدون للإصلاح والمُساعدة في مُحاربة الفساد والمفسدين، وقد رأينا ذلك بأم العين في كثير من أحياء المدن.
صحيح أن الجرّافات قد حرّرتنا من الفساد الظاهر “من فوقها“، ولكن أملنا كبير في تحريك جرّافات أخرى، عساها تحرّر ما كان خفيا ولا زال متستّرا “من تحتها“ في مختلف المجالات: الثقافة، الاقتصاد، الرياضة، البرلمان والإدارة العمومية بجميع أصنافها، وسيكون حينها أثمن وأعلى وأهم تحرير عمومي عرفه المغرب على الإطلاق. الأفراد المُفسدون والمصلحون يجيئون عادة ويذهبون في كل الأمم، تستوطن بعض وجوه على الكراسي لفترات زمنية، وترحل بعد ذلك، ولو طال بقاؤها إلى حين، وفي بعض الأحيان يتبعها صفير وضجيج ومحاسبة ومساءلة. ولكن في الأخير، يذهب الجميع ويبقى الوطن. الدولة المغربية متجذرة بماضيها وحاضرها ومستقبلها، يحكمها ملوك شرفاء وإلى جانبهم رجال حكماء. والعدل كان دائما هو أساس المُلك، لا فرق لديه بين غنيّ وفقير، يتساوى الجميع أمام أسئلة وكيل الملك في المحاكم المغربية.