المطربة علية والمطربة نعمة
الصوت المهاجر والصوت الملتصق بالجذور
بين.. بين
بقلم: ذ عبد المجيد شكير
لطفي بوشناق، لطيفة، صابر الرباعي وغيرهم أصوات أغنت بها تونس الساحة الغنائية العربية اليوم، ولكن هذا ليس جديدا على الأرض الخضراء، فهي دائما أرض ولادة، لا تكف منذ القديم عن إيجاد أصوات عابرة لحدودها المحلية، ونتذكر هنا علي الرياحي وأحمد حمزة، وأيضا نتذكر المطربتين المقتدرتين: علية ونعمة.
ولدت علية ونعمة في منتصف الثلاثينياث (نعمة سنة 1934 ـ وعلية سنة 1936) وكانت هذه الأخيرة سباقة إلى الظهور في الوسط الفني، ورغم ذلك عرفت الاثنتان بداية متشابهة، إذ سكنهما الغناء منذ الصغر، كانت علية تنشد الأغاني الشرقية الكلاسيكية، وكانت نعمة تردد في الجلسات والأفراح الأغاني التونسية التراثية، وأول من اكتشفهما هو عازف الكمان الشهير رضا قلعي، حيث لحن لعلية (حبايبي ظلموني) ولنعمة (يا ناس ماكس قلبو) وجمعتهما الدراسة في معهد الرشيدية، وخلالها تنبهت أذن الفنان الكبير صالح المهدي الملقب بزرياب، (تنبهت) لجمال صوتي الطالبتين (بية رحال ـ حليمة بنت الشيخ) فأطلق على الأولى اسم علية على أخت الخليفة هارون الرشيد، وعلى الثانية اسم نعمة، وكانت الإذاعة التونسية تذيع مباشرة على أمواجها الحفلات التي يحييها طلبة المعهد، مما ساهم في تلميع اسميهما وانتشار أغانيهما، فأقبل عليهما كبار الملحنين في تونس (خميس ترنان ـ محمد التريكي ـ الشاذلي أنور …) بل وفي العالم العربي .
حقا، للجمال ألوان، فصوت علية يكمن جماله في مساحته العريضة، في قوة نبراته، وفي كثافة إحساسه، تحس وأنت تستمع إليه أنه يشملك من كل الجهات، ويدثرك بطبقاته العالية، ويسكن في أعماقك ساكبا مختلف المشاعر، صوت مقتدر وقادر على إحياء ليالي الطرب والسمر، ما أروعها وهي تشدو ذات سهرة بالمغرب بقصيدة (أنا من أنا) للشاعر إيليا أبو ماضي ومن ألحان فناننا الأصيل محمد بنعبد السلام! وكم أبدعت فيها وسقتنا كؤوس المتعة، وهي تغني وتعيد! سابغة على الكلام تلوينات عجيبة من حنجرتها الفخمة، نافخة فيه من حناياها توشيات ساحرة، ولا سيما عندما تنشد (سيأتي عليها السكون فتمسي…) ولا غرابة أن تنوه كوكب الشرق أم كلثوم بصوتها في كل مرة وحين ففي أول لقاء جمع بينهما، وبعد أن غنت علية مقطعا من (الأطلال) علقت أم كلثوم من بهرة بأن السنباطي سيكون سعيدا بسماعها، وقد غنت علية في عيد الفن خلال حفل تكريمي لكوكب الشرق بعد وفاتها قصيدة (صوت السماء) وهي عبارة عن مرثية في حق كوكب الشرق كتبها الشاعر أحمد رامي، سحرت علية كبار الملحنين في العالم العربي بطاقتها الصوتية فلحن لها بليغ حمدي قطعة (أبكي والناس سامعة) ومحمد الموجي (طرح الهوى) وحلمي بكر (عال ليجرى) الأغنية التي شاع نجاحها إلى حد أن كبار الأصوات رددتها (أصالة ـ صابر الرباعي …) كما كرمتها الدولة المصرية في إحدى المناسبات الوطنية بوسام الشرف بفضل أغنيتها الجميلة (يا حبايب مصر) ومن أشهر أغانيها الناجحة (الحب ليعة ـ يا ما الفرقة صعيبة ـ الساحرة ـ يا مو الجناحين ـ إيش اللي بكاك ـ جاري يا حمودة ـ قالوا زيني عامل حالة ـ أم العوينة الزرقاءـ مانحبش فضة ذهب…).
وأما صوت نعمة فهو ضفيرة أخاذة من الدفء والهمس والرقة، تارة يشدك بهمسه، وأخرى يتودد إليك بإحساسه الرقيق المرهف، وثالثة قد ينفث في جوارحك دفء الأمن والأمان، كم تمنحنا أغانيها الشعور بالارتياح والسعادة، في القصيدة الدينية (إليك ربي مددت يدا) تحلق بنا المطربة نعمة إلى أجواء من الطهر، لننهل من رحيق الإيمان.
في سر يخشوعها في عروقنا، وتدب قشعريرة تبتلها في جلدنا، خامة صوتها المتنوعة ساعدتها على التعبير عن مشاعر متعددة، من ندم مشوب بالبكاء، إلى توبة مفعمة بالأمل واليقين، حتى أننا نتساءل: من غيرها يمنحنا هذا الإنشاد البديع؟ وفي هذا ما يفسر لنا دعوتها لإحياء حفل مهرجان ملكة جمال العرب ببيروت سنة 1966، كان لصوت نعمة عشاق يذوبون في أغانيها، فخلال مشاركتها في حفل بمناسبة ألفية القاهرة سنة 1969 كتب عنها الأديب صالح جودت في مجلة الكواكب ما يلي (الواقع أنني لم أكن أعرف في تونس هذه الثروة الفنية الكبيرة، وهذه الطاقة الضخمة من الألوان الغنائية، ولاسيما صوت المطربة العظيمة نعمة التي تتميز فوق عذوبة الصوت بالحركة والحيوية على المسرح، وبالتعبير الثري على قسمات الوجه، وبالقدرة الفائقة على تحريك الجماهير، وعلى الكثير من مطرباتنا أن يتعلمن من نعمة هذه الخصائص، لأن الغناء ليس مجرد عذوبة في الصوت، وإنما عذوبة الصوت لابد لها من إطار فاخر كإطار نعمة، حيث يتلألأ منها الأداء الحي) واعتبرها الأديب يوسف إدريس مطربة تونس الأولى وكان عبد الحليم حافظ يحرص من حين لآخر على حضور حفلاتها ويتفاعل مع أغانيها بالصفير والهتاف، وأما الملحن سيد مكاوي فأهداها لحنا هامسا، فياضا بخفة ظله، ومفعما بروحه المرحة، فأبدعت فيه أيما إبداع لتناسبه مع خصائصها الصوتية والشخصية )شوف قالوا إيه حبيبي)، ومن أحلى أغانيها (حبيبي يا غالي ـ لبستك من عطفي حلة ـ قمري يا يمه ـ البير والصفصاف ـ يا زين الصحراء ـ ما عندي والي ـ أم القد الطويل ـ مغيارة ـ آه ياليل ـ يا منة…).
انساقت المطربة علية وراء هالة الشهرة، فهاجرت إلى الشرق قاصدة القاهرة مدينة الفن وقبلته، فلمعت هناك بما قدمته من أغان باللهجة المصرية لمدارس مختلفة في التلحين، وساهم زواجها من الملحن المصري حلمي بكر في استقرارها بعيدا عن وطنها تونس، حتى اختطفتها أيدي القدر سنة 1990 مخلفة وراءها رصيدا فنيا رفيعا يتوزع بين ما هو تونسي وما هو شرقي، وأما المطربة نعمة فقاومت إغراءات الهجرة، وظلت ملتصقة بالجذور التي طلعت منها، لقد ظلت وفية للأرض التي ترعرعت فيها، ولبلدها تونس الذي منحها منذ البداية كل الرعاية والحب، وقدر حلت سنة 2020 بعد أن تركت لنا كنوزا من ا لغناء التونسي الأصيل.
قامت العلاقة بين المطربتين الكبيرتين على المودة والاحترام منذ فترة الدراسة بالمعهد، وكثيرا ما كانتا تلتقيان في الحفلات الرسمية التونسية داخل بلدان عربية مختلفة، ففي ألفية القاهرة شاركت المطربتان معا صحبة الفنان أحمد حمزة في تقديم التحية لمصر بأغنية وطنية من إهداء تونس الخضراء، وفي سنة 1989 كانت نعمة تحيي حفل افتتاح مهرجان قرطاج الدولي، حضرت علية فجأة وصعدت إلى خشبة المسرح لتحيي نعمة ولتعانقها عناقا حميميا أمام عدسات المصورين وتصفيقات الجماهير الحاضرة، وكأن علية جاءت لتوديع رفيقة دربها.