قراءة نقدية في ديوان للشاعرة ليلى المليس

مرآة الذات في مرايا الغياب…
(حنين بلون الرماد) للشاعرة / ليلى المليس

من الطبيعي أن يتهيأ الشاعر حين يعمد لكتابة نص شعري إلى حالة تشبه الغياب ، أو إلى الانتقال من جغرافيا المكان وساعة الزمان إلى نطاق يتناسب مع يدعوه إليه النص حتى ينقل بأقصى قدر من الصدق والمهارة ملامح ومفردات عالمه ، أو شعور اللحظة ، ومن الطبيعي أيضا أن يتمتع المتلقي بقدر من الوعي الذي يمكن أن يخلق لديه حالة من الحب والتقارب مع النص ، وحينما أشير إلى ضرورة الوعي ، أقصد ما آلت إليه القصيدة الشعرية من تطور على مستوى اللغة والتصوير والرمز والمجاز والإسقاطات التاريخية والدينية والاجتماعية والسياسية ، لذلك أجدني على عتبات ديوان الشاعرة ليلى المليس ( حنين بلون الرماد ) واقفا أستجمع تلك المفردات من خلال ما قدمته الشاعرة من نصوص تباينت ما بين الذاتي والموضوعي ، وليست القصيدة في هذا الديوان مجرّد بناء لغوي يُراهن على المجاز، ولا هي انسياب نثري يكتفي بعذوبة الإيقاع وبساطة التأمل. إننا أمام نصوص تحمل في عمقها ارتجاجات قلبٍ يحسن الإصغاء للذاكرة، ويجيد ترجمة الصمت إلى صور، والحنين إلى شخوص يتجولون بين السطور كما لو كانوا أحياءً يمشون بيننا.
في هذا الديوان، تكتب الشاعرة بشيءٍ من الحنين وشيءٍ من الألم، لكنها لا تمضي كضيفةٍ على اللغة، بل كمن يعرف مداخلها السرّية، ويملك مفاتيحها الخاصة. الصورة الشعرية هنا ليست زخرفًا بل نافذة، تطلّ منها على ذاتٍ تتشكل بالكلمات، وتتحاور مع الطفولة، والفقد، والحب، والخذلان، كما تتحاور مع ظلّ والدٍ لم يغب، وإن غيّبته الأيام، ومع أسماء ظلّت مطوية في دفتر القلب، ثم أفرجت عنها الشاعرة على استحياء، كإهداء من نوع خاص.
إن استحضار الشاعرة لوالدها، وأسماء بعينها من محيطها العاطفي والإنساني، لا يأتي من باب التوثيق الشخصي، بل هو إعادة خلق لذاتها عبر هؤلاء الذين شكّلوها أو تركوا في مسيرتها ندبة، أو حتى لمسة. وحين تهديهم بعض نصوصها، فهي لا تُكرّس حضورهم في النص فحسب، بل تُعلي من قيمة التجربة الشخصية كمنبعٍ خصب للشعر، وكأنها تقول: “أنا لست وحدي، أنا كلّ من مرّ بي”.
نحن إذن أمام كتابة نثرية تستند إلى ما هو أكثر من التجربة، وأكثر من اللغة، إنها كتابة تُصغي لنبض الحياة، وتنتصر لما هو عميق، خفيّ، ومحمول على أجنحة الصورة.
وإذا كان الشعر النثري قد كثيرًا ما وُصف بأنه خطاب عائم أو متحرّر من التزامات الوزن والتقنية، فإن هذا الديوان يثبت أن التحرر لا يعني التراخي، وأن غياب القافية لا يلغي حضور الدهشة.
نصوص هذا العمل تجيء بهدوء، لكنها تُحدث رجعًا عميقًا في نفس القارئ. تُلامس الخاص لتصل إلى العام، وتُلامس القارئ كأنه شريكٌ في الذكرى، لا متفرجٌ عليها. وما بين همسٍ داخلي وحوارٍ مفتوح مع الأرواح القديمة، تكتب الشاعرة شيئًا يخصها تمامًا… فيخصّنا نحن أيضًا.
ها هي في قصيدتها – والدي – التي بدأت بها قصائد الديوان تحاول بشيء من التكثيف أن تمد روحها لتلامس هذا الطيف المتوحد داخلها والافتقاد والحنين / جبل أنت في الفؤاد .. معطف صوفيّ أنت تدثرني .. ذراعك كان لي وسادة .. أحن إليك .. وقد ذابت مقلتاي في الغياب / في هذا النص عمدت الشاعرة لاختيار لغة بسيطة تراهن على المشاعر المجردة حيال ما تذكر من مفردات حياتية لم تبارح العقل والروح، دون التخلي تماما عن الصورة الشعرية التي تتغلب على الشاعر فيحلق بلا إرادة من آن لآخر / أحن إليك كلما اعتراني هذا الغروب .. فتشرق بين ثناياي كرذاذ يوم مشر .. والدي . كم يكفي من الحروف لأرسمك . بين ضلوعي أشجارا /
هكذا جعلت الشاعرة الغروب مرادفا للفقد والوحشة التي لا يؤنسها غير هذا الحب الصافي والأمان ، روح الأب التي تبدل الغروب شروقا ، الأب الذي لم تجد الشاعرة في الأبجدية حروفا يمكن أن تترجم تلك المعطيات إلى كلمات .
طوال رحلتنا داخل الديوان سنجد الشاعرة تحاول خلق حالة من التوازن والانسجام بين الواقع الحسي والدهشة في التعبير عن هذا الواقع دون اللجوء لتهويمات وأخيلة بعيدة مما يعكس ارتباطها بالمعنى والتصريح بما تريد في صورة غير استعراضية.
“كان يراقصها حينا .. وحينا يغازل فيها الألم .. كان ترثي في صمتها رقصها .. وتنادم فيه العدم .. تريّث يحاول فك طلاسم الغياب .. أو ما أسماه في حضنها كأس النغم”
اختارت الشاعر لهذه القصيدة عنوان ( الرقص على أنغام الألم ) وهي تحاول كسر المألوف، حيث تُقيل مفردة الرقص عما تعكس في الوجدان من الفرحة والابتهاج، فتجعلها تعبيرا عن فرط النزف والوجع، وإن كنت في هذا النص أفتقد ماهية الآخر حيث تعتمد الشاعرة على الذاتية المطلقة بلغة الراوي العليم. ثم تعمد الشاعرة إلى التحول من الذات إلى الجماعة في الديوان – الأصدقاء كمفتاح للتحول الإنساني والاجتماعي، حيث يتخذ الديوان منحاه الأول منطلقًا من الذات الشاعرة، حيث تستغرق النصوص الأولى في تأملات وجودية وعاطفية تكشف عن قلق الذات، وحيرتها، وربما انكساراتها الخفية. هنا، تبرز الذات بوصفها مركز الوعي، ومجال التجربة، ومصدر القول الشعري. لكن هذا الانكفاء لا يستمر طويلًا، إذ يبدأ النص في الانفتاح التدريجي على العالم الخارجي، تحديدًا من خلال علاقة الشاعر بالأصدقاء، والذين يشكلون فيما بعد نقطة انعطاف بارزة في بنية الديوان الشعورية والدلالية.
فالأصدقاء والشخوص والأشياء ، في هذا السياق، ليسوا مجرد كائنات هامشية أو عابرة في المشهد الشعري، بل يتحولون إلى رموز إنسانية تمثل حالات اجتماعية متباينة: الرفيق المكسور، والمهاجر، والمُناضل، والمهمش، بل وحتى العابر الذي تُستعاد سيرته فجأة في نص نثري أو ومضة شعرية. إنهم يدخلون الديوان كمرآة متعددة الأوجه، تعكس عبرها الذات ما حولها، وتعيد اكتشاف نفسها من خلالهم.
هذا التحول ليس فقط انتقالًا من الأنا إلى الآخر، بل هو أيضًا محاولة لفهم الذات ضمن شبكة العلاقات الإنسانية، بما تحمله من تعقيد وتناقض. فحين يكتب الشاعر عن صديق راحل، أو صديق انقلب عليه الزمن، أو عن صداقة أجهضها الغياب، فإنه لا يسرد فقط حكاية الآخر، بل يعيد تأويل العالم من موقعه كذات شاعرة مأهولة بالحنين والأسى والتأمل.
وهكذا، يتحول الديوان من كونه سردًا ذاتيًا إلى مشهد بانورامي متعدد الطبقات، تتجاور فيه الذوات الفردية والتجارب الجمعية، ويُصبح حضور الأصدقاء وسيلة لإعادة صياغة المعنى الشعري على نحو أكثر انفتاحًا وثراء.
باختصار، فإن “الأصدقاء والكائنات ” في هذا الديوان هم أكثر من مجرد حضور عاطفي؛ إنهم جسور ممتدة بين الذاتي والاجتماعي، بين الفردي والجماعي، بين الحنين الشخصي والذاكرة العامة حيث يتجلى هذا الحضور في مجموعة نصوص منها / سوندغين ، الشهيدة ، قيثارة نيرون ، خيوط الأرجوز ، أنا وبلقيس ، لليلى مجنون آخر ، العرافة ، عودة شهرزاد / حيث يحمل توظيف الشخوص الحقيقية والأسطورية في النصوص الشعرية بعدًا تأويليًا عميقًا، إذ تتحول هذه الشخوص إلى رموز متعددة الدلالات، تُسقط عليها الشاعرُ رؤيته للواقع وتوتراته. فالشخصيات الأسطورية تمنح النص طابعًا كونياً وخيالياً، يوسع من أفق التأويل، بينما تُمكِّن الشخوص الحقيقية من ربط الأسطورة بالتجربة الإنسانية المباشرة، مما يُضفي على الديوان بُعدًا جدليًا بين الحلم والواقع، وبين التاريخ والراهن. ومن خلال هذه الإحالات، لا يُعيد الشاعر إنتاج التاريخ أو الميثولوجيا، بل يُفككهما ويُعيد تركيبهما بما يخدم قضاياه الراهنة، فينتج خطابًا شعريًا مشحونًا بالرمزية والاحتجاج، يستحق الوقوف عند محطاتها .
ومن الملاحظات البارزة في ديوان “حنين بلون الرماد” اعتماد الشاعرة على التكثيف بشكل يتجلى في تلك المساحات الصغيرة لقصائد الديوان الذي يحتوي على مجموعة قصائد ما بين القصيرة والقصيرة جدا ، وقد جاءت بعض نصوصه بحالات تشبه القصة الهايكو ، كقصيدة ( لليلى مجنون آخر ) حيث تقول / ويحدث أن .. أداعب خصلة عشق مجنون .. وأن .. أسامر في كبرياء .. قمرا .. نجما .. شاعرا .. يكون / وقد كان لهذا التنوع في قصائد الديوان أثرا إيجابيا في كسر الرتابة، بل والشعور بالسعي والجري وراء موضوعاته وأفكاره المتباينة .
الشاعر / محمد جاد المولى: رئيس اتحاد كتاب مصر بالجنوب