“في القنطرة جلجلة”

“في القنطرة جلجلة”
صورة الغلاف للتشكيلية الازربيدجانية جميلة هاشموفا

رواية “في القنطرة جلجلة”: للكاتب حسن حامي (الجزء الثاني)

2

كان منتصر يعلم جيدا أن انتظار ستكون غير راضية على الطريقة التي أدار بها لقاءه مع مستتر. ولهذا السبب، حاول المناورة وكسب الوقت لشراء ودها، وهو الذي يعرفها حق المعرفة منذ زمن طويل ويدين لها بالكثير. لم يكن غبيا، ولكنه كان متأكدا من شيء واحد، ألا وهو نباهة وخبث انتظار فيما يتعلق بالعلاقة مع الرجال، أهلا وعشيرة وفضولين. تزوجت مرتين قبل أن تقترن سريا بمستتر وبشروط تفضيلية إذا جاز هذا التعبير. لم تكن حياة انتظار بالسهولة التي يمكن أن يتصورها من يراها تنعم في بحبوحة من عيش تسيل اللعاب. رغم أنها متعلمة وخريجة جامعة، فإنها أرغمت على الزواج مبكرا من ابن عمها، محمد، من أعيان تافراوت التی تنحدر منها، وذلك بدافع الحفاظ على سلالة العائلة التي اشتهرت بالتجارة مع الجنوب وبما کان لها من باع فی ازدهار الطرق الصوفية بين المغرب وعمقه الإفريقي. أرغمت على الزواج، لأن عمها كان وصيا عليها بعد أن فقدت والدها وهي صغيرة وتركها وحيدة إلا من أخ تعلق بها، وهي لم ترشد بعد، وكان سببا أساسيا في أحداث غريبة حصلت لها فيما بعد. كما أن عمها ورث حق التصرف في الأرض السلالية التي كان أبوها يستغلها. لم تكن سعيدة لسببين: أولا، لأنها كانت تحب شخصا آخر ينتمي إلى نفس القبيلة توطدت علاقتها به حين كانت طالبة في جامعة ابن زهر في مدينة أݣادير؛ ثانيا، لأنها كانت قد حصلت على فرصة ذهبية للعمل في إحدى الشركات المتميزة في نفس المدينة، فور حصولها على شهادة عليا في المعلوميات. ورغم رضوخها للأمر الواقع، لم تستطع ان تنجب. أصبحت حديث المجتمع، رغم أن الطبيب أكد أن زوجها هو الذي يعاني من العقم. ولم يكن واردا بالنسبة لهذا الأخير إعلان الحقيقة. وبعد جدل كبير وسط العائلة، تم تطليقها وإبعادها عن المنطقة، مقابل دفع مال كثير لها، رغم أن ذلك لم يكن من تقاليد القبيلة، ولا كانت هي في حاجة إلى ذلك
تم الاتفاق على أن تعيش انتظار عند أحد أفراد عائلة زوجها محمد فی نواحي مدينة الدار البيضاء ريثما تهدأ العاصفة. مرت الأمور على ما يرام فی البداية. التزم الجميع بما اتفق عليه: عدم ظهور انتظار في الأماكن العامة، إلا نادرا، وعدم قبول دعوات من خارج العائلة أو القبيلة بتاتا. ولكن انتظار كانت جميلة جدا وطموحة وحزينة فی نفس الوقت. ولم يكن من المعقول أن تدفن نفسها في حزمة من العادات تحرمها من حقها في الحياة. مضت سنتان على استقرارها في المنطقة، ولم تتغير الأحوال بالنسبة لها. وبعد صراع طويل مع الجميع، أقنعت طليقها بأنها سوف تبحث عن فرصة للعمل، وهي المتعلمة، والمدافعة عن حق المرأة في كل شيء أسوة بالرجل. وما كان لهذا الأخير من مناص سوى الانصياع للأمر، ولا سيما أن ضواحي المدينة عرفت طفرة اقتصادية هامة مع وصول استثمارات أجنبية مهمة في قطاعات متعددة. وبناء على توصيات من هنا ومن هناك، حصلت انتظار على منصب جيد في شركة أجنبية متخصصة في صنع قطع غيار الطائرات. وفي وقت وجيز، تمكنت من وضع لمستها على مهمتها، مما أهلها لأن تكون قريبة من الأطر العليا في الشركة. وفي نفس الوقت، أخذت علما بمشاكل الشركة، ولا سيما فيما يتعلق بحق ملكية بعض الأراضي، علما أن الشركة كانت تريد توسيع استثمارها في الجوار بعد نجاح الاستثمار الأول. وكانت أكبر مشكلة تواجها، هي الأراضي السلالية. أدلت انتظار بدلوها في محاولة حل المشكل عن طريق عائلة زوجها السابق، ثم بطرقها الخاصة. كان جمالها ولباقتها تساعدانها على ذلك. استمرت في محاولاتها إلى أن التقت بمضياف، شاب لم تستطع مقاومة ميوله اليها. ولم يستمر الأمر أطول من اللازم وقررا الزواج. كان الشاب ينتمي إلى أسرة ذات صيت، متعلم وغني جدا. ولکن أهم من ذلك، أنه تمكن من الحصول على إدارة أراضي سلالية تواجدت في محيط أراضي شاسعة فی ملكية العائلة. لم تكن انتظار سعيدة، وبدا جليا للجميع أنها تزوجت فقط للحفاظ على سمعتها وللتخلص من وصاية محمد طليقها. حاول مضياف أن يملأ الفراغ العاطفي بينهما؛ لم يتمكن. وتأكد له أنها ما تزال تحب شخصا آخر، وأن هذا الشخص لم يكن، قطعا، زوجها الأول
استيقظ متروي باكرا، ذلك اليوم. لم يكن يشعر بالراحة. لم يتذكر شيئا من الليلة الفارطة سوى كونه عاش كابوسا فظيعا. أطل برأسه خارج العربة، ليجد بعضا من القش مرميا بجنباتها. لم يكن ذلك بفعل الرياح، التي لم تكن قوية الليلة السابقة؛ ولم يسمع حركة ما أثناء الليل، كما أن بعض المتشردين، الذين اعتادوا أن يناموا في الجوار، اختفوا. لم يتذكر، أيضا، أنه سمع آذان الفجر، رغم أن مساجد عديدة توجد في المنطقة. صحيح أن علاقته بالدين أصبحت سطحية جدا وقد قرأ كثيرا لفلاسفة زعموا أن “الوحي فعل إلهي خالص، وأن هناك قوة خارقة تدير الكون المرئي وغير المرئي، وأن الدين من صنع البشر.” كما أنه كان يرفض أن يلخص النقاش حول تطور الأمم والشعوب في صراع بين الدين والعلمانية، والإلحاد، والوثنية، وغيرها. الخيار في حضرة الروح، مسيرة شخصية ومسلسل باطني، هكذا كان يعتقد. وربما كان هذا الاعتقاد سببا في المآسي التي مر بها ــ ويظهر أنها لم تنته بعد
وسؤال وجيه لم يستطع أن يتخلص منه أبدا: هل يختار الإنسان وضعه والحالة التي يعيشها عن طواعية؟ ما هو مقدار الحرية من عدمها في اختيارات الإنسان؟  لا بد لكل حادث من سبب! صحيح، ولكن ما قيمة ذلك، عندما تكون النتيجة كارثة عظمى سواء وعى أو لم يع بها؟  التفلسف حق مقدس وللمجانين فيه عبق الأسبقية! ولو لم يكن للجنون قدسية، ما كان للعقل أية قدسية أيضا. أما حكاية الإيمان وغير الإيمان، كل من لغي في حضرة القوم، لغي لنفسه ولا حرج على الجماعة في أن تطرده. الأغلبية دائما على صواب، لأنها تشرع الباطل حقا، وتعلم أنها ليست على حق. ويظل الباطل باطلا إلى أن يمتص الزمن آخر قطرة من عيونه  
انتفض متروي من حيرته. لم يجد، كما هي العادة، الكلبين والقطتين والجرذان الثلاث في انتظاره ليقوم بقراءته اليومية. كل هذا لا يبشر بخير. الحيوانات تتمتع بحاسة مرهفة يصعب على البشر رصدها، ولكنها تنبئ بأشياء ستحدث لا محالة. قرأ سابقا عن حكاية كلبة كانت لها قدرة على كشف سرطان الدم بفضل حاسة الشم فقط؛ وقد اكتُشفت هذه القدرة عرضا، حين أنقذت حياة صاحبتها المسنة، عندما أكثرت من النباح، كلما اقتربت منها وأخذت تشم رجليها على غير عادتها. كما تذكر قصة فريق من علماء أنثروبولوجيا أوروبيين أوشكوا على الغرق في أعالي النيل لولا سرعة بديهة فلاح من الصعيد. لحسن حظهم أنه لم يكترث لسخريتهم منه، عندما نصحهم بعدم المخاطرة بمركبهم في النيل، لأن مياهه سترتفع بعد حين. سألوه عما يجعله يظن ذلك، فأرشدهم إلى أفواج من النمل، وهي تغادر شاطئ النيل بسرعة متوجهة إلى أعماق اليابسة. وأضاف، لكي يقنعهم، أن النمل له علم بأسرار النيل أكثر من أي حشرة أو حيوان آخر في هذه الربوع. كان الفلاح الصعيدي ذكيا، وفطن إلى أن هؤلاء الأشخاص يستصغرونه، وسوف تصيبهم مصيبة إن لم يتحرك. لم ينتظر طويلا، أخبر العمدة على الفور، الذي استنفر بدوره السلطات، التي استعملت مروحية وتمكنت من إنقاذ حياة العلماء الأوروبيين في آخر لحظة، وهم على وشك الغرق بعد أن انقلب بهم المركب، وفقدوا معداتهم، ومذكراتهم، ولكنهم كانوا سعداء بالنجاة. بحثوا عن الفلاح الصعيدي ليشكروه؛ كان قد اختفى
هل اختفاء القطتين والكلبين والجرذان الثلاث نذير شؤم؟ وهل يستأنس بحالة شم كلبة السيدة خبيرة سرطان الدم أم بغريزة نمل النيل؟ حمل فأسه وتوجه إلى أحد أركان القنطرة وبدأ يحفر. لكنه توقف وجلس يتأمل المكان. منذ مجيئه، تغيرت أشياء كثيرة. شقوق كبيرة في القنطرة أصلحت، شجيرات وأزهار بزغت، شعور دافئ بأن السكان لا يناصبونه العداء. من هو أسعد منه في هذا المكان إذن؟
 “أحيانا يكفي أن تنام على الجانب الذي يسبب لك الألم أكثر، لتتأكد أن الألم ليس سوى وصلة من وصلات الحياة ستتكرر حتى ولو غيرت النوم على الجانب الأيسر بالجانب الأيمن أو العكس. العادة تقتل الحياة، ليس فقط لأنها روتين يعمق الرتابة ويقتلع الإبداع، ولكن، أيضا، لأنها تخلق نفسا نمطيا لا تنفع معه أية حاسة، سادسة كانت أوسابعة أو مئة. وهل الجزم بفصاحة الحواس غريزة أم دين لا بد من اعتناقه مهما كلف الفعل من ثمن؟ من يولد الاختيار؟ الغريزة أم الواقع؟ وما الفرق بين الغريزة والواقع عندما تختلط الإشارات ويتزاحم عابروا السبيل؟ كم أحب هذه العبارة؟ عابروا السبيل! الأرض؟ من يملكها، لا يملكها. الأرض كانت خلاء. من استوطنها أولا، ملكها مجازا قبل أن يفقدها واقعا. أوراق الملكية ضرب من الشطط. كم أحب هذه القنطرة! لا أحد طلب مني أوراق الملكية، ولم ينازعني أحد احتلالي لرقعة منها بتاتا. هل لأنني أعيش في عربة متحركة؟ هل لأن منظري لا يوحي بالخطر؟ هل لأن الناس سئموا من محاولة اكتشاف ما يدور هنا؟ لو عرفوا حقيقة وتاريخ هذه القنطرة، لكان لهم رأي آخر. لكنهم، قطعا، لا يعرفون أكثر مما خول لهم أن يعرفوا. أنا من سيحول رتابة حياتهم إلى جحيم. أنا من سيسطر الخطوط مسارا. أنا من سيفتش في الأعماق. كيف لمالك أرض لا يملكها أصلا أن يتظاهر بالقوة، وضعفه في رمالها المتحركة وفي مياهها الراكدة ظاهر للعيان؟ كيف لمن يسطو على حفنة تراب أن يدعي أن نباتها من فصيلته؟ هل يمكنه أن يقر بأبوته للطفيليات والحشرات والمعادن التي تشكل فسيفساء حفنة التراب التي يدعي ملكيتها؟”
 توقف عن الكتابة وخرج ليتأمل اللافتات التي أثثت محيط مكتبته منذ مدة. ما قيمتها الآن؟ ابتسم حين قرأ تلك التي تقول “إن قمة الذكاء أن تتظاهر بالغباء!” ليكن، ولكن ما هي قمة الغباء أن يتظاهر إنسان بالذكاء؟ نفخ في يديه وكأنه يستعد إلى سجال جديد مع كلماته. وبينما كان يهم بإكمال تدويناته، سقطت المفكرة من يده. جمعها ليجدها مفتوحة على صفحة في الوسط مكتوبة بحبر ليس هو الحبر الذي يكتب به عادة. كان أخضر اللون. لا يتذكر أن لديه قلما بمداد أخضر. أصيب بشبه شلل؛ الخط خطه والكلمات لم تكن غريبة عليه. كيف ومتى حصل هذا؟ هل أصيب بالجنون؟ ما هذا التيه الذي يستبد به الآن؟ لم ينتظر كثيرا ليتفحص السطور. قرأ، وهو يشعر أن ما يشبه آلة حادة تمزق أمعاءه:
 ” لا بد أن أتذكر! من يزورني، لا بد أن يُعرف بنفسه! نفسي في الليل رائحة كريهة لا تريد أن تزول! من أجبرني على خلع ملابسي، لا يحترم نفسه. كيف يستلذ إنسان عاقل أن يرى غيره عاريا كدودة؟ وما العبرة في أن تلبس أغلى قماش إن كنت عاريا شكلا وموضوعا؟ يجب أن أتذكر! لا بد أن أتذكر! من يزورني، لا بد له أن يتذكر، أيضا، لمَ يزورني وأنا معتزل لا ناصية لي، أتقلد هبوب الريح لأعلن عن وجودي، ولا أحد يسمعني سوى هسهسات العشب المترامي على حرمتي!”
توقف عن القراءة، فجأة، لأن في ركن من الصفحة، استوت قطرة دم واضحة، وكأنها وجدت لحظتها. تلقائيا تفحص يديه وجبهته ووجنتيه. كم كان فزعه كبيرا، عندما اكتشف آثار دماء في أصبعه الوسطى، هذه الأصبع التي لم تترك له مكانا ليتنفس الهواء فيه. كيف لم ينتبه واللزقة ما زالت في مكانها؟
:تابع القراءة
“من سيدفنني إذا مت غدا؟ وهل إذا تعفنت أعضائي ولم ينتبه أحد إلى موتي، ستكون نهاية العالم؟ وهل ستسعفني الحشرات حولي وتحترم ميثاق العشرة بيننا وتعلن علي الحداد؟ الكابوس، الذي يزورني كل ليلة، يقسطرني وكأنني معدن نفيس يخشى أن تمتد إليه يد سارق. كيف لا أذكر تفاصيله وأنا في كل وعيي؟ وهل الكوابيس إلا لحظة ذعر لإذكاد جينة الشعور بالمسؤولية! وماهي مسؤوليتي أنا؟ هل أنا هارب؟ هل أنا تائب؟ هل أنا رجعُ أثير تجمد في حصن أجوف؟ هل أنا بصيرتي التي فقدتها زمان، عندما تدحرجت مع كوم الغبار لأطعم خنافيس أصابها كسل الاتكال على غيرها؟ هل أنا شبح تجسد في شقوق القنطرة ليهدم ما تبقى فيها من تقوى؟ سوف أقتلع وسطاي ذات يوم، بعد أن يكون الدم قد نفذ من شراييني، وسأكسر معصمي لأعيد للصداع في أحشائي رنينه المزعج. لا لن تكون هذه القنطرة اللعينة مثواي الأخير، وسوف….”
 لم تكتمل الجملة. لم يتمالك متروي نفسه وأجهش بالبكاء. تأمل أصبعه الوسطى من جديد. ما خطبه؟ لم يحتفظ باللزقة؟ كان يمكن للتعفن أن يجف من زمان. تجهم وجهه. رباه! أظافر أصابعه طالت بعض الشيء. كيف نسي أن يقلمها؟ ومنذ متى؟ أشياء غريبة تحصل حوله. كيف فقد السيطرة على الوضع؟ وعن أي وضع يتحدث؟ قمة التيهان! قمة الغباء! كم هي صحيحة مقولات اللافتات التي يعلقها على المكتبة! هذه الكتب! هذا الكوخ المعلق بين البر والبحر وليس له من أساس! ما العمل؟ هل سيبدأ بتقليم أظافره أم بتنظيف وسطاه؟ هل سيمزق صفحة المفكرة التي لا يتذكر أنه كتبها فعلا أم أن عليه أن يفسر “سوف” التي تسافر في المستقبل على أجنحة المجهول؟ هل كتب الصفحة وهو نائم؟ لا! قام فجأة ودخل إلى الكوخ يبحث عن القلم الشبح. لم يبحث كثيرا، وجد القلم، أخضر اللون شكلا ومدادا. تفحصه. لم يسبق له أن رآه ضمن جملة الأقلام التي كان يستعملها. كما أنه لا يحب كثيرا اللون الأخضر، رغم غرامه الكبير بالطبيعة. تسرب الشك إلى نفسه هذه المرة ـــ وبقوة. الكابوس حقيقة والدم دمه، وكل تمويه من جانبه، ليس سوى مضيعة للوقت. ما الذي يحدث له الآن؟ مرة أخرى، فحص أصبعه الوسطى؛ ومرة أخرى تقززت نفسه، لأنه أهمل تقليم أظافره. تناول مقص الأظافر، ولكنه لم يفعل شيئا. ما الفائدة من تقليم الأظافر إذا كانت ذاكرته لا تساعده على المسك بخيوط كابوسه ولا على تفسير حضور اللون الأخضر في صفحة لا يتذكر كيف ومتى كتبها؟
سؤال وجيه: ما الذي يمكن أن يحدث لو مات في القنطرة وحيدا قبل أن ينجز مهمته؟ هذه المهمة التي تقض مضجعه وتساهم في رفع دقات قلبه، كلما شحت فرص التقدم في الخطة المرسومة. وهناك شيء آخر أكثر أهمية ــ وقد أدركه مع مرور الوقت ــ وهو شغفه بالمكان وقد أدخل عليه تغييرات أصبحت الساكنة متعلقة بها، رغم اختلاف الرؤى وحدة الانتظارات
وتساءل في قرارة نفسه، وهو يتنفس كلمات المذكرة، هل من المنطق أو من غير المنطق أن تمشي في جنازة أحمق؟ الناس تمشي وراء جنازة رجل أو امرأة وكفى. هذا هو الجواب الذي يمكن لأي واحد أن يفيد به، ولكن الواقع شيء آخر. منذ أن نزل في القنطرة، توفي شخصان تعودا ارتيادها. الأول، لم يكن معروفا جدا. تمت معاينة الجسد الذي حمل في سيارة إسعاف ودفن من غير أن يحضر أحد لمراسیم الدفن وأغلق المحضر وتاه الملف في دهاليز النسيان. الثاني كان أكثر حظا، حيث عُلم أنه ينتمي الى أسرة معروفة. العيش في جنبات القنطرة كان اختياره لأسباب يعرفها هو وحده. وما أن انتشر الخبر حول وفاته، حتى أقام أهله الأرض وأقعدوها بحثا عن السبب، وهم يتقادفون التهم حول من أخفق منهم في تحمل مسؤوليته. ولكن السؤال الذي طرحه الفضول، هو لماذا تركوه يعيش مثل المتشرد؟ ولماذا يتفننون ا‌لآن في إظهار حب لم يكن موجودا أصلا؟ نظمت الجنازة وكأن شيئا لم يكن وحضر المعزون من كل حدب وصوب وانهمرت دموع وكثرت روايات واستحم البعض في بركة التقوى الافتراضية، ولكن لسان حال الأغلبية كان ينطق بغير ذلك: شجب ونقد وشتم ووصاية. ولكنهم لا يعرفون الحقيقة، بل إن أغلبهم لم يهتم أبداً. يقول مثل شعبی : “حتى مش ما يهرب من دار العرس”؛ من المفروض أيضا القول: “حتى دار ما تقبل واحد ينكد على ناسها صباح وعشية ويحملهم مسؤولية فشله”. صحيح أن حرية التعبير حق مقدس في حدود معقولة والإسهاب في الكلام في حضرة صم وبكم احتقار لهم ولعنة غياب البصيرة تصيب المتكلم قبل غیره، ولكن كم هو محزن أن مراسيم العزاء تحولت الى مآدب وفضاءات لعرض الأزياء والبحث عن الحب المفقود أو التباهي والتبجح بين من ينصبون أنفسهم دعاة! إنها سوق مفتوح للعرض والطلب، وكأن الموت لحظة مثلى لعقد الصفقات
فجأة، انتبه إلى أن أحد الجرذان عاد ليتسمر أمام الكوخ. وبعض لحظات، أتت قطة. كانت المسافة بعيدة بينهما. بدا وكأنهما لا يثقان في بعضهما البعض. دقائق بعد ذلك، حضر الباقون؛ اكتمل النصاب: قطتان وكلبان وثلاث جرذان. وبينما كان يستعد لقراءة شيء ما، لتلطيف الأجواء، التحقت بالركب قطة جديدة. تسللت بين الآخرين وطفقت تنظر إليه في شغف. لا بد أنه يحلم. هل لم ينته الكابوس بعد؟ ولكن عوض بدء القراءة، أخذ يقلم أظافره. انتظرت الحيوانات أن ينتهي، ولكنه تعمد أن يطيل العملية، وله في ذلك ذريعة: الأظافر كانت طويلة ومتسخة. لم تتحرك الحيوانات ولم ينقطع هو عن تنظيف الأظافر. من منهم سيستسلم الأول؟
 عاد إلى البكاء من جديد. لم تتحرك الحيوانات من مكانها، وكأنها تريد مواساته على طريقتها. الغريزة مرة أخرى! قرر إنهاء عملية تقليم الأظافر. تناول علبة جديدة ووضع فيها الأظافر وهم بدفنها، كما اعتاد على ذلك، في أحد الأركان، فإذا بسيارة شرطة تقف. هربت الحيوانات على الفور. نزل شخصان، رجل وامرأة في زي مدني من السيارة. لم يسبق له أن رآهما. كانت تبدو عليهما سحنة الجدية، ربما بسبب وجود المرأة. لم يكن المنظر ليثير الاستغراب، فمنذ مدة، أصبح العنصر النسوي يختار مهنة الشرطة بكافة أصنافها. وقد أثبثت التجربة أن النساء أكثر جدية في القيام بمهامهن ـــ ربما لدحض كل أشكال النمطية تجاه المرأة، رغم الإصلاحات التي أدخلتها مدونة الأسرة قبل ما يقارب عقدين من الزمن
(يتبع)

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com