محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي

محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي

بين التجديد و الأصالة

بين.. بين

بقلم: ذ عبد المجيد شكير

…محمد عبد الوهاب: اللحن الجميل مثل ربطة العنق الأنيقة

محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي هرمان في الموسيقى العربية، فما الذي يجمع ويفرق بينهما يا ترى؟ وما هو موقف كل واحد منهما من الآخر؟

من اللافت في نشأتهما أنهما معا ينسلان من أبوين يملكان صوتا مميزا، فوالدعبد الوهاب كان مؤذنا بمسجد (الشعراني) وهذا ماجعله يعارض ميولات ابنه الغنائية، ولكن الطفل عبد الوهاب ظل يتحدى أسرته حتى استسلمت لرغباته، وأما والد السنباطي فكان مغنيا في الموالد والأفراح، وكان يصطحب معه ابنه رياض مما شجع هذا الأخيرعلى ولوج ميدان الغناء

لاحت موهبتهما منذ الطفولة وهما يرددان أغاني المشايخ وسلاطين الغناء، لاسيما سيد درويش الذي تأثر بهما معا، فإذا كان عبد الوهاب قد تعلم أصول الموسيقى بالمعهد، وفيه تتلمذ على يد القصبجي في العزف على العود، فإن السنباطي قصد المعهد هو الآخر ليسجل نفسه كطالب، فإذا اللجنة تعينه منذ البداية أستاذا للعود والأداء، بعد ان انبهرت بعزفه، والملاحظ أنهما انطلقا مغنيين ثم انتهيا ملحنيين

و قد اتضح فيما بعد أنهما مختلفان في أسلوب التلحين، فعبد الوهاب اختار التجديد والتحديث، ونقرأ ذلك في أعماله الغنائية واللحنية، فقد أدخل آلة الغيتار الكهربائي في (انت عمري) وآلة الماندولين في( عاشق الروح) وآلات النفخ النحاسية في العديد من أناشيده الوطنية، لقد درس عبد الوهاب الموسيقى الغربية في معهد (جويدين) الإيطالي بالقاهرة، واحتك بها في فرنسا أثناء إحدى رحلاته مع شوقي، وظل مواظبا على سماعها، مما أهله للانفتاح على الموسيقى العالمية فوظف أنغامها وإيقاعاتها، وهذا ما جعل البعض يتهمه بالتغريب وبإفساد الموسيقى العربية، بل إنه نا كمن ألصق به تهمة السرقة، لأنه يأخذ وينقل عن غيره من الموسيقيين العالميين مدعيا أن ذلك من إبداعه الشخصي (بيتهوفن ـ تشايكوفسكي ـ كورساكوف ـ فيردي….) و قدمت منظمة اليونيسكو لائحة تضم 13 عملا مارس فيها عبد الوهاب السرقة من غيره، و من ذلك نذكر (أحب عيشة الحرية ـ القمح ـ طول عمري عايش لو حدي….) مما دفع بالموسيقار الكبير منير بشير إلى التصريح بأنه لو كان عبد الوهاب في أوروبا لتعرض للملاحقة القضائية، وقد حاول عبد الوهاب الدفاع عن نفسه مؤكدا أن الفنان مطالب بسماع جميع الأشكال الموسيقية، ولحظة الإبداع يحضر ما ترسب في ذاكرته ممزوجا بإضافته الشخصية، فيولد عمل إبداعي جديد لا يكرر سابقه، ولا يشبه غيره، وهذا عمل مشروع كيفما سميناه نقلا أو اقتباسا

والأكثر من هذا أنه اتهم بسرقة ألحان مصرية لأسماء عاصرته مثل بليغ حمدي، ومنير مراد، وكمال الطويل، ومحمد الموجي الذي واجه عبد الوهاب بما سرقه منه، فما كان من عبد الوهاب إلا أن عقب على ذلك بأن اللحن الجميل مثل ربطة العنق الأنيقة، قد يستعيرها صديقك أو أستاذك منك

ورغم كل هذه الاتهامات يظل عبد الوهاب قيمة وقامة شكلت وجداننا، وأمتعتنا على مدار عقود بدرر في غاية الجمال، لقد قام عبد الوهاب بثورة تجديدية في الموسيقى العربية، فنوع في الإيقاعات، وخلص الأغنية من المبالغة في أداء المواويل والارتجال، واهتم بتلحين الجملة، وترك لنا تراثا موسيقيا غزيرا ومتنوعا يشهد له بعبقرية الإبداع، ولنا أن نستحضر نماذج من أعماله (دعاء الشرق ـ النهر الخالد ـ ياجارة الوادي ـ يادي النعيم ـ سكن الليل ـ نشيد وطني الأكبرـ ….) فكيف ننتقص من قيمته الفنية، وهو الذي منحته جمعية الملحنين والمؤلفين بباريس لقب فنان عالمي سنة1983 ، وأما قاعة (ألبرت) الملكية في لندن فقد منحته عصا القيادة، وتكريما له وتقديرا لفنه أقيم له سنة 2002 متحف داخل المعهد العالي للموسيقى العربية بالقاهرة، يشغل المتحف مساحة هائلة، ويضم تاريخ عبد الوهاب بكل تفاصيله وجزئياته (أغانيه ،ألحانه، استجواباته أحاديثه، أفلامه، صوره، ملابسه، آلاته وكذلك جوائزه)، إنه فعلا موسيقار الأجيال ومطرب الملوك والأمراء بل ومطرب الشعوب العربية

! السنباطي يقدر عبد الوهاب تقديرا شديدا، ويحسب له ألف حساب

احتك السنباطي بالترات الغنائي العربي عن طريق والده أولا، وعن مشايخ الغناء ٱنذاك، وسلاطين التلحين، فحفظ الكثير مما يتناهى إلى مسامعه من إنشاد وابتهالات وتواشيح وأدوار وطقاطيق وغيرها، ومن هذا الخضم المتداخل والمترسب في أعماقه تشكلت شخصيته الفنية، وتبلور اتجاهه المحافظ على أصالة الأغنية العربية، فطلع علينا ملحنا يجيد توظيف المقامات الشرقية المنسجمة مع مواضيع النصوص الغنائية، ويبهرنا بتنقلاته العجيبة من مقام لٱخر، لقد جاءت ألحانه رصينة ومتماسكة، مشحونة بأحاسيسه، استوحاها من فهمه العميق للمعاني، وغالبا ما كانت ألحانه تعرف تصاعدا تدريجيا ينتهي بقفلة حارقة، فيلتهب المسرح بالتصفيق، ومن ثوابت أسلوبه أيضا أنه يمنح للمغني فرصا للتلوين والزخرفة والارتجال والتكرار، لقد كان أسلوبه تطريبيا يهدف لإثارة السامع، ولكنه لا يخلو من مسحة صوفية روحانية تتجسد أكثر في أعماله الدينية (ربي سبحانك ـ إله الكون ـ حديث الروح ـ الثلاثية المقدسةـ…) وفي عزفه الخالص (لو نجا رياض ـ تقاسيم كرد …)

وتعد القصيدة ملمحا بارزا في إنتاجه سواء على مستوى أغانيه، أو على مستوى ألحانه، وهذا يعود إلى شغفه  الشديد باللغة العربية وتذوقه للشعر وإلى ارتباطه بلغة القرأن، ومن كل هذا استمد السنباطي براعته في تلحين القصيدة، فبدت ترفل على يديه في أبهى حلل الجمال، فأطلق عليه ( أبو القصيدة ـ حارس القصيدة)، ولنا أن نستحضر روائعه في هذا النوع( الأطلال ـ ثورة الشك ـ رباعيات الخيام ـ سلوا قلبي ـ يالعينيك ـ انتظارـ ( وقد تعامل السنباطي مع مجموعة كبيرة من الشعراء نذكر منهم (احمد شوقي  ـ حافظ إبراهيم ـ أبو فراس الحمداني ـ محمود حسن إسماعيل ـ إبراهيم ناجي ـ صالح جودت ـ عبد الله الفيصل ـ أحمد رامي …) ويحسب للسنباطي أنه أنزل الشعر من عليائه فتغنى به رجل الشارع، أخرجه من الكتب المركونة في الرفوف فردده المواطن البسيط

صحيح أن السنباطي لحن للعديد من المطربين والمطربات، ولكن أعماله مع أم كلثوم حلقت به وبها في سماء المجد، ذلك أنه وجد في صوتها ضالته المنشودة، القادرة على التعبيرعن ألحانه، وتجسيد أصالته، فساهم تعاونهما في تشكيل وجدان الأمة العربية، وأما قطعة (الأطلال) فاعتبرت أحسن أغنية عربية على الإطلاق في القرن العشرين

                         الفنان رياض السنباطي

حظي السنباطي بتقدير الأغلبية، ولكن قلة قليلة حاولت أن تتهمه بالجمود وعدم مسايرة العصر، وحسبه أنه قدم  لنا الجمال على أطباق من الذهب، فلازال هناك عشاق يبحثون عن فنه، ويستمعون إليه، ويعملون على إحيائه، وما علينا إلا أن نعود لمواقع التواصل الاجتماعي الحديثة لنتأكد من ذلك، ولكن الناقد كمال النجم يساير ادعاء شاع عند بعضهم من أن السنباطي مات بموت أم كلثوم، مصرحا بأن ألحانه لأم كلثوم قوية ورفيعة في إبداعها، وأما ألحانه لغيرها فجاءت ضعيفة وباهتة، وقد فسر ذلك بأن روحه كانت ترتفع عندما يلحن لكوكب الشرق  …. صحيح أن صوت أم كلثوم منح لألحانه بريقا ولمعانا، ولكن هذا لايقلل من قيمة أعماله الأخرى، فمن منا لا يتذوق (عايز جواباتك) لنجاح سلام أو ( يا ناسيني) لشهرزاد، وكيف لانطرب عند سماع ( إن كنت ناسي أفكرك) لهدى سلطان، إنها وغيرها  تعتبر روائع تؤكد لنا أنه فعلا أمير النغم وأمير الطرب، لم يقتبس لحنا أجنبيا في أعماله، وظل مبدعا متفردا في أصالته العربية، وهذا مادفع منظمة اليونسكو لكي تمنحه جائزتها العالمية سنة 1977، دون أن ننسى الجائزة التي استحقها من المجلس الدولي للموسيقى في باريس

كان السنباطي خجولا ومنطويا على نفسه، يحب أن يقضي أغلب أوقاته في البيت مع الأسرة، ومع عوده وألحانه، لكل هذا لقبه البعض بالراهب أو بفيلسوف الموسيقى، لذلك توقف عن الغناء مبكرا بسبب خوفه من مواجهة الجمهور، وحتى عندما بلغ المجد، ظل بعيدا عن الأضواء، حتى أنه لم يحضر في حياته إلا حفلة واحدة لأم كلثوم بعد إلحاح شديد منها، ولهذا أيضا يندر أن نجد له صورة تجمعه بمحمد عبد الوهاب رغم أنه اشتغل معه كعواد في فرقتهما بين 1933 و 1935 ،وحتى السينما لم تستهوه، حيت لم يظهر إلا في فيلم واحد هو (حبيب قلبي) مع هدى سلطان، في حين أن عبد الوهاب قام بدور البطولة في سبعة أفلام منها ( الوردة البيضاء ـ يحي االحب ـ يوم سعيد …) وظهر في فيلمين (غزل البنات ـ منتهى الفرح) . و أماعبد الوهاب فكان اجتماعيا بطبعه، متعدد العلاقات، لايتردد في حضور المناسبات الرسمية، ولا في المشاركة في الحوارات والبرامج الإعلامية، بل لقدعرف عنه دعوة رجال الصحافة والفكر والأدب لسماع أعماله الجديدة

سئل محمد عبد ا لوهاب مرة عن السباطي المغني فأكد بأنه لو لم يغن سوى قصيدة (أشواق) لعد مطربا كبيرا، وعن السنباطي الملحن، قال بأنه يراه كرجل أفندي يرتدي طربوشا ولباسا راقيا ويحمل في يده عصا، فلا تملك إلا أن تحترمه، وفي حواراته الأخرى نوه عبد الوهاب بإبداع السنباطي في لحن ( نهج البردة) وكذلك بقصيدة (انتظار ) والتي غنتها سعاد محمد فصرح بأنها تمثل نموذجا للغناء الذي ينبغي أن يسود في عصرنا، وأما السنباطي فكان دائما يشيد بأغاني عبد الوهاب القديمة مثل (عندما يأتي المساء ) ويعتبره ملحنا عظيما لنفسه، ولم يكن راضيا عن ألحانه الراقصة للآخرين، لقد كان السنباطي يقدر عبد الوهاب تقديرا شديدا، ويحسب له ألف حساب، بدليل أنه أعاد تلحين قطعة (سهران لوحدي) والتي كتبها احمد رامي عشر مرات، لما سمع بأن عبد الوهاب تسلمها وشرع في تلحينها، فكان ذلك من باب التأهب للدخول في مقارنة بين اللحنين

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com