الأصل في هذه الاحتفالية مجرد فكرة : الجزء الثاني
الاحتفالية والاحتفاليون: أيهما الأسبق والأصدق؟
هذه الاحتفالية هي اليوم، وبفضل كل الذين فكروا فيها، وكل الذين أبدعوا إبداعاتهم الصادقة بوحيها، وبفضل كل الذين صبروا وصمدوا في خندقها، فإن هذه الاحتفالية، ولحد هذا اليوم موجودة وكائنة وحاضرة وفاعلة ومتفاعلة، ومازال لها حضور مادي ورمزي يشير إليها، وهي في هذا الحضور تدل بنفسها على نقسها، ولكن، في تلك البدايات الصعبة والشاقة ( القديمة) لم يكن الأمر كذلك، وكانت بحاجة إلى مجاهدين وإلى مفكرين صادقين، وإلى مبدعين خلاقين، وإلى سياسيين وإلى محامين يترافعون عن حقها في الوجود وفي الحياة وفي الحضور وفي الاختلاف، وإلى هذه الاحتفالية البوم، وإلى كل أهلها الصادقين والمناضلين اقول ما يلي: كل عام وانتم والتفكير الاحتفالي والإبداع الاحتفالي بألف خير وكل عام وروح التعييد الاحتفالي في تجدد وي تمدد وفي تعدد
ومن هو الاحتفالي؟
ويبقى السؤال، من هو الاحتفالي؟
: وجوابا على هذا السؤال او التساؤل يقول شخص الكاتب الرحالة في كتاب ( الرحلة البرشيدية) ما يلي
(هو رجل من الناس، ليس من بني الجن ولا من بني الشياطين، رجل من بني الإنسان)
هو التأكيد، مرة أخرى على إنسانية هذا الإنسان الاجتماعي والمدني ، وعلى أن الإنسانية في معناها الحقيقي درجة عالية وسامية في الوجود، وعلى أنها الوجود الخام مضاف إليه المكتسب الثقافي والجمالي والأخلاقي، وهو بهذا سلسة أعمار، يتبع بعضها البعض، سيرا باتجاه الأعلى والأسمى والأرقى فكريا وجماليا واخلاقيا، ولقد كان ممكنا لهذا الاحتفالي أن يموت في بداية الطريق، أو أن ينهزم في بداية المعركة، وأن يرفع الراية البيضاء، وان ينسحب إلى الخلف، ولكنه لم يفعل ذلك، وظل مؤمنا بالقيم الجميلة ونبيلة التي اختارها واختارته، وظل يعيد الفعل السيزيفي بشكل متجدد
ومعروف أن هذا الاحتفالي قد أدرك هذا العمر من حياته ( بعد نضال مرير مع الأيام والليالي، ومع التماسيح والأشباح، ومع الكائنات الحقيقية والخرافية ) وهذا الاحتفالي مكتوب اسمه اليوم في سجلات التاريخ ( بخط مغربي جميل على جبته المغربية، وقبل هذا هو مكتوب على جبهته، ومكتوب في السماء في اللوح المحفوظ، ومكتوب في ضمير الزمن)
والبدء كان من وطن يسمى المغرب، وكان من فترة حرجة وصعبة في التاريخ الحديث، ولقد علمته المقاومة أن يكون مقاوما شرسا، وأن يدافع عن فكره في زمن صراع الأفكار، وصراع الايديولوجيات ،وصداع المدارس الفكرية، وصداع الحساسيات الجمالية، وعن هذا المناضل الوجودي والحضارة يقول الاحتفالي في كتاب (الرحلة البرشيدية) ما يلي
( وستعرفون أنه رجل ينتمي إلى وطن من الأوطان، وأن هذا الوطن تسهر فيه الشمس مساء كل يوم، وأنها يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وعاما بعد عام، وقرنا بعد قرن ـ تبقى به حتى مطلع الفجر، ولهذا فقد سمينا هذا الوطن باسم المغرب، ولأنه بعيد جدا، فقد سميناه المغرب الأقصى) وهو الأقصى بكل تأكيد، ولكنه ليس الأقسى إلا على الظالمين وعلى المخادعين وعلى المزيفين وعلى أعداء البهجة والفرح
وهذا الاحتفالي، المفكر والكاتب والمبدع (ينتمي أيضا إلى كوكب كبير وخطير يسمى الأرض، وستعرفون إن شاء الله أنه يتحدث اللغة العربية مثلكم، وأنه بهذه اللغة يحيا ويعيش، وأنه يحلم بها، ويفكر بها، وبأنه قد كتب بها أجمل ما كتب، وأصدق ما كتب، وأنه قد رسم بها شخصيات من الواقع ومن التاريخ ومن الأسطورة ومن الحكايات ومن الخرافات ومن العوالم الخيالية الممكنة الوجود، وأنه ينوي ـ بعد نهاية الرحلة ـ أن يلقى الله بها )
هذا الاحتفالي له هواية واحدة، هي أم كل الهوايات (وهذه الهواية هي المسرح، وستعرفون أن هذا المسرح هو كل الوجود، وهو كل الدنيا، وهو كل التاريخ، والمسرح عنده هو اللعب الجاد، وهو الضحك الباكي، وهو المأساة الضاحكة، وهو كل عالمه اللامحدود، وستعرفون أنه يمتهن أم الصناعات، وأن هذه الصناعة الأم هي الحكي والمحاكاة، وهي الاحتفال والفرح، وهي الحلم والسفر، وستعلمون أن هذا الحاكي المحاكي هو مواطن بسيط، مثلي ومثلكم ومثل كل الناس البسطاء، ولكن ما قام به، وما يقوم به، من فعل مركب ودقيق ومعقد وعجيب ليس بسيطا أبدا) و(مصيبة) هذا الكائن الاحتفالي هو أنه ( كائن عاقل، وأنه ( يقترف ) التفكير جهرا وعلانية وفي واضحة النهار، ويمارس التفكير في زمن التكفير، ومصيبته أيضا أنه يدعو للعيد في الزمن المأتمي والجنائزي، وأنه يدعو للتجديد في الزمن الساكن والمحنط) وذلك الزمن المأتمي، بكل حرسه وعسسه وترسانته، في صراعه مع الزمن الاحتفالي، لم يستطع أن يثني الاحتفاليين عن الإيمان بالحق في العيد والتعييد
من يحتفل، ومن من حقه أن يحتفل؟
ويبقى ان نعبر إلى السؤال الموالي، والذي هو: هل كل الناس من ( حقهم ) أن يحتفلوا؟
وجوابا على هذا السؤال او التساؤل يمكن أن نقرأ في (بيان النضال الاحتفالي) والذي هو أحد البيانات المؤسسة لكتاب
( البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة) والذي جاء فيه ما يلي ( إن الأصل في الاحتفال أنه جزاء، وذلك لأن من حق الأحياء ومن حق المجتهدين ومن حق الناجحين ومن حق العاملين أن يحتفلوا، أما الأموات، فلا تجوز إلا الرحمة على أرواحهم، وأما الغائبون والنائمون والهاربون والمختبئون والانهزاميون والقاعدون، بأي شيء يحتفلون؟ ولعل هذا ما يبرر أن دعاة الكسل العقلي هم أول من حارب التنظير الاحتفالي، ولقد كانوا أول من خاصم هذه الاحتفالية المؤسسة والمجددة، وأول من خاصم فيها جهادها واجتهادها، ومن الطبيعي أن يخاصم العدميون الوجود وأهله، وأن يحارب الظلاميون النور وأحبابه، وان يتضايق الكسالى من المجتهدين) وهذا الاحتفالي المحتفل، وكما يراه د محمد الوادي هو (مقاوم شرس وقلم عز نظيره، وإيمان راسخ بالاحتفالية وفلسفتها وفكرها. في هذا الإيمان والإصرار والتحدي قوة الاحتفالية وحياتها التي تتجدد باستمرار. أن يحللوا الاحتفالية أو يحرمونها لا فرق، فهي لا تحتاج الى مفتين وبائعي صكوك الغفران. لقد احتاروا في أمر الاحتفالية وفي عنادها، وكلما ازداد عدد أعدائها ازدادت قوة وانتشارا) وعن هذه الاحتفالية المشاغبة والمشاكسة يقول د. يوسف الريحاني ( مسار الاحتفالية هو بمثابة ربوة مشرعة على الزمن ؛ولن يمكننا ابدا الفكاك من فخاخها .. مهما بدا لنا أن المسرح العربي اليوم هو في تطور وتحول. لماذا؟ لأن أسئلة الاحتفالية كانت صناعة انعطافة تاريخية حدثت إثر اصطدامنا بالتحديث فكانت جسرا يربط الحلقة المفرغة لصور الانحطاط بتاريخ العلم الحديث .. رضوان احدادو او عبد الكريم برشيد، محمد الكغاط وحسن المنيعي، عبد الله شقرون او احمد الطيب العلج او العميد الرائع الطيب الصديقين… القاسم المشترك بينهم انهم عاشوا اللحظة التاريخية التي التبس فيها الماضي بالحاضر. الذات بالآخر، مما جعل منهم صيرورات تعمل فينا في صمت، وتحفر في أجسادنا دمنا وآثارا يصعب على رياح الزمن ان تمحوها) ولقد افترض البعض ان هذه الاحتفالية يمكن ان تموت بدون مقدمات وبدون مبررات، وأن تنتهي من غير أن تبدأ، وأن تموت من غير أن تحيا حياتها كاملة وغير منقوصة، وماذا يقول د يوسف الريحاني عن موت هذه الاحتفالية المزعوم؟
يقول : (هناك فرق بين الموت، بشكل طبيعي وببن القتل، وذلك باعتباره فعلا وحشيا ضد الطبيعة وضد الإنسانية وضد المدنية وضد الحق في الوجود والحق في الحياة، وهذا ما يمكن أن نجده في مسرحية هملت لشكسبير، حيث الأب المقتول يعود وهو في هيئة شبح، ونفس الصورة نجدها في مسرحية اوديب ملكا لسوفكليس، حيث شبح الأب الملك المقتول يعود بعد موته، ولكن هذه المرة، على هيئة طاعون قاتل ومدمر وهذا ما التفت اليه د. يوسف الريحاني عندما قال( عندما نؤبن شيئا، ونعلن موته، فنحن بذلك نكون قد رسخناه كأصل ناظم، ثم جعلنا من أنفسنا نحن الذين قتلناه مجرد حركة دائرية حول رفاته؛ بحيث نكرر في كل دورة أسئلة هذا الذي قتلناه. الموت هو الفعل الحقيقي، ولا يموت سوى العظماء، اما الحياة فمجرد زيف ورد الفعل ليس إلا. مجرد مقاومة يائسة ولا جدوى منا لفكرة الموت)
ان من نعلن موته، بشكل اعتباطي وتعسفي، لا نقتله بالتأكيد، وبالعكس. فإننا نقر، من حيث ندري او لا ندري، بانه كان حيا وموجودا بيننا، وبانه لحد الآن مازال حيا في ضمائرنا وفي لغتنا، وان جوده مازال مستمرا ومتواصلا في عقولنا وفي مخيلتنا وفي معجمنا وفي اسئلتنا ان ما يجمع الاحتفاليين، فيما ببنهم، هي اشياء كثيرة بلا شك، من بينها الثقة في النفس، والإيمان بالآتي الممكن، وهو غناهم الداخلي، وهو شحنة الطاقة الإيجابية الموجودة في نفوسهم وعقولهم وارواحهم، وهو حسهم النقدي، وهو واقعيتهم الشعرية، وهو رؤيتهم الإنسانية الشاملة، وهو مخالفتهم للمتغيرات الموسمية العابرة، وهو الثبات على الثوابت الفكرية والجمالية والاخلاقية الدائمة والمتجددة، وهو انحيازهم إلى الإنسان، وذلك في مقابل الانحياز إلى القبيلة والعشيرة والى الحزب والى الحلف، وهو تأكيدهم على الحرية في مقابل الجبرية، وتأكيدهم على الإبداع في مقابل الاتباع، وعلى الإنسان في مقابل الوحش، وعلى المدينة في مقابل الغاب، وعلى الكونية في مقابل الوطنية والقومية، وعلى الحقيقة في مقابل الواقع، وعلى فعل التكلم والكتابة بدل فعل التفرج السلبي على الصور المتحركة وما يميزها ايضا، هو انهم كائنات انسانية ومدنية وديمقراطية حرة ومستقلة، وهم أجساد وأرواح وعقول ونفوس تؤمن بالحوار وبالجدل العلمي وبالاختلاف الفكري، وتؤمن ايضا بالحق في الاختلاف في كل مجالات الحياة اليومية، وهذا الاحتفالي فارس دنكشوتي، وهو كائن سيزيفي يسعى باتجاه الأعلى والأسمى والأبعد والاصدق والأجمل والأنبل والأكمل
الأستاذ عبد الكريم برشيد