شذرات من مشتل الحياة
اعترافات كأس من زمن الانكسار
دموع الكؤوس لا تطفئ حرائق الصدور ولا تجبر الكسور. اختر النديم قبل المـُـدام والرفيق قبل الطريق والصديق قبل الضيق. لا تخبر كأس اليوم بما فعله بك كأس الأمس، لأنه لا يحب ارتشاف اللوم والعتاب، ولا معاقرة الألم بالألم، وإضافة عبث الهم إلى صبح الغم.
مع أصبحة الإشراق، دع الكأس يتحرر مما علق من ثمالات الليل والويل، لعل السباحة الحرة تقوده إلى بر الأمان ويتطهر بمعقمات دافئة مضادة للأحزان والرواسب العالقة بالصدر المحتل، المضبب بغيوم من دخان وسحب السنين الخوالي ونتف متفرقة من أوجاع الأمس القريب والأقرب بقليل من الغريب، منه إلى الأكثر غرابة وغربة عن الدات الممزقة أشلاء في أرجاء القلب.
دعه يسبح عاريا في الحوض الصافي الراكد بداخلك، بدون تفكير في أي شيء. فلا شيء يستحق تسويد خريطة يومك بوضع حدود وهمية ومجسمات حراس «الفضيلة» الذين يعسكرون بزي شيطاني، على عتبة الدماغ لمحاولة تعطيل وظيفة الخلايا النشيطة.
لا داعي للقلق يا صاحبي..
ارتشف صباحك وكأنك أسعد حزين في العالم، من درجة فارس متمرد، خبِر شوارع الأحزان والممرات الضيقة في دولة الأهوال التي تزداد ضيقا في صدور البؤساء والتعساء، وضحايا سوء الطالع، النازلين توا من سلم الحظوظ المحجوزة في خزائن محروسة لا تخضع لنظام الدرجات ولا لسلالم الطبقات. فالصاعدون على الأكتاف ليسوا كالصاعدين على الأسانسور وهؤلاء جميعا ليسوا كمن يصعدون درجة درجة، نفسا نفسا، إلى أن يدركهم الموت أو التقاعد في مشارف النزع الأخير من العمر.
لا عليك صديقي اللذوذ
إن التعاسة نفسها أصناف ودرجات وطبقات، وإن كانت تعاسة الطبقة العليا لا تشبه تعاسة الطبقة السفلى والمتورطة، ولكنها تبقى تعاسة في جميع الأحوال والأهوال. فلكل همه ولكل غمه وتعاسته، مع اختلاف بسيط بين أحلام البسطاء ووخزات ضمير الجاثمين فوق صدورهم، إن كان لديهم ضمير طبعا، أما إذا لم يكن لديهم فإنهم يصبحون أكثر قسوة وشراسة، وسيزيدون من تعاسة الآخرين الذين لا حول لهم ولا قوة، لأنهم سيصبون عليهم جام غضبهم وشواظ عقدهم ونرجسيتهم وعصارة تعاستهم المتوارية خلف الابتسامات الماكرة، ليصبح البسطاء أمام تعاسة مضاعفة.
فكل رئيس يجتر مرارته بطريقته ويبصقها في وجه الأقل منه درجة. والمرؤوس المباشر يتربص بكرسي رئيسه ويحرص على تلميعه بكرة وأصيلا، وإعطاء أوامر صارمة للقيام بهذه المهمة، ليس من باب التملق فحسب، ولكن طمعا في تسلمه خاليا من بصمات وأنفاس سابقه.
أرى الآن صديقي الرئيس التعيس يتحسس جنبات الكرسي اللعين ويبتسم بمكر، وآخر لا يقل عنه مكرا يبادله الابتسامة بأحسن منها.
فعلها التعيس البئيس بمن هو أتعس منه وأشد بؤسا من بؤساء جيله المحسوب على الطبقة المتوسطة الآيلة للسقوط في كأس الطبقة الدنيا، لينضم بدوره إلى الطابور، يتوسل جرعة من الحياة، خارج نظام الطبقات والتصنيفات والسلالم، مستعينا بكأس الأحزان المفرحة، ومكعبات ثلج سريعة الذوبان، علها تطفئ عطش السنين وتعطُّشِه الدفين إلى الزمن البسيط تحت سقف حلال و شبر من طين خال من الألغام.
الرئيس الأول لا يحب مكعبات الثلج ولا أصل الألوان، فالأبيض والأسود يذكرانه بأصله وفصله ومعدنه وبؤس الدرجات الدنيا الموغلة في العفوية والبساطة والصفاء والنقاء. إنه يريدها مخملية قزحية تسعف على استغلال اللون المناسب في القضية المناسبة، سريعة المفعول، وبدون أضرار جانبية، تصيبه بلفحة حنين إلى أجمل أيام العمر، بناسها البسطاء الطيبين، وتعكر صفو سكرته الحلال، التي تساعده على التنكر لفصيلته، وتجعله عرضة لهشاشة الصدر وعدوى الفقر.
……
«كأسك يا وطني.. في صحة صديقي اللذوذ». يرفع الكأس عاليا ويدلقها دفعة واحدة»، قبل أن يهمس، بلغة مشفرة: «مساكين كيقطعو في القلب». لينسحب من المشهد «حسي مسي». بدا عليه نوع من التقزز، وهو يمرر باطن كفه على شفته العليا. تلمظ بنشوة نرجسية وكأنه لم يذق من نفس الكأس يوما.
ينتفض الساكن بداخلي، الكاشف عن فك الرموز والشفرات، ويقودك إلى مكتب فسيح تفوح منه روائح المكر المكعب. قطعة ثلج ملتهبة كانت كافية لمزج ما تبقى من ذكريات رفقة صديقي اللذوذ، وتجرعها بخيبة زمن الانكسار.
قلت لصديقي اللذوذ أن ما يستعصي تجرعه في الفضاءات المغلقة، أو في المكاتب المسيجة بالتحفظ، يمكن حله في المقاهي أو البارات أو في محميات وارفة الظلال، تغني عن مظلات الوقت المعرضة للاختراق وفقدان سلطة الحفاظ على التوازن أمام أول الرياح المبشرة بالتغيير أو العواصف المنذرة باقتلاع الأشجار المنخورة بالفساد، وعبث الديدان والتربة الملوثة.
تترأرأ العيون وتتخلص من غبش الوقت الميت.. كل دقيقة تشيع أخرى بنشوة الثواني الراقصة على جسد العمر المسجى في ثابوت الحياة. رشفة رشفة تبتل الشفاه وتنتعش الشرايين. تتساوى أوتار نبضات القلب وتتراقص خلايا الدماغ على إيقاع أحصنة السباق، في حلبة معشوشبة، تحت الأضواء الكاشفة.
يتعالى نهيق الحمير، فتنتفض الخيول المروضة وتعلنها ثورة صخب مجلجلة، احتجاجا على إقحامها في حضيرة مشتركة مع الحمير.
«مهمتها محصورة في نقل روث الأحصنة إلى خارج ملعب السباق، بعد نهاية اللعبة، وليس مزاحمتها في نفس الفضاء، لأن اختلاط أنفاس الحمير مع أنفاسها سيؤثر عليها في اختراق الريح ».
تناهى ذلك إلى مسامع ممثل الحمير، فقال لأقرب حصان، لا تنس موعدنا في سوق نقل البضائع، بعدما تنتهي مهامك، أو تتكسر عظام إحدى ساقيك في حلبة التنافس، إذا وجدت من يسعفك ويجبر كسورك.