حضور الآخر في الأنا
مصدر التميز هو التنافس: الجزء الثاني
لا تتوقف الضغوطات الاجتماعية، التي من خلالها تضعف مقاومة الفرد، عند حد التنافس، و حسب، و إنما ترتبط أيضا بمعيار آخر هو الإقناع الذي يتخذ مظاهر مختلفة من الزي، إلى الحديث، إلى الميولات. هذه المظاهر تبدو في المحادثات بين الأشخاص، و في وسائل الإعلام، و مواقع التواصل الاجتماعي. ليس من المستغرب أن يسمى أصحاب هذه المواقع بالمؤثرين (influenceurs) الذين يستهدفون فئات محددة بحسب اهتمام كل مؤثر و بحسب ما ترغب فيه كل فئة. و هي فئات بسيطة التفكير تمتثل دائما لجماعة الضغط، و تميل إلى الاندماج بالرأي السائد. ذلك أن الشخصية تتشكل و تتحدد اجتماعيا عبر عناصر ثقافية من خلال مقاربة العلاقة بين الفردي و الاجتماعي. تصير الهوية الاجتماعية هي السائدة فيما تمحي هوية الشخص في المواقف الجمعية. هذا التشكيل للموقف الجمعي قد يصل إلى حد محاولة إقصاء الفرد غير المنتمي إلى هذه الفئة أو تلك. لكن الإقصاء إنما هو في الواقع محاولة لاستدراج الفرد أو لاستفزازه للالتحاق بالجماعة، بمعنى الامتثال للثقافة السائدة في فترة معينة
ليست الثقافة كيانا اجتماعيا. إنها تعبير عن الاجتماعي ضمن وضع محدد. و ليس البعد الاجتماعي شيئا آخر غير ذلك البعد الذي، بوصفه شيئا، يترَجم وفق النماذج التي يشترك فيها أفراد جماعة ما و المتأثرة إلى حد كبير بالمعايير الاجتماعية. و لئن كانت الثقافة، من جهة أخرى، بحسب لنتون هي مجموع المعارف، و المواقف، و أنماط السلوك المعتادة التي يشترك فيها أفراد مجتمع معين و ينقلونها إلى الأجيال اللاحقة، فإن هناك أنماطا ثقافية تخضع للتغير تبعا للمتغيرات الاجتماعية و الاقتصادية. الثقافة، بتعبير آخر، هي ذلك الجزء من المحيط الذي يصنعه الإنسان بحسب تطور حاجاته و ميولاته. ثمة طُرفة تقول إن الشخص مكون من ثلاثة أقسام: الروح، و الجسد و الملبس. أشرنا أعلاه إلى الملبس، و نود هنا أن نشير إلى مسألة الجسد الذي صار أحد الأنماط الثقافية. و لما كانت الصفات الجسدية تشكل مادة للأحكام الاجتماعية، فقد صيغت لها مجموعة من الخطابات و الممارسات الخطابية التي تهدف إلى إعادة تشكيل الجسد من خلال عمليات التجميل، و بالأخص الوجه- تضخيم الشفاه، و تبييض الأسنان (white smile) – و تكبير الأرداف؛ باختصار، الأجزاء المثيرة في الجسد. بذلك، صار الجسد الأنثوي، جسدا حريميا، ليس للاستعراض فقط، و إنما للاستهلاك أيضا على الأقل في العالم الافتراضي، حيث حركات و وضعيات الجسد في أوضاع مختلفة إما في صور أو في فيديوهات لا تستثير فقط الذكور، و إنما كذلك تحرض الإناث على فعل المحاكاة، سواء بالتأثير أم بالإقناع. و لعل ذلك لم يتحقق إلا من خلال تصور جديد للجسد، حفزت عليه إعلانات و دعايات الشركات المصنعة لمواد التجميل، و مصحات الجراحة التجميلية، و مراكز الرشاقة؛ و بات العالم يشهد صناعة الجسد، مثل صناعة الأزياء و السيارات و ما إلى ذلك. لكن إذا كان هذا التصور الجديد قد نجح في تحسين الجسد، فإنه لم ينتج إلا نوعا آخر من التشييء (réification) في عصر ثقافة اعتبرت الجسد مادة للاستثمار و مصدرا للربح. و هذا ما جعل نمط الجسد المكتنز و البدين، الذي اعتبر فيما سبق أحد مظاهر الرفاه و الجمال، يُستبدل بنمط الجسد الممشوق
و إذا، لم يعد الحديث عن الجسد المرتبط بالجنس أحد الطابوهات في ظل خطابات تنزع إلى التحرر و إلى اعتبار الجسد مسألة شخصية تهم الفرد و ليس الآخرين. غير أن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد وهم سقط فيه الفرد. فالخطابات في الواقع لم تنجح في فصل الذات عن الآخر بما هو أساس وجودها، و إنما عززته بشكل مثير للاستغراب. إذ ما جدوى الاهتمام بالسكن و الجسد و اللباس في غياب الآخر؟ إن الفرد يمنح موثوقية لآرائه و سلوكه عبر ملاءمتها مع آراء و سلوك الآخرين. لكن يبدو أنه حين يقارن وجهة نظره مع وجهة نظر الآخرين من أجل تكوين نوع من الإطار المرجعي المشترك، فإن مصداقية تصرفاته تبدو له اجتماعية من حيث كونها مرتكزة على معايير مشتركة وظيفتها خلق حقيقة يتبناها. لذلك يمكن القول إن التأثير/ التنافس/ الإقناع يكشف عن قابلية الفرد للامتثال و عن السياق الذي يحدد الفرد وفقه تصرفاته، كما أن وجوده ضمن سياق اجتماعي معين فقط يمارس تأثيرا في ردات أفعاله عبر الحد من قدراته على التصرف. على أن مثل هذه الطابوهات لم تتم إزاحتها لخلق قيم حداثية تمنح العقل قيمته المستحقة، و إنما ابتكرت طابواهات جديدة، من شأنها أن تعوق الفرد من اتخاذ قرارات تخصه لوحده، و تحمله على التبعية، و محاكاة الآخرين. المثال على ذلك تلك المشاهد التي يراها المرء في المقاهي كلها حيث كل زبون منشغل بتصفح ما تعرضه مواقع التواصل الاجتماعية
يتجاوز التنافس هذه المناسبات ليشمل اليومي، من حيث أن المغربي يعتد بنفسه مهما كانت الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها. يتمظهر هذا الاعتداد بالنفس في الرغبة في الظهور، و في طريقته المتطرفة التي يستعرض بها هذا الاعتداد. هكذا صار الاقتناء التنافسي معيارا لتأكيد حظوة الفرد و للرفع من قيمته الاجتماعية. ساهمت في ذلك أو أسست له و سائل الإعلام و إعلانات المؤسسات البنكية و وكالات القروض بفوائد تفضيليةٍ حثت الطبقات الوسطى و الدنيا على الاستهلاك و التبذير، و صار اقتناء السيارات الفارهة و الملابس ذات العلامات التجارية العالمية حلم كل واحد مهما كلف الثمن و مهما كانت الطريقة (كل الطرق تؤدي إلى التميز). هكذا لم يعد الاستهلاك شرطا ضروريا في الحياة، و إنما أصبح شرطا للاستعراض ليس في أوساط الطبقات المتوسطة و إنما أيضا وسط بعض أفراد الطبقات الدنيا المتطلعين إلى الالتحاق بالطبقة الأعلى منهم من خلال التماهي ببعض المظاهر التي كانت حكرا على بعض الفئات المجتمعية أو ارتبطت بخصوصيات مناطق أخرى ضمن ما يسمى بالتنوع الثقافي. على سبيل المثال، تحول حفل الزواج من شكله البسيط المميز بطقوس تقليدية بحسب خصوصية كل منطقة، إلى مهرجان تستعرض فيه التقاليد الاحتفالية لعدة مناطق من المغرب. و لم تعد غاية الاحتفال و الفرح بالعروسين من الأولويات، و إنما صار حفلا استعراضيا هدفه التميز و التباهي في كل مظاهره بدءا استئجار قاعة حفلات، و ممون الحفلات، و وصيفة (نكافة) و أوركسترا ذائعة الصيت، و ما إلى ذلك. كل ذلك لا يعدو أن يكون استهلاكا الغاية منه كسب نظرة الآخر و استحسانه، و استثمارا رمزيا من أجل الاعتراف. فما ترغب فيه الذات من خلال هذا الاستهلاك الاستعراضي إنما هو الموقف الإيجابي لهذا الآخر و أحكامه، و الخوف من نظرته السلبية. هذا الامتثال للمعايير الاجتماعية عبر التفاعل الاجتماعي يعكس عجز الذات و هشاشتها عن اتخاذ موقف خاص بها لتأكيد قيمتها المعنوية. و قد تصل هذه الهشاشة بالفرد إلى تجاوز قدرته المادية بكثير من خلال الإقبال أو ممارسة أفعال يمجها الحس العام، أو يعاقب عليها القانون لإرضاء الآخرين فقط. هكذا لم يعد الفرد أمام هذا الوضع كائنا ثقافيا أو أيديولوجيا و حسب، و إنما أيضا نتاج ثقافة استهلاكية
ذ. لحسن أحمامة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- علم النفس الاجتماعي، غوستاف نيكولا فيشر، ترجمة د. غسان بديع السيد، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2021
2- مقدسات و محرمات و حروب: ألغاز الثقافة، مارفن هاريس، ترجمة أحمد م. أحمد، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، 2017
3- Ralph Linton, The Cultural Background of Personality, Routlege, 2007
Tzvetan Todorov, La vie commune : Essai d’anthropologie générale, Editions Seuil, 1995