الطفلة التي ولجت الإذاعة في سن الثالثة عشرة
الإعلامية المغربية فاطمة عيسى: تجربة تفوق أربعة عقود من العمل الإذاعي
!مهمات كثيرة ومتنوعة بإذاعة طنجة براتب هزيل
يسعدنا كثيرا أن نستضيف سيدة الإذاعة الأستاذة فاطمة عيسى لإجراء حوار حصري ضمن سلسلة الحوارات مع الإعلاميين الأكفاء بإذاعة طنجة، لنقف معها على تجربتها الغنية التي نقشتها حالات “بحُلْوِهَا القليل ومُرِّها الكثير” ما بين الصعود والارتجاج، والتحدي والصمود لإثبات الذات، والمثابرة الملحة باجتهاد، الشيء الذي أدى إلى نتائج مضيئة وقيمة ومشرفة توجها حب الجمهور بكل فئاته
لنتابع مع قراء ومتابعي ألوان هذه الدردشة الخفيفة لأن العمل الإذاعي والإعلامي لعقود لا يمكن أن يختزل في ساعات من الحديث عن تجربة سنوات طويلة بمدها وجزرها
في البدء دخلت سيدتي المجال الاذاعي وأنت طفلة فهلا رويت لنا عن هذه التجربة المتفردة ؟
بداية، أود أن أتوجه بالشكر للطاقم المشرف على ألوان بخصوص هذه الاستضافة في ركن (حوار الأسبوع)، وأوجه تحياتي الكبيرة لقراء ألوان أينما وجدوا، وأرجو أنأتوفق في الرد على كل أسئلتكم
حين دخلت المجال الإذاعي لم يكن عمري يتجاوز الثالثة عشر، وحينها لم أكن أستوعب مدى قدرتي على العمل وأنا طفلة مستواي الدراسي الأولى ثانوي – آنذاك – من ثانوية محمد الخامس العتيقة ، وكان في حوزتي دبلوم الرقانة بميزة جيد جدا وهنا أود أن أشير إلى أن أرضية تعليمي كانت صلبة ومتينة ، ليس من حيث اللغة العربية فحسب بل حتى فيما يخص اللغة الفرنسية ، وكيف لا وأنا درست بمدرسة شعبية حرة تتبوأ مكانة أساسية في مدينة عريقة ، ولعله الأمر الذي خول لي العمل في إذاعة الجزائر الحرة المكافحة ، صوت جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني ، والجزائر يومها كانت في حرب مع الاستعمار الفرنسي ، والمغرب بطبيعته المضيافة كان قد فتح الباب لهذه الإذاعة لتبث برامجها من أحد استوديوهات إذاعة طنجة بالطابق الثالث إلى غاية حصول الجزائر على استقلالها في يوليوز عام 1962
وللذكرى أقول بأن التحاقي بالعمل بالمحطة الإذاعية الجزائرية لم يأت إلا بعد اجتيازي لامتحان أشرف عليه أحد مسؤولي الإذاعة، وتمثل في شكل نص مأخوذ من إحدى الجرائد ، ورقنه على الآلة الكاتبة وقراءته ، ولما استحسن نتائج هذا الامتحان ، تم السماح لي بالاشتغال بداية من شهر يناير 1962 ، وقد كانت تلك خطوتي الأولى لمعانقة الميكرفون ، وقراءة نشرات الأخبار بصوت نسوي مغربي لأول مرة، واستمر عملي بهذه الإذاعة إلى غاية شهر يوليوز. كانت تجربة قصيرة، لكنها توجت بمهنية وجدية في العمل، وفي شهر غشت، طلبت لأشتغل بالطابق الرابع في قسم موريتانيا وإفريقيا الموجهة برامجه للقضية الوطنية: الصحراء المغربية
لنعد إلى التجربة الإعلامية بإذاعة طنجة ، ما هو تقييمك لها وأنت تراجعين مسارك المهني لعقود خلت ؟
تجربتي الإذاعية لا يمكن اختزالها في بضعة سطور ، لأنها امتدت عبر شريط زمني يتكون من أربعة عقود وأربع سنوات و 4 أشهر ، بأيامها ولياليها ، بحُلْوِهَا القليل ومُرِّها الكثير ، يكتنفها الصبر والعطاء والمعاناة والبحث فيها عن الذات ولتحقيق هدف الوصول إلى ما وصلت اليه ، فالتجربة كانت عشرية أي بكل عشر سنوات تكون تجربة خاصة
لقد كنت إدارية محضة ، وعملت سكرتيرة بإذاعة طنجة لستة أو سبعة رؤساء ، كما عملت مع باقي الرؤساء الآخرين – وهم كذلك ستة – واشتغلت معهم في العمل الانتاجي ، وعطفا عليه أقول أني جمعت بين العمل الإداري الصرف ، والإنتاج الإذاعي ، وكنت مذيعة للربط وقارئة للأخبار ، ومعدة برامج إخراجا وتقديما ، كل ذلك من أجل تحسين وضعيتي ، زيادة على مشاركاتي في المباريات والامتحانات الإدارية التي اجتزت معظمها بنجاح ،والمنظمة من طرف الإدارة المركزية بالرباط ، تحديا ورغبة مني في الترقي الإداري والوصول إلى المستوى الجيد .وإضافة إلى كل ذلك ، كنت مسؤولة عن مراقبة مادة الاشهار الاذاعي، وللأسف ، رغم كل هذه الأعمال والأعباء المتنوعة لم تكن التعويضات ممثلة إلا في أجرة زهيدة لا تسمن ولا تغني من جوع كنت أتقاضاها شهريا
ولا تفوتني هنا الإشارة إلى الاعتراف بأنني استفدت من رواد ورموز الإذاعة وهم أساتذة أخذت عن بعضهم الكثير دون غيرهم ، لأسباب أعتذر عن عدم ذكرها
ألم تفكري في تحسين أو تغيير وضعتك الإدارية حينذاك بعد أن صارت لديك خبرة بالعمل؟
نعم كان من الممكن تغيير وضعيتي الإدارية وتحسينها مقارنة مع ما قدمت وأعطيت وضحيت في المجالين الإداري والإنتاج الإذاعي ، اللذان أبليت فيهما البلاء الحسن على مدى أربعين سنة ، منقوصة منها أربع سنوات عملت خلالها في إذاعة تطوان ، ما بين يناير 1991 و دجنبر 1994 ، نتيجة خلاف بيني وبين المسؤول في الإذاعة آنذاك ، اُحِلْتُ على إثره إلى مجلس تأديبي ، لم أخضع له لكوني صاحبة حق ، فَسُمِح لي أن اطلب الانتقال الى احدى الاذاعتين: تطوان أو الرباط ، فاخترت الأولى لأن والدتي كانت توفيت قبل ذلك بسنة ، ووالدي كان مريضا ، وهو ما حتم علي أن أبقى قريبة منه . وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فلا أخفيكم سرا إذا قلت بأني عانيت الكثير حتى أصبح منتجة إذاعية تقدم برامجها بصوتها ، هذا الصوت الذي تمت محاربته والعمل على محاربته واقصائه بشتى الطرق أكثر من مرة ، ولعله الأمر الذي دفعني إلى ركوب موجة التحدي بالسهر على اختيار وتقديم مجموعة برامج ناجحة وهادفة منها الثقافي والاجتماعي والفني والرياضي ، بالإضافة إلى التغطيات والتنشيط الخارجي والتواصل مع الجالية المغربية في الخارج ( برنامج “حنين “) . وللتأريخ أقول أن هذا العمل تُوِج بمدالية ذهبية سنة 1996 مناصفة بيني وبين الأخت زهور الغزاوي بمهرجان القاهرة الدولي للإذاعة والتلفزيون
وأنت الآن في حكم التقاعد المهني ،نشيطة في الكثير من المناحي الاجتماعية لممارسة العمل الجمعوي ، حدثينا عن انشغالاتك ؟
أعتقد أن العمل الجمعوي هو امتداد للعمل الاذاعي ، لكونهما يخدمان المجتمع كلا من موقعه وزاوية اختصاصه ، لذلك وجهت بوصلة اهتمامي إلى التأسيس والانخراط في الكثير من الكيانات الجمعوية، فأنا عضو مؤسس لجمعية: أجيال طنجة للتنمية والثقافة منذ سنة2001 وعضو بجمعية إنماء طنجة ، وعضو مؤسس ورئيس جمعية الأمل لحي باب الفحص ، وهو الحي الذي أسكنه، وهي جمعية تهتم بالبيئة والمجتمع وبكل ما هو ثقافي ، وعضو بجمعية بيت المبدع ، وعضو بجمعية متقاعدي الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون ، حاليا مشرفة ومسيرة لعدة مشاريع تربوية (روض اطفال) وتكوينية (شعبة الخياطة والطرز، الحلويات والطبخ) ، وكما تلاحظون فانشغالاتي متعددة ومتنوعة ، وانا سعيدة بكوني ما زلت قادرة على العمل وتقديم خدمات أعتقد انها مهمة وجليلة ، من أجل اسعاد الآخرين
دائما في سياق التجربة الإذاعية، نود أن تطلعينا – مشكورة – على البرامج التي أعددت وقدمت فيها الكثير من الشخصيات الاعلامية، والسياسية، والثقافية، والاجتماعية . وعن الاقرب اليك منها ؟
حصة المتغيبين كان أول برنامج قمت تقديمه في سنة 1966 / في عام 1972 حينما كان المرحوم محمد حسن الرامي مديرا ، ورغم أني كنت أمارس العمل الإداري . فقد فكرت في اقتراح برنامج من ابتكاري، وإعدادي، وإنتاجي للمسؤولين. فكان برنامج “الحقائب الثلاث” الذي وافقت الإدارة عليه وأصبح يذاع عبر غلاف زمني يقدر ب 55 دقيقة، إبان سنوات 72 لموسمين أو أكثر، ثم أعدت تقديمه في السنوات التالية: 76 و77 ثم 79 نظرا لأهمية البرنامج، وغير خاف عليكم ما كان يتطلبه عمل – من ذاك القبيل – في البحث والتقصي للأخبار الثقافية والفنية والرياضية التي تقدم للمستمعين في الحقيبة للمستمعين في الحقيبة الأولى، بالإضافة إلى العديد من الفقرات ، مثل “قل ولا تقل ” الذي ينقح اللغة العربية من الكلمات الدخيلة باللغتين الفرنسية و الإسبانية وحتى الحقيبة الثانية كنت أقدم من خلالها شخصية بارزة وعالمة في كل مجالات المعرفة ، كانت حية ترزق أو أنها انتقلت الى عفو الله ورحمته، وفي الحقيبة الثالثة مسابقة البرنامج وتقدم من خلالها مجموعة من الكتب القيمة تحفيزا للشباب والطلبة الذين كانوا يراسلون البرنامج وينجحون في تقديم الأجوبة عن أسئلة الحقيبة. وعموما لقد بقيت وفية في اختيار المواضيع الثقافية والفنية والرياضية ذات الصلة بالأسرة المغربية
كما كنت أستضيف العديد من الأسماء اللامعة والشخصيات البارزة للاستفادة من تجاربهم ونقلها إلى عموم المستمعين ، ومنهم أذكر على سبيل المثال لا الحصر : المرحوم العلامة سيدي عبد الله كَنون و المرحوم الدكتور عبد الهادي التازي ، والدكتور الراحل محمد عزيز الحبابي، ومن المجال الفني الراحل المعطي بن قاسم ، والراحل كمال الشناوي المصري ، والراحلة نعمة التونسية ، وغيرهم كثير قد يضيق المجال على ذكرهم
وتعزيزا لما سبق أشير إلى أني كنت مسؤولة عن تقديم الكثير من البرامج التي أعتز بها أيما اعتزاز لدرجة أنه لا يمكن أن أفضل أحدها عن غيرها لأنها بمثابة فلذات كبدي ، ومنها أذكر : الحقائب الثلاث – شؤون البيت – عالم المرأة – إليك سيدتي- سهر فني – سهرة مفتوحة – لا أنام – دائرة الضوء – أسماء – حنين – الجالية المغربية بالثمر والحليب – كيفاش وعلاش؟
هذا بالإضافة طبعا إلى البرامج التي كانت تقدم من إذاعة تطوان. ومما تجذر الإشارة إليه أني تحليت بالكثير من الجرأة والمغامرة في برنامج الصوت المسموع ، وعالجت فيه الكثير من الطابوهات والقضايا التي كانت ممنوعة من النشر أو التقديم ، كالعنف ضد المرأة، العنف ضد الرجل ، الحب قبل الزواج أو بعده ….وغيرها كثير
حدثينا سيدتي عن علاقتك المهنية مع سيدتي الإذاعة ” أمينة السوسي و زهور الغزاوي، ثم كيف كان العمل ضمن الطاقم التقني داخل الاستوديو يومها ؟ وهل كانت هناك منافسات ؟ مشادات ؟ اختلاف آراء؟
عموما لقد كانت المعاناة أكثر من الحلم في مساري الإذاعي ، الأمر الذي دفعني إلى التساؤل مع نفسي بالكثير من الحرقة قائلة : لماذا لا أقدم نصوصي وأقرأها عوض الاكتفاء بتقديم ما يكتبه الآخرون ، و هنا جاء أمر تعرضي لمحاولات إقصاء صوتي، فاخترت التحدي وتحملت مسؤولية كل البرامج – التي أشرت إليها سلفا ، وضممت صوتي للأخت أمينة السوسي أجانا ، الأيقونة والقيدومة رقم 1 في إذاعة طنجة ، وهي صاحبة الصوت المتميز، والثقافة الإذاعية الفذة ، لقد كانت قدوتي في تقديم الأخباروالبرامج المسجلة. أما بالنسبة للأخت زهور الغزاوي فقد جاءت بعدي إلى الإذاعة، ودخلت مجال التذييع والأخبار وقد توجنا علاقتنا في الإنتاج الإذاعي كثنائي بالميدالية الذهبية سنة 1996 من مهرجان الإذاعة والتلفزيون بالقاهرة، عن برنامج (حنين) للجالية المغربية
بالنسبة للمنافسات ، فلن أزيد عن قولي بأننا كمنتجين كنا نعمل في أجواء أخوية مع كل المسؤولين المتعاقبين في إذاعة طنجة ، وكل واحدة منا كانت تقدم برامج مُمَيزة ومُتَمَيزة خلال مختلف مواسم الإذاعة ( موسم خريف شتاء – موسم الربيع – موسم الصيف – موسم رمضان )، وكان لزاما علينا أن نقدم اقتراحات جديدة في كل مناسبة ولكل موسم على حدة ، وبحكم طبيعة العمل كان لابد أن تكون هناك اختلافات في الآراء ، غير أنها لم تكن لتفسد للود قضية
في إطار التطورات و مستجدات التكنولوجيا الحديثة ، كيف ترين العمل الإذاعي اليوم ؟ وهل ترين أن الإذاعة مازالت تحظى بنفس الإقبال أمام غزو وسائل الاتصال الاجتماعي والجميع مغرق في عالم التيك توك ، والفيسبوك … الخ ؟
العمل الإذاعي بالتأكيد أصبح سهلا جدا بسبب التطور التكنولوجي، مقارنة مع ما كان عليه أيام الاعتماد على الآلة الطابعة وميكروفونات الاستوديوهات التي كان ينقصها الكثير من الاعتناء ، وكانت الإذاعة تعاني نقصا في التجهيزات ، إذ كنا نلجأ إلى اعتماد المقص في كل مونتاج ، وحمل آلة ( ناكرا) التي تزن خمس كلغ للتسجيل ونقطع بها مسافات طويلة . اما الان فإن أصحاب الإذاعات هم أسعد منا بكثير، ولا يعانون كما عانينا الأمرًَين نحن الرواد في القيام بمختلف الأعمال . فقديما عانينا من نقص مهول في التجهيزات ، وعانينا من غياب الاهتمام ورغم كل تلك النواقص حققنا النجاح في كل مأمورياتنا والحمد لله ، وبصمنا بأسمائنا كقيدومي إذاعة طنجة
وأخيرا أقول إن وهج الإذاعة لن يخبو وشعاعها لن ينطفئ ، فالإذاعة تدخل كل البيوت في كل الأوقات الذي يفترض التلفزيون الارتباط المباشر والمستمر بالشاشة، بينما عبر شاشات الهواتف الذكية يمكن لكل شخص اختيار ما يريد سماعه أينما كان، من برامج، أو موسيقى، أو أفلام، أو أغاني مجلة أو مصورة. بالفعل آمل أن أكتب سيرتي الذاتية إن شاء الله وعن هذه التجربة الغنية بالأحداث ليطلع عليها المهتمون