عين الكاتب ترصد ما لا يرصده غيره

عين الكاتب ترصد ما لا يرصده غيره
عبد العالي أناني

نصوص بخلفيات مثيرة

    تمثل المجموعة القصصية “ حبر على الهامش ” للكاتب المغربي “ مبارك حسني“، نموذجا مميزا للقصة القصيرة. اعتمد في تشكيلها على صور يلتقطها من اليومي و يسلط الضوء على خلفيتها لما تحتفظ به من إشارات وإيحاءات ودلالات تشير إلى ما يرد تمريره للقارئ المفترض. تضم المجموعة خمسة عشر نصا، صدرت عن مطبعة “إديسيون بلوس” 2017 

                                  مبارك حسني

     صورة الغلاف عبارة عن لوحة مرسومة باللونين الأبيض والأسود. الأبيض يحتل النصف العلوي والأسود النصف السفلي، يقول ليس هناك إلا حقيقتين لا غير، إما أبيض أو أسود. إما الصحيح أو الخطأ. لكن يأتي اللون الأحمر ويفصل بينهما بطرقة عنيفة بخطوط متموجة ، تنفجر في الوسط كاسرة التناغم بين اللونين أو الحقيقتين، لتشير إلى الداء الكامن والرابض بالعمق. على هذا المنوال يتدفق المتخيل القصصي المحكي داخل المنجز الأدبي. القصص التي تؤثث الفضاء السردي بنيت وهندست على مستويين. المستوى المباشر، يحكي أحداث ويرسم أماكن داخل إطار زمني محدد، بذلك تبنى القصة/ القصص بكل مكوناتها القابلة للحكي. فتبدو كبنايات مشيدة على دعائم صلبة، تنبع من تحت التراب الذي يخفي الأساس الذي يجعل منها ثابتة. ذلك الأساس أو المنطلق هو المعنى العميق الذي من أجله هندست القصص. هذا النوع من التصور والبناء يزكيه العنوان :” حبر على الهامش “. القصص كتبت انطلاقا من الهامش. يقف الحبر على الهامش حتى يتسنى له النظر بوضوح فيندلق على البياض ليرسم صورا وأشكالا كما فهمها لا كما تبدو عليه، حقيقة زئبقية تخدع العين بظاهرها المزركش الجميل، بينما عمقها ضحل مستنقع يفوح نتانة

     ينظر الكاتب ” مبارك حسني ” إلى الأشياء بتفكير مستنير عميق قبل أن يتم ربط الواقع بوقائع متعلقة بالشيء المعبر عنه، أو لها علاقة بشبيه له ترغم على التفكير العميق. فتكون ملاحظة الواقع المراد التعبير عنه مدمجة بالتفكير الذي يتحول إلى كتابة، إلى قصة تحول الواقع إلى فن مرتبط بما حوله أي بالواقع المعيش

   يجلو إذن العمق علاقة الكاتب بما حوله، على اعتبار أن عين الكاتب ترصد ما لا يرصده غيره، وينتبه إلى تفاصيل الصغيرة التي يمكنها أن تحدث الفرق، أو تعطي تفسرا لظواهر تبدوا كتداعيات عادية أو متوقعة، دون فهم أسباب تدنيها أو انهيارها، و التي معرفتها لا تقتصر على النظر إلى الأجزاء الواضحة لأن هذه الأسباب سيبقى التفكير محدوداً. لهذا تعامل مع القصة كصورة / صور يلتقطها في غفلة من أصحابها، قد تبدو للبعض جذابة و لآخرين عادية التقطت للذكرى فقط. لكن، القاص التقطها وفق الخلفية التي تميزها عن غيرها والتي تحمل المفتاح الذي يلج عمقها

     “حكاية بيضاوية “. أو يمكن اعتبارها صورة بيضاوية. صورة لفتاة انطلقت من أحد الأحياء الراقية لمدينة الدار البيضاء إلى حي آخر فقير مهمل على أطراف المدينة. ترتاب من أشخاص استقلوا معها نفس الحافلة، يرتدون ألبسة رخيصة رميت على أجسامهم كيفما اتفق، يتجهون إلى حي ناء لا يرتاده إلا ساكنوه أمثالهم، وما يحكى عنه لا يشجع على زيارته فتاة ترعرعت بعمارة راقية وسط المدينة لولا عتاب خالتها. في الطريق تتعرض للسرقة من طرف ابن خالتها الذي لم يسبق له أن رآها. هنا صورة مركبة قد تبدو عادية، فأطراف المدن عادة ما تضم أحياء الصفيح يقطنها مهمشون، أو من أرغمتهم الهجرة على ذلك. في المقابل عين القاص رصدت أشياء أخرى مسكوت عنها، مغتربون دخل أوطانهم أرغموا على الانحراف. الشابة التي تعرضت للسرقة من طرف قريبها الذي حوله الشارع إلى مجرم، عكسها هي التي تربت في حي راق حافظ على أخلاقها واتجه سلوكها نحو الأفضل. هنا تتماثل طبيعة العدوى الإجبارية التي يكون ضحيتها شباب وجدوا أنفسهم مرغمين على العيش داخل أجواء تنحت سلوكهم وأخلاقهم بطبيعة المكان الذي ينتمون إليه. قصة ” حكاية بيضاوية ” هي صورة مصغرة احتجزت داخل إطار محدد يمكن اعتباره المدينة الغول، مدينة الدار البيضاء

    هذا الإطار الافتراضي لمدينة كبيرة اختزل المكان كعنصر من عناصر القصة الأساسية، لتبدو الحكاية أو المتخيل القصصي في مدلوله  بمظهر مماثل للحقيقة، أو لواقع اليومي الذي يعيد نفسه دون ملل أو كلل بمدينة لا تقف ولا تنتظر

   على هذا الشكل  تنساب باقي القصص متدفقة، بانهمار يأخذ القارئ في رحلات تنطلق من الهامش إلى الداخل ، ومن الداخل تعود إلى الهامش. نستمع خلالها صريف حبر يبحر في جميع الاتجاهات، سعيا وراء الكشف عن المستور.  بدافع ينبعث من الدواخل، انطلق بعد أن تعرف على أماكن الخلل ورصد مواطن الضعف، عبر تأملات وأبحاث مكتفة. فانساب كل شيء بشكل طبيعي من تلقاء نفسه، كتيار جارف يهدر ويحكي أحداثا ومواقف وحالات إنسانية، عبر سرد اليومي الذي قد يبدو بدون قيمة تذكر. يهدف بذلك القاص لمس المفارقات التي تكرس الهوة بين الشرائح الاجتماعية و تجلي البناء الهرمي لمجتمع يقوم على الفوارق الطبقية، وانغماس أفراده في حياة تسلبهم إرادتهم وتجعلهم لا يحلمون بأكثر من فرصة عيش

    تتكرر الصور التي يلتقطها القاص وإن اختلفت مواضيعها، ففي قصة ” هوس برائحة الليل ” يعالج فوبيا الحشرات، فالخوف من الحشرات بطبيعة الحال غير مرغوب فيه. القاص تمكن من توضيح هذا المرض، أو هذا النوع من الفوبيا أو الرهاب، وشرح أعراضه مثل الهلع الشديد، والصراخ، وكذلك الإحراج الذي يتسبب من جراء ذلك. يقول في الصفحة : 54″ كل ليلة تعلن الصراصير الحرب علي، الأمر الذي يؤجج أرقي المزمن، فيحتلني رعب لا يطاق عندما أتصور أحدها يرتع فوق وجهي بأطرافه المشوكة وعينيه المدورتين القاتمتين”.  هنا تبدو الصورة عادية قصة تتكرر، لكن الجملة الأخيرة في القصة : ” كم حاجة قضيتاها بتركها”. ص58 ، جملة تجبر على التساؤل: لماذا يحتمل العيش بمكان يعج بالصراصير والحشرات رغم ما تسببه له من رهاب ؟  قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب تحديد أولا المكان الذي يعيش فيه منذ ثلاث سنوات: مرآب في طرف المدينة، عبارة عن براكة تضاء بشمعة، تضم حصيرة وأكياس مكوم بالركن، و إزار يلتحفه في الفراش. رائحة البنزين تفوح منه وتلازمه طول الوقت. هذه الأوصاف هي الصورة العميقة للقصة، تجلي الفقر، وتميط اللثام عن سبب احتماله للحشرات التي يهاب الاقتراب منها فيتعايش معها مكرها من أجل الاستمرار في العيش لا غير

      أما في قصة ” غواية الرهان ” جلس شاعر بمقهى مركز المدينة القريبة من سوق البْحيرة حيث  تباع الكتب المستعملة أو القديمة التي يأكلها الزمن ببطء،  وجال بنظره بأرجاء الفضاء

” المقهى محموم وضاج كالعادة قبل المراهنة. وليس كل الضجيج مزعجا. بشر وبقايا بشر جالسين إلى الطاولات ومنحنون على أوراق برامج السباق، في غياب يتجاهل العلم. يفكرون، يحسبون، يخمنون، ثم يسطرون أرقاما وأرقاما، في أوراق جانبية، على هامش جريدة، على هامش منديل ورقي.وخيول مطهمة راقية لامعة الشعر تعدو في أدهانهم، تسابق ريح الهوى نحو سراب الملايين المرتقبة”.  الصفة: 59. مثلهم أشار إلى النادل فأحضر له مشروب وبرنامج رهان. قلب الورقة حيث البياض، بعد تفكير عميق يخطط بعض السطور قبل أن يذهب إلى المرحاض ليستريح. النادل لم يجد في الورقة أرقام حسبها غير مهمة ورماها.  هنا أيضا الصورة السطحية واضحة، التقطت أحداث يوم بمقهى للرهان. حين تدرك أن الورقة التي ترقد في سلة المهملات قصيدة شعرية، تفهم ما يراد تمريره بشكل أو بآخر. يظهر المغزى الحقيقي للقصة، أي أن الثقافة بكل أنواعها في حواضرنا مكانها الحقيقي سلة المهملات

    تأتي قصة “حب في بحر الليل”  وهي ثرثرة على شاطئ البحر لبطل القصة رفقة مومس. كلام اختلطت فيه الأحاسيس والذاكرة. عالج الكاتب فيها بطرقة ذكية مجموعة من المشاكل، عرضها كصور قديمة يستحضرها من الماضي، طبعته قسوتها ويتذكرها بمرارة. يظهر في خلفية صورها حقد دفين. تحدث عن زمن الطفولة وعن الكره الذي يكبر مع الطبقات المحرومة من أبسط الأشياء. شكل   ( الكنيش ) أو الكلب الصغير الذي سرق من حي راق مثل الترف والمتعة التي حرم منها هو وأقرانه الذين أشبعوا الكلب رفسا وضربا، فكانوا ينتقمون من الطبقة الرقية من خلال تعذيبه. كما تشير القصة إلى أسباب انحراف البنات كانعدام المراقبة والتربية والعنف والاغتصاب الذي يرغم العديد منهن على احتراف الدعارة للانتقام من المجتمع ومن أنفسهن ببيع أجسادهن

    تعامل القاص مع النصوص كصورة / صور تلتقط بشكل يومي نمطي. ومن أجل فهمها يجب تحرير الصور من دلالتها السطحية، والاشتغال على ما تعكسه لإثارة الأسئلة الكامنة داخل خلفيتها، حتى يمكن قراءتها من زوايا مختلفة تكسر أفق الانتظار، وتمكن من فهم المعنى الباطني الذي يستدعي تشغيل جميع الحواس لفهمه

    اعتمد من أجل ذلك في بنائه للمتخيل القصصي على صور تشكل بلغة بسيطة سلسلة تصل بسهولة للقارئ، وبسرد متدفق يتسع لوحدات دلالية متعددة و بنثر يمتلك طاقات إبداعية تصويرية كبيرة. وهو أمر يتناسب مع طبيعة المواضيع التي تناولها باحترافية كبيرة جعلت من نصوص المنجز الأدبي ” حبر على الهامش” تدق بلجوج لتلج

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com