قصة قصيرة للكاتبة إنجي شلتوت

احْتِلاَلٌ

هل يُعقل أن يمتلك بائعٌ للفلّ صفات خارجة عن المألوف مثل (عِمران)؟
فهو صاحبُ أغرب هيئة مرّت أمام عينيّ، حيث يمتلك أنفًا عريضًا أفطس، عينه اليمنى دائمًا ما تكون نصف مُغلقة، فتحتا أنفه ليستا نفس القدر من الاتّساع، وعندما يطبق فمه تصبح شفتاه مزمومتين من الجانبين، وتبدو ذقنه وكأنها زاوية قاربٍ مطاطيّ، يضع على رأسه عمامةً مُهترئة النّسيج حتى تَقيه حرقة الشّمس، تفِرّ منه الأعين عندما تبصره للوهلة الأولى، وتنفر منه الآذان بسبب إصابته بالتأتأة التي نجعله متلعثمًا في حديثه، كما أنَّ هيكل جسدهِ الضّئيل وشكل عموده الفقري لافت للأنظار، كونه يعاني متلازمة الجَنف في حالاتهِ المتأخرة.
وعلى الرغم من ملامح وجهه الدّميمة وتقاطيع جسده غير السويّة، والتي لا يملك من أمره شيئًا لتغييرها، فإن هذا الوجه إن حدث وأطلتَ النّظر إليه، ستكتشف مسحةً غير منطقيّة من السّماحة تغلفه، وخاصةً مع تلك الابتسامة التي تكشف عن أسنانٍ مزدحمة، تلتصق ببعضها بشكلٍ غير منتظم، وكأن كل سنّ من أسنانه على عدم وفاق مع السنّ الذي يجاوره.
لطالما صحوت مفزوعًا في أوقات الذروة على صوته المبحوح والمزعج للغاية وهو يغني:
” الفل يا فل، اشترِ من عمران وبكرة هيبقى فل “.
شرفة غرفتي تطلّ مباشرةً على هذا الشّارع الذي يقع بمنطقةٍ حيوية للغاية، حيث لا تخلو من الباعة الجائلين وسائقي (التكاتك)، فضلًا عن وجود إشارة مرور أمام البناية مباشرة، تقف عندها الحافلات والدّراجات النارية، وسيارات الموظفين أصحاب الطبقة الوسطى، والتي تملأ الأجواء بعوادمها، وتملأ رأسي أنا ضجيجًا.
كثيرًا ما أراقبه وأنا واقف بالشّرفة، فشقّتي الكائنة بالطّابق الأول تُتيح لي رؤية المارّين بالشّارع، وتطلعني عن أحداثه بسهولة، فأرى أصحاب السيّارات وهم يُغلقون زجاج النّوافذ في وجه (عِمران) ظنًا منهم أنه مجرّد شحاذ أو متطفّل أو حتى نشّال، ومنهم من يتجاهله تمامًا جراء هيئته التي لا تسرّ عدوًا ولا حبيبًا، فضلًا عن جِلبابه المتآكل الذي يصل بصعوبةٍ لأسفلِ ركبتيه، ورائحة عرقه المعتّق التي تكاد أن تصلَ لأنفي وأنا واقف بالشرفة.
اعتادت قلّة قليلة من سكّان المنطقة – بين الفينة والأخرى – أن تبتاع منه بعضًا من أكاليل الفلّ جبرًا لخاطره، وخاصةً فئة الأطفال الموجّهين من قِبل الأهل، ريثما يعطونهم درسًا في العَطاء وجبر الخاطر، وفي الوقت ذاته؛ فإن بعضًا من هؤلاء الأطفال لا يتوانون عن التنمّر به.
هي عادته أن يَهيم يوميًا على وجهه في هذه المنطقة الحيويّة، ليَبيع ما تيسر له من أكاليل الفلّ، ودائمًا ما يعلو صوته الرديء الجودة على صوت السيّارات المارقة.
تراه ينادي ويهلل، وبحركات جسده المراوغة؛ ينتهز مرور السيارات على ذلك المطبّ الاصطناعي حتى يطرق على نوافذها، والتي بدورها تُغلَق تلقائيًا عندما يمر جانبها، فما يلبث أن يثبَ بجسده المتحدّب حتى يلحق بالسيّارات المفتوحة النوافذ؛ ليلقي فيها باقةً من الفل، فيشعر السائق أن شراء تلك الباقة أصبح أمرًا واقعًا، فيُعطيه الثمن متأففًا.
بالتأكيد تتساءلون عن كينونتي، وقد تقولون من هذا الرّجل العاطل الذي يتابع كلّ رائحٍ وغادٍ وهو واقف بشرفة شقّته، ويستطرد في نومته حتى وقت الظهيرة (لا شغلة له ولا مَشغلة).
ألم تسمعوا عن (باهي برهان) ؟ نعم، إنه أنا المُطرِب الصّاعد، والذي يقف على أعتاب عالم الشهرة.
لُقبت (بالشاب ذو الحنجرة الذهبيّة) بعد أن حققتْ أول أغنياتي انتشارًا واسعًا.
وحيث وهبني اللّٰه هيئةً حسنةً وقوامًا سامقًا، حرصت على مقوّمات المظهر الأنيق الذي يليق بعالم الشهرة، وعلى أن أقتني ملابسي من محال تجارية عالمية، فالانطباع الأول له عامل مهم في طريق النّجاح الذي يطمح إليه الفنان، فينبغي أن يكون حضوري لافتًا وجذابًا، وخاصة في مجال عالم الشهرة والغناء.
حرصت على أن تكون حياتي أقرب إلى المثالية في كلّ شيء، أتناول طعامًا صحيًا، ألتزم بالرياضة يوميًا، وأحافظ على جلسات التأمّل واكتشاف الذات.
قد وسعت شهرة اسمي (باهي برهان) إلى حدٍ لم أتوقعه، وخاصةً على مستوى المنطقة التي أقطن بها، حيث يستمع الجيران إليَّ عندما أشدو بالشرفة كل حين، فيقفون بشرفاتهم مستمعين، يجارونني في الغناء بالصّفير والتّصفيق، حتى أن الكثير منهم يدعونني إلى احتفالاتهم الخاصّة، لأحيبها بالغناء الطربيّ الأصيل.
وفي المرات التي يسمعني بها عم (عِمران)، يهرول إلى أسفل شرفتي، ويقوم بالتّصفيق بهستيريا على غنائي، ويقوم بحركاتٍ عشوائيّة من المفترض أن تكون رقصًا، فيدور بجسدهِ المتحدّب فاردًا ذراعيه، ويَثب بأكاليل الفل التي يرتديها بساعديه، ويصيح بصوتهِ المزعج في حماسة: “اللّٰه يا فنان”.
كثيرًا ما يتغيّر شعوري تجاه عم (عمران)، فتارةً عندما تتلاقى أعيننا، أشعر وكأن خبث العالم قد اجتمعَ ليستقرّ بعينيه، وكثيرًا ما يشعر صدري بالضّيق إذا ما صادفته، وخاصةً عندما يبتسم ابتسامته العريضة والتي يجدها بعض الأطفال مرعبةً على نحوٍ ما، فأستقبل ابتسامته بتجاهلٍ تامّ، وفي أحيان كثيرة أحاول أن أتفادى مقابلته وألا أُعيره اهتمامًا، فكثيرًا ما ظننت أنه يجلب لي مقادير النّحس وسوء الحظ.
وتارات أخرى عندما أرمقه وأنا بالشرفة، يتحوّل إحساسي هذا إلى نقيضه، وربما يصل الأمر إلى أن ألوم نفسي بسبب نظرتي الدونيّة تجاهه، وأشعر بتأنيب الضّمير لأنني أتجاهله، وأقول في نفسي أنه مجرّد بائع جائل على باب اللّٰه يسعى لجلبِ قوت يومه، كما أنّه يملك بعض المميّزات التي يغفل عنها الناس، فهو رغم ظروفه المادية والخَلقية، يتمتّع بروحٍ مرحة، وطاقة إيجابية تجعله يَثب بخفةٍ هنا وهناك ليلحقَ بالمارّة، ويغنّي لهم ولأكاليل الفل.
وقد كانت نهاية الأسبوع، عندما عدت لشقتي في وقتٍ متاخرٍ من الليل، وما كدت أن أستسلمَ للنوم حتى فارقته بعنف؛ فمن الجليّ أن عم (عمران) قد قرّر أن يفسدَ ليلتي، وصمّم على أن يقف أسفل شرفتي، ويُهبهب بكلّ طاقته، ليبيع أكاليل الفل المملة خاصّته في ذلك الوقت المتأخر.
وعلى الرّغم من طبعي الهادئ، احتلني غضبٌ لا مثيل له، ففي مثل تلك المواقف المستفزّة، عادةً ما أتمالك نفسي وأمسك لساني، لعدّة
أسباب أهمها المحافظة على سلامي الدّاخلي، والحرص على جودة حنجرتي الذهبية، فلا أَجهد أحبالي الصّوتية إلا فيما قلّ ونَدر، ولكن في تلك اللّحظة، كان هناك صوتٌ بداخلي يحرّكني، يقول لي:
“لا بدّ لعِمران من أن (يتعلم الأدب)”
طالعته من الشرفة، وقمت بالصّياح كما لم أفعل في سابق عهدي:
” إيه يا عمران؟ مش عارف أنام من بشاعة صوتك، اسكت أحسن أنزل لك وأمسك في زمارة رقبتك… “
إن أكثر الأشياء رعبًا على الإطلاق، هو الأمر غير المتوقع حدوثه، الذي تنقلب حياتك بعده رأسًا على عقب، بلا مؤشرات سابقة ولا إنذار.
لا أعلم ماذا حدث؟ كلّما حاولت تذكّر تلك النّقطة الفاصلة في حياتي لا أجد لها طريقًا للتذكّر، فأنا أعيش الآن في كابوسٍ مستمرّ، فقد احتلّ (عمران) جسدي، وعَلِقت أنا في جسده، أضحى كل من فكري وشعوري وماضيّ داخل جسدٍ أخر… جسد (عمران) بائع الفل، وفي المقابل احتلّ كل من فكره وشعوره وماضيه جسدي أنا… جسد (باهي برهان).
أصبحتْ ذات (عمران) تنعم في جسدي أنا… الجسد السَليم الهيئة، الواسع الشهرة الذي يحظى بإعجابٍ الناس، وباتَ يستخدم حنجرتي الذهبية كما يحلو له، وكادت أن تُصيبني جلطة فور أن علِمت بإصداره أغنية مملة عن الفل، والعجيب أنها تصدّرت عناوين الصحف، وحازت أعلى نسب استماع.
بينما أنا لم أملك جسد (عمران) فحسب، بل أصبحت أملك حنجرته البالية التي تصدر أصواتًا مبحوحة، تؤذي أسماع المارّة وسائقي السيارات، وتقتحم هدوء ساكني المنطقة.
ولكنني مهما تحدّثت، ومهما تملكني الانهيار هل سيصدّقني أحد؟ فهذا من سابع المستحيلات، سيحسبونني مجرّد شحاذ مجنون قد أصيب بلوثةٍ عقلية أفقدته صوابه، أو مجرّد متسوّل ماكر مُثير لشفقة؛ يدّعي أمرًا خارقًا للعادة ليلفتَ إليه الأنظار.
وفي هذه اللّحظات… أدركت أنَّ نظرات (عِمران) لم تكن تكذب، عندما أوحت إليّ ذلك الشّعور بمَكره ودهائه، وأن سعادته غير المبرّرة التي كنت ألاحظها أثناء غنائه للفل ولغة جسده ذات الهمّة، وطاقته الإيجابية غير المعروف أسبابها، كانت حتمًا لمعرفته مسبقًا بأنّ هذا التبادل الجسدي سيحدث عن قريب!
يلتفّ الأطفال من حولي في دائرة أنا مركزها، يشدّونني من أطراف جلبابي القصير المتآكل، يجذب أحدهم عمامتي ويتقاذفها مع غيره على سبيل اللهو، حتى إذا هوت منهم على الأرض، يقفزون فوقها بأحذيتهم.
أحاول جاهدًا من خلال هذا الجسد المتحدّب أن أخترقَ الدائرة المُشكلة من حولي، لكنهم لا يعطونني مجالًا، فيلكزونني ويضحكون مستهزئين، يتهاتفون باسم (عمران) مستهترين، أبتسم في شَجن، تهتزّ الدّموع بعينيَّ، أصفّق بهستيريا، أُغني بهذه الحنجرة التي لا تخصّني على الإطلاق فينطلق صوت كالنّشيج:
“الفلّ يا فل، اشترِ من عمران وبكرة هيبقى فل “.