سفينة الاحتفالي وسفينة ثيسيوس

سفينة الاحتفالي وسفينة ثيسيوس

الاحتفالي مازال حيا، ومازال يحمل نفس الروح …

       ذ. عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام :

ونواصل نفس الحديث عن نفس الهوية، في معناها الاحتفالي طبعا، وفي معناها العام ايضا، وعن معنى هذه.الهوية، في معناها المعحمي، يقول قاموس إكسفورد الأنجليزي هي:  ( تشابه شخص أو شياء في جميع الأوقات أو في جميع الظروف)،  أي أن يكون الإنسان هو نفسه وليس غيره، وأن يكون الشيء هو هو وليس أي شيء آخر غيره، وبالنسبة للاحتفالية فإنها تطرح على نفسها، كما تطرح عليها الاسئلة الأساسية والحيوية التالية:

ــ هل احتفالية هذا اليوم، واحتفالية ذلك الغد الذي سوف يكون، هي نفس احتفالية ذلك الأمس الذي كان؟

ــ وهل ذلك الاحتفالي الشاب الذي كان، في زمن التأسيس، هو نفسه الذي يكون اليوم، والذي يمكن أن يكون غدا وبعد غد وفي كل الأيام التي سوف تاتي أو لا تاتي؟

ــ وما ( الشيء) الثابث في وجدان الاحتفالي وفي روح الاحتفالية، وما هو ( الشيء ) المتغير والمتجدد فيهما؟

فبالتأكيد فإن هذه الاحتفالية هي نفسها، وأن ذلك الاحتفالي هو نفسه، فهما معا يقتسمان نفس الروح، ويقتسمان نفس الجسد، ويقتسمان نفس الطريق، ويقتسمان نفس البحر الموجودين ويقتسمان نفس السفينة نفس السفينة الاحتفالية،

ولكن، هل يقتسمان نفس التجرية ونفس الطول ونفس العرض ونفس العمق ونفس الغنى الفكري والوجداني ونفس الحلم ونفس الصور المتخيلة ونفس التجارب؟

فذلك الاحتفالي الذي كان، في ذلك الزمن الذي كان، مازال حيا، ومازال يحمل نفس الروح ونفس الاسم، ومازال يفكر في الفكر الاحتفالي بعقل احتفالي، ومازال يبدع المسرح الاحتفالي، بوجدان احتفالي وبحس احتفالي، وبمخيال احتفالي، ومازال يتحرك في عوالمه البرانية والجوانية بنفس محركه الاحتفالي القديم الحديد، ومازال يفعل في الأشياء ويتفاعل معها، بنفس الفلسفة الاحتفالبة والعيدية، ومازال بحيا حياة كاملة ومتكاملة، وذلك بفعل طاقته الروحية والوجدانية الداخلية، والاحتفاليون أساسا، في حياتهم وحيويتهم، هم كائنات بشرية ومدنية حية، وليسوا أصناما من حجر أو من حديد أو من نحاس، وهم بهذا يغيرون ويتغيرون، ويجددون ويتجددون، ويتحولون من حال إلى حال، وهم بهذا يقولون دائما مع نتشه:

( إن الحية التي لا تستطيع أن تغير جلدها تهلك، وكذلك البشر الذين لا يقدرون أن يغيروا أراءهم، لا يعودون بشرا) والاحتفاليون يغيرون جلدهم، ولكنهم أبدا لا يغيرون ما تحت جلدهم، ولعل أخطر الأشياء فيهم هي تلك الأشياء السحرية، الغامضة والخفية، والتي لا يمكن أن تراها العين المجرة، والتي لا يمكن أن يدركها إلا الحدس الصوفي سفينة تجددت وبقت هي هي .. ومسألة الهوية الاحتفالية، هي في البدء والمنتهى معطى وجودي قديم قدم الحياة، وفيها الجينات الاحتفالية المتوارثة، وفيها يد الله، وفيها يد التاريخ، وفيها يد الجغرافيا، وفيها يد اللغة التي ابدعت هذه الاحتفالية، والتي استعانت بها هذه الاحتفالية لتؤسس فكرها وعلمها وفنها وكل متخيلهاالابداعي، القديم الجديد ويمكن أن نجد لهذه الاحتفالية مثالا حيا في ( سفينة ثيسيوس) في الثقافة الإغريقية القديمة، والمعروفة أيضا بمفارقة ثيسيوس، وبحسب ويكيبيدا فإن سفينة ثيسيوس هي ( تجربة فكرية تطرح مسألة ومعضلة الهوية وما إذا كان الكائن الذي استبدل كل مكواته يبقى أساسا هو الكائن، وقد ذكر هذا التناقض لأول مرة من قبل الفيلسوف فلوطرخس في كتاب ( حياة ثيسيوس) في أواخر القرن الأول الميلادي، حيث طرح فلوطرخس عما إذا كانت السفينة التي يتم استبدال كل جزء خشبي مختلف من السفينة تظل هي نفسها السفينة أم لا؟) وكما أن هذه السفينة، قد جددت ألواحها في كل ميناء رست فيه، وبقت هي نفس السفينة، فكذلك الأمر بالنسبة للسفينة الاحتفالية أيضا، والتي جددت ألواحها، وجددت أصباغها وألوانها، وغيرت كثيرا من قطع الغيار فيها، و ظلت هي هي، تتحرك بنفس المحرك، وتحيا بنفس الطاقة الحيوية المتجددة فيها. هذه الاحتفالية، ومنذ أواسط السبعينات من القرن الماضي، انضافت إليها أسماء كثيرة، وقد تغادرها أسماء أخرى غيرها، مما يدل على أنها حية، وعلى أنها تجدد دماءها، وتجدد جلدها، وأنها تحتمل كل الاحتمالات التي تعرضت لها سفينة ثيسيوس، والتي غيرت كل شيء فيها، ومع ذلك فقد ظلت هي هي هذه الصورة نجد لها في الثقافة العربية ما قد يشبهها، وذلك من خلال ما يعرف ب (حذاء الطنبوري) والذي هو في الأصل حذاء قديم، ولكنه مع الزمن تعرض لفعل الإصلاح ولفعل الترميم، ولكثرة ما تعرض هذا الحذاء من اعطاب، فقد وجد السبد الطنبوري نفسه يعالج حذاءه بالرقع، وان يركب رقعة فوق رقعة فوق رفعة، حتى لم يعد لهذا الحذاء أصل، وأصبح مجموعة رقع متعددة الأشكال والأحجام والألوان، حتى عنه بانه (حذاء ذهب أصله، وبقيت رقعه) والاحتفاليون في الاحتفالية ليسوا ألواحا خشبية في سفينة ثيسيوس، وليسوا رقعا في حذاء الطنبوري، ولكنهم أرواح وأجساد إنسانية ومدنية حية، وهي اجساد وارواح فاعلة ومنفعلة ومتفاعلة بالضرورة، ولهذه الأورواح والأجساد محمولاتها الفكرية والجمالية والاخلاقية المتجددة، وفي كتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليومي) يقول الكاتب ما يلي: ان هذا الكائن الاحتفالي اذن، الحالم والشاعر والعراف والمبدع، والمتنبي والمشاغب والصوفي، والمتأمل والفيلسوف والموسيقي والرسام والحكيم والمجنون ( هو الأساس في هذه الاحتفالية، وهو كائن مدني بالضرورة، جنسيته إنسان، ووطنه الكون، وعنوانه اللحظة العيدية الحية والمتحركة والمتجددة دائما، وذلك باتجاه الأبدية وباتجاه اللانهائي، اما لغته، فهي اللغة الفردوسية الضائعة او المضيعة، والذي يرحل المبدع الاحتفالي باستمرار بحثا عنها، و لك من اجل استعادة روحها قبل استعادة معجمها) ولهذا يكون من الضروري ان نتساءل، وان نقول ما بلي: ــ عربة هذا الكائن الإنساني، او سفينة هذا السندباد الاحتفالي المسافر، وعبر كل مرافئ المكان وعبر كل موانئ الزمان، ما الذي يمكن ان يتغير فيها، وما الذي لا يمكن ان يتغير؟ بالتاكيد يمكن ان يتغير كل شيء فيها، إلا الأشياء الخفية المتعلقة بروح هذه الاحتفالية والمتعلقة ايضا، بجوهرها، والمتعلقة بطاقتها الحيوية التي تحركها، والتي هي طاقة شمسية وريحية جديدة ومتجددة على الدوام وفي المسرحية الاحتفالية ( سقراط قالوا مات) نجد سقراط الجديد في مدينة اثينا الجديدة، يسال تلاميذه عن هذه المدينة (اثينا) وذلك بعد ان خرج من غفوة نوم، وهو واقف بين التماثيل في حديقة عمومية: ( اه.. اثينا .. اعرفها، وهذه (الأثينا) ألا تخبروني عنها، كيف حالها وحال الناس فيها، وهل مازالت في نفس مكانها؟) وعندما يخبره تلاميذه بان مدينة اثينا مازالت في مكانها، يقول لهم (وهكذا هي الأمكنة دائما، طبعها الوفاء والإخلاص، بعكس الزمن والناس يا اولاد الناس، والذي من طبعهما الغدر .. وكيف حال الناس في اثينا، هل مازالوا كما عرفتهم، سفلتهم يسبقون علماءهم، وحكامهم يحكمون على حكمائهم ؟) وعندما يخبره تلاميذه بانه لا شيء تغير في مدينة اثينا اثناء غيابه او (غيبوبته) المؤقتة، يقول لهم: (الويل لي إذن، والويل لكم ايضاً، ومادام الأمر هكذا، فمن الأحسن ان اعود إلى نومي وحلمي، فحلم بديع احسن من واقع وضيع) وبالنسبة للاحتفالي، فإن كل الأجساد التي لا تحيا حياة كاملة، فهي مجرد تماثيل، او هي اصنام من حجر او من نحاس او من طين او من عجين.. وكما ان السفينة ليست الواحها القديمة او الجديدة، فإن سفينة الاحتفالية هي اساسا محركها، وهي طاقتها الجديدة والمتجددة والاحتفالي يميل دائما اكثر، الى سفينة ثسيوس، والتي هي نفس السفينة الاحتفالية، لأنها في حقيقتها طاقة تمشي وتسير، ولأنها تقاوم سكونية المكان، وهي في كل ميناء تتجدد، وهي بهذا سفر ورحيل، وإذا كان قد قيل قديما عن حذاء الطنبوري بانه (حذاء ذهيأب اصله وبقيت رقعه) فان الأمر مختلف بالنسبة لسفينة الاحتفالية، والتي تغيرت اچزاؤها والواحها، ولكنها ظلت هي هي.. ظلت محافظة على اصلها،؛والذي هو روحها وهو فكرها وهو علمها وهو فقهها وهو ذاكرتها وهو تاريخها وفي (بيان طنجة للاحتفالية المتجددة) يقول الاحتفالي ما يلي:

( هذه الاحتفالية سفر اذن، هكذا قلت انا، وهكذا قالت كل دفاتري وأسفاري، وبهذا الحديث تحدثت كل شخصياتي المسرحية، فعبد السميع خرج من بيته ولم يعد إليه، وامرؤ القيس غادر زمنه الجاهلي وصحراءه وجاء إلى باريس الجديدة، وابن الرومي رحل إلى مدن الصفيح بحثا عن الجمال والجلال، وجحا دخل مدينة فاس ليلا وخرج منها ليلا، ولقد ادركت ان السفر في الوجدان ابلغ وأمتع من السفر في البلدان، ان سفرياتي ليس لها حد يحدها، وهي بهذا ممتدة من المهد إلى اللحد، ومن الأزل إلى الأبد، ومن الكائن إلى الممكن، ومن العادي إلى المثير والمدهش، وهي بهذا جزء اساسي وحيوي من حركية الموجودات في هذا الوجود المتحرك) وفي هذه الاحتفالية يحضر المكان الآخر البعيد والغريب دائما، ويحضر الزمن الماضي الذي كان، تماما كما يحضر الزمن الذي سوف ياتي، وفي هذا السفر، عبر المكان واللامكان، وعبر الزمان وما وراء الزمان، تحضر العربة الاحتفالية، وتحضر السفينة الاحتفالية، ويحضر السندباد الاحتفالي، ويحضر سحر بساط الريح الاحتفالي وبين حد المكان وحد الزمان يقول عبد البصير الضرير في احتفالية ( يا ليل يا عين) (إنني اهرب من سجن هذا المكان، واهرب من قيد هذه اللحظة، وانني لا استطيع ان اقيم إلا في المشي، وفي التجوال، وفي السفر والترحال) سفينة واحدة .. في موانئ متعددة ان هذه الحياة الأزلية تتجدد بالحركة وبالسفر وبالرحيل المتجدد، وقد يكون هذا الذي نسميه الموت المؤقت ما هو إلا حركة وطاقة خفية محركة، وهو بهذا انتقال بعد انتقال بعد انتقال.. وهو خروج من حياة من اجل الدخول الى حياة اخرى، وانتقال سفينة الاحتفالي الوجودي من ميناء إلى ميناء اخر، وانتقال الممثل الاحتفالي من دور الى دور غيره في مسرحية الوجود الكبرى، وذلك بحثا عن حياة اخرى، تكون اجمل واكمل، وتكون أعمق وأصدق، وتكون بءلك حياة بعد حياة بعد حياة الى ما لا نهاية، وفي مسرحية ( سالف لونجة) والتي قدمتها، كتابة وإخراجا، مع فرقة النهضة الثقافية بمدينة الخميسات سنة 1975، يتنقل ذلك الباحث عن دوره في المسرحية بين الأدوار، وبجد نفسه يموت في دور، ثم يبعث حيا في دور آخر، إلى أن يتعب من لعبة هذه الحيوات المتجددة بالموت، ولذلك يقول وهو يستعد لان يولد ولادة اخرى جديدة ما يلي:

(يا الله. يا الله.. كم اتوق ان ابقى حبيس الأرحام غارقا في صدر الظلام حتى ترشد الدنيا وتغير جلدها فأولد من جديد.. أولد حينها) انه يتمنى ان لا يولد من جديد، حتى يولد قبله زمن آخر جديد، ولذلك تصرخ الجوقة في وجهه بصوت واحد:

(اهرب ما استطعت مائة او الف عام لن يحدث شيء .. لن يحدث شيء .. كل شيء رهين حضور مستمر رهين موت يتجدد عبر الأبد) مما يعنى ان حياة الاحتفالي، مثلها مثل سفينة ثيسيوس، تتجدد عند كل ميناء، وان هذه الحياة التي نحبها، فكريا ووجدانيا، ما هي إلا مجموع محطاتها العمرية العابرة وما يميز هذا الاحتفالي هو أنه يؤمن بالهوية الصادقة والشفافة والحية، وليس بالهوية المزيفة والمصنعة والميتة والمحنطة، وهو يؤمن بتلك الهوية المتعددة الأبعاد والمستويات والحالات والمقامات، وليس بتلك الهوية الأحادية البعد، وهو أيضا يؤمن بالهوية الناطقة والمتحاورة سخر مني عندما أخبرته ان قلبي من طين لان قلبه من حديد وغدا تمطر السماء فيزهر قلبي ويصدا قلبه والمتحركة والمنفتحة على كل الهويات الأخرى في العالم، وهو ضد ثنائية ان تكون مسجوناـ في صورة منها ـ هي وحدها المركز والمحور، وأن يكون غيرها هو الهامش، وهي بهذا تحترم لغات كل شعوب العالم، وتحترم ثقافاتها، وتحترم قيمها ومعتقداتها، وان تكون في كل الأسماء وفي كل الأزياء، وأن يكون لها في كل حادث حديث، وأن يكون كل ذلك انطلاقا من نفس الأرضية الفكرية والجمالية والأخلاقية الصلبة، والتي تقف عليها، وتتمدد منها.

ذ. عبد الكريم برشيد

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية مديرة وإعلامية موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بمغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل و المراسلات:jaridatealwane@alwanne.com