ثقافة اللامعنى

… اختيار أم تحول ايديولوجي قسري

على نفس القدر من الأهمية، فإن تقدير بعض القضايا لا يغطي جميع الأسئلة المطروحة.
لقد أفرز إهمال آليات تحصين الفكر الإبداعي العربي المنبثق من الابتكار المتجدد “ثقافة اللامعنى”، التي تعودت على عناوين التفضيل والتكرار كمرحلة جوفاء، ساهمت في بتر المسلسل التوجيهي و مساره السليم، حيث تم تجميد صلاحيات الثقافة والفكر، فانتهى بهما المطاف في دواليب الأرشيف كمظلمة من الماضي تم التحفظ عليها بين ركام غبار “ثقافة اللامعنى”، التي تسعى إلى تنقيح صيغة الجمل والفقرات لغويا،نحويا، إملائيا في اختيار الكلمات بجودة عالية، لكن دون معنى أو غاية.
لهذا، ومن أخلاقيات حجم المقاربة والدور المنوط بها، كيف يتصرف المثقف بعد الحسرة، حينما يتابع على شاشة التلفاز لقاء صحفيا مع مسؤول حكومي لا يفقه أي شيء، من وراءه خزانة مليئة بالمجلدات والكتب حديثة الطباعة نظيفة ومرتبة، يظهر على أوراق صفحاتها البيضاء علامات الحزن والأسى، تندب حظها بسبب تموضعها في مكان لا يليق بمكانتها الفكرية. لا من يتصفحها ولا من يبالي بوحدتها، باستثناء عاملة النظافة، بناء على صلة العطف و المعطوف عليه في انتظار المبني للمجهول سواء كان جارا أو مجرورا.
فمنذ بداية العقد الثامن من القرن الماضي و الثقافة في انهيار سريع بأساليب متعمدة تعمل تحت الوصاية.
هذا الانحراف يفسر العجز السياسي، لأن الوضع لا يبشر بالخير، لذا كان يتعين التفكير في فتح تحقيق معمق لتدارك الموقف.
لكن في الآونة الأخيرة اتجهت وزارات الثقافة والبعثات الثقافية بقنصليات جميع الدول وخاصة الدول العربية، نحو التطبيع مع الإملاءات، حيث تم إدراج الفكر والثقافة خارج اللائحة في انتظار التعليمات. إذ لا تحظى بالإهتمام إلا في بعض المناسبات، الغاية من ذلك خدمة و تقديس الفساد والتفاهة.
إذ لا تمثل لهم الثقافة رسالة نبيلة أكثر ما يعتبرونها دفتر تحملات و قضاء مصالح شخصية وعقد صفقات بدعم خارجي، يفرض عليهم إجبارية نشر معتقدات و رسائل وأهداف سامة، تساهم بشكل مباشر في دمار عقول الشباب العربي.
إن فكرة وجوب بعض التصورات الخاطئة، ساعد بشكل كبير
في استهداف الفكر العربي الحديث على خلفية مجموعة من آليات الفساد المتمثلة في:
– الثقافة السياسية
– التأثيرات الإيديولوجية على المنظومة الثقافية والفكرية.
– انشطار الفئة المثقفة إلى مناصرة للفساد مقابل لقمة العيش، وأخرى تعاني من الضغط والمضايقات، لكنها ملتزمة بمبادئ تحرير الأوضاع من التفاهة والخضوع.
– تشكيل الثقافة العربية المعاصرة وفق قيم ومنظومات معاكسة للأهداف السامية للفكر.
– انعقاد اللقاءات والمؤتمرات والندوات الموسمية من أجل التعارف وقضاء المآرب الشخصية.
– اعتماد منهجية التقليص من ميزانيات وزارات الثقافة
– التراجع الشامل عن الأسس النبيلة الناجعة التي تهدف إلى الإرتقاء بالمؤسسات التعليمية العمومية.
– احتقار و تهميش الأطر التربوية.
– إقرار وزارات الثقافة تبني مهرجانات المجون والفسق والتفاهة في موعد مع الحدث كتقليد سنوي.
كما تعمل على تنظيم معارض للكتاب التي أصبحت جزءا من اللعبة السياسية، تستقطب كل من هب ودب من دون أهداف تذكر يسجلها التاريخ.
– إنفاق ميزانية البحث العلمي على الصفقات العمومية المشبوهة.
في هذا السياق، يجد الفكر العربي نفسه أمام تحديات كبرى: من إشكاليات الأصالة والحداثة، إلى أزمة الإبداع، الوحدة، التقدم، صحوة العلاقة مع الغرب والنهضة الروحية في العصر الحديث.
لذا يمكن القول بأن الدراسات التي توصلنا إليها تتقاطع في تحليل هذا الواقع المعقد، الذي يجتاز مرحلة انتقالية مركبة تتشابك فيها الأزمنة والقيم، وتمنح قضاياه طابعًا إشكاليًا يعكس عمق التحولات التي يمر بها العالم العربي من:
– إقصاء المهارات الناعمة
– تهميش الطاقات الفكرية التي تحمل مؤهلات الكفاءة والإبداع.
– عدم الرغبة في دمج مواد بيداغوجية أساسية كأولويات بالمؤسسات التعليمية العمومية تهتم:
– بعلم النفس والقيم
– بالسلوك والأخلاق
– بالإندماج المجتمعي
– بالمهارات الحياتية.
فمن المجحف إقصاء المثقفين والدارسين والباحثين والعلماء العرب، من كرسوا حياتهم في العمل المثمر الدؤوب بجدية ومصداقية وأمانة فكرية في مجال البحث العلمي، من غرض الوصول إلى نتائج إيجابية تسمو إلى تجديد العهد بالتأطير والخبرة استعدادا للرهانات المستقبلية.
الغاية منها طرح نظريات وبسط أساليب ناجعة في مختلف الميادين من أجل بناء نهضة جديدة تساير التطورات الراهنة.
إذ طالما تستند إلى اختيار الغايات بالنظر إلى القابلية التربوية، تضاف إلى هذه الأطروحة بمثابة نازلة تستدعي تدخل ويقظة ومقاربة نشاط اتخذ شكله النهائي كهدف، رغم صعوبة آليات هذه الوظيفة.
ولنا أن نتساءل عدا ذلك ، أي نوع من المعارف تثمر هذه العلوم الفكرية والثقافة المستهدفة؟
د.محمد جستي