الإنسان بين الإبتلاء وإثبات الذات: الجزء الثاني
…نماذج من عطاءات إنسانية
قهر المرأة مخاض عسير وشكل من أشكال البؤس
بقلم: الأستاذة سعيدة أملآح
كذلك تطالنا أسماء عديدة من أولئك الذين قفزوا عاليا متجاوزين محن الابتلاء ، متأملين عجائب الظواهر اليومية وتفاصيل الكون ، وفي هذا الصدد يقول أينشتاين : [ إن الأشخاص الكبار العاديين لا يزعجوا رؤوسهم بمشاكل الزمان والمكان ]
ويقول عن نفسه : [ إني تطورت ببطء شديد وهو ما جعلني أسأل عن المكان والزمان ] ومنها توصل إلى نظرية النسبية التي أهلته للحصول على جائزة نوبل ، وهو الذي وصفه مدرسوه بالتلميذ الحائر المشتت ، البطيء في التعلم ، والمتأخر في المشي . ومن رحم التوحد قاوم ” دافنشي ” هزيمة عدم الاندماج ودخل عالم الترصد والتتبع للأشياء والكائنات ، فكان ملاحظا دقيقا لتناوب الحركة من خلال أجنحة اليعسوب، مترجما للمشاعر من خلال حركات الوجه وتناثر الدوامات عند سكب الماء في إناء ، ودارسا بعمق للزوابع الهوائية ، وقد أنجبت ملاحظاته العلمية الدقيقة رسومات عميقة كلوحة ( الطوفان ) القوية ، وأحاطت بعلمية فائقة علاقات دوران الدم في القلب وإغلاق الصمام الأبهري
وتبقى هذه مطلق إشارات بسيطة وإلا فالأمر يقتضي تقديم نماذج منهجية تعتمد الرصد والتتبع والقيام ببحوث ميدانية في التراث وفي الواقع ، وحصر للعينة وتحديد للفئة المستهدفة . وتبقى هذه بعض الشذرات الإنسانية عامة فكيف إذا ما وقفنا عند المؤمنين الصابرين الشاكرين في السراء والضراء والذين ارتفعوا فوق شدة الابتلاء وضروب البلاء انطلاقا من آدم، وموسى عليهما السلام حتى يومنا هذا ، وذلك لتأصيل استحباب السعي في طلب العلم في مثل قوله تعالى [وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ] – سورة الكهف – وقد سار على نهجهما الكثير من العلماء الذين طافوا الأرض وذرعوها كالحافظ المؤرخ الرحال الإمام ” ابن النجار البغدادي ” حيث شارف على 27 سنة في رحلته لطلب العلم ، حتى أصبحت ثقافة الرحلة مقصدا شرعيا وأساسيا لتعميق العلم ، وهو ابتلاء مطلوب رغم شظف العيش وبلاء الفقر حتى قيل من طلب العلم بالفاقة ورث العلم ولنا في ذلك نظر
ومن ضروب الابتلاء شدة الإنكار على الأولياء ، ونرمز إلى ذلك في شخص ” الحسين بن منصور الحلاج ” الذي عاش بين التقديس والإنكار محبا لله سبحانه وتعالى ، ومعذبا من خلقه ، مواجها للعصبيات القبلية وأمراض العصر العباسي ، ومعترضا على معاناة الزنج وبعض البدو المناصرين لهم . لقد كفر بظاهر القول وتحدث الناس في قتله ، وقُتِل فعلا وقالوا قطعت يده ورجله وقيل توضأ مشيرا بدم سال منه أثناء التنكيل به ، قائلا: [ ركعتان في العشق لا يجوز الوضوء لهما إلا بالدم ] ، وقد خلف ديوانا رائعا في العشق الإلاهي وكان ابتلاؤه محكا حقيقيا لقدراته الإنسانية ولتربيته السلوكية قال عنه القطب الرباني “سيدي عبد القادر الجيلاني ” رحمه الله : عثر الحلاج ولم يجد من يأخذ بيده ولو أدركته لأخذت بيده
وبإطلالة على ذي الوزارتين الفقيه المالكي والفيلسوف والطبيب والمؤرخ والسياسي المحنك ” لسان الدين ابن الخطيب” ، نلمح إثبات الذات مع المعاناة في تأليفه لستين مؤلفا في الفقه والتصوف والأدب والأصول والرحلة ، وهو المعانق لشوق الوحدة بين المغرب والأندلس ، المتهم بالكفر والزندقة و الذي نال حظا من دسائس القصور وحسد العلماء ، حتى أدخل السجن من طرف أحد تلامذته إذ كان يعاني من الأرق ، وهو مؤلف كتاب الطب في اقتراح أساليب للمعالجة منه ، لقد كان يقهر السهر عدوه الصامت بتآليفه العلمية والأدبية العديدة ، فصار من القمة إلى غياهب السجون ، حيث أعدم خنقا وأحرقت جثته من قبل بعض الحاقدين . كما نجد في معاناة ” ابن خلدون ” في خلوته ، بعد تجربة قاسية في فقده لوالديه وأعظم شيوخه من جراء الطاعون الذي أصاب البلاد ، شاهدا على كون الابتلاء قد يكون حافزا مهما في بروز العبقرية ، والذي ظهرت في شخصه خلال تأسيسه لعلم الاجتماع وترجمة معاناته في سِفْرِه المجيد ” العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب ” ، في سبع مجلدات ضمنها مقدمته الشهيرة التي أَُصل فيها للعمران وطبائع الناس ومميزاته، إضافة إلى مؤلفات في الحساب والمنطق والفلك وقوانين العمران والجغرافيا ونظرية العصبية ، كما شغل باقي أوقات فراغه بالبحث في الاقتصاد واللسانيات وفهم القرآن وتصنيف الكائنات وغير ذلك . ورغم ما قيل عن هالته الأسطورية والتي حولته عند البعض – كالدكتور ” محمد اسماعيل” – إلى باحث تقليدي في دراسة التراث ، فتكفي الإشارة إلى أنه اعتبر عند العلماء والنقاد مبتكرا لفلسفة التاريخ التي تعد أعظم ما توصل إليه العقل البشري في مختلف العصور والأمم ، كما اعتبر مؤلفه من أهم المؤلفات التي أنتجها الفكر البشري
ومن صور الابتلاء ما لحق المرأة عموما عندما حرمت من حضورها الفاعل ومن حقوق أساسية غيبت مكانتها الإنسانية، خلافا لمكانتها المتميزة في الدين الإسلامي، حيث عانت من التمييز الانتقائي والتغييب اللاإرادي بدرجات متفاوتة ، مما شكل قلقا بالنسبة للمهتمين بعمليات التنمية في كافة المجالات ، خاصة بعد أن أثبثت ومنذ عهود قدرتها على الفعل والريادة
وان كان ذلك بنسب باهتة ، لقد كان عدم الاعتراف بثنائية المشاركة واستبعاد كل ما هو نسوي في عالم غير معترف بتعدديته معتبرا الرجل الصانع الوحيد للعقل والعلم والتاريخ والحضارة ، والتصدي للرؤية السائدة التي تجعل الحياة حقا للرجل وواجبا على المرأة لتثبت أنها إنسان كامل مثل الرجل وأنها لا ولن تقبل بالأدوار الثانوية في الحياة ، وأنها خارج دائرة الشر المستطير أو حتى الشر الجميل ، فعلت صيحات لإثبات الذات مؤكدة مكمن قوتها وخصوبة أطروحتها كحصيلة لعقلها المتقد وشعورها المرهف ، مشيرة إلى الدور الكبير لها في إنتاج المعرفة العلمية ، فاقتحمت مجالات البحث العلمي الرفيع في العلوم الفيزيائية والهندسية وساهمت في الدراسات الفلسفية وناضلت من أجل المساواة وحقوق المواطنة ، فاستطاعت أن تعلوا في مدارج التنظير ، ودعت بقوة إلى إقامة عدالة اجتماعية وأكدت أن قهر المرأة مخاض عسير وشكل من أشكال البؤس وشاركت في الحياة العامة وفي التربية والتعليم والعمل ، وبهذا تجاوزت إلى حد ما الابتلاء باعتبار اختلاف الجنس ، فالأنوثة عائق واقرار بدونية المرأة ، رافضة التسليم بالوضع القائم عموما ، وقدمت فرضيات واشتغلت عليها عموما لمواجهة ما يُقْبِرُها في أنوثتها
واستسمحكم في محاولة لإثارة أسئلة عنيدة ظلت تطاردني ، أرصها كالآتي
كيف يمكن تفجير العطاءات الإنسانية الكامنة عند الانسان المختلف ؟
كيف يمكن صون حقوقهم واحترام كرامتهم المتأصلة؟ واشراكهم كجزء من التنوع البشري دون إقصاء أو تمييز ؟
ما مدى اشراكهم في القرارات العامة والبرامج الخاصة بهذه الفئة المجتمعية وتأهيلهم ليشاركوا في الحياة العامة ؟ والاعتراف بقدراتهم ومدى إمكانية تحقيق ذلك؟
ماهي الآليات التي يشي الواقع بغيابها ؟
هل التجاوز مسألة فردية كالتسلح بالعزيمة والتطلع نحو إثبات الذات ؟
كيف نساهم في ولادة العبقرية من رحم المعاناة ؟
ألم يحن الوقت بعد لاعتبار هذه القضية من الأولويات للانخراط في التنمية الروحية والبشرية ؟
أليست المسؤولية تقتضي الانخراط الجماعي لحماية كل هؤلاء ؟
إنها أسئلة تتناسل وتتناسخ في انتظار إجابة وشيكة عنها
سعيدة أملآح