محراب التشكيل
المبدعون دائما على اليمين
محمد معتصم
تمثل لوحة “مرسم الفنان” (L’Atelier du peintre) لغوستاف كوربي Gustave Courbet بعنوان: “قصة رمزية حقيقية تلخص سبع سنوات من حياتي الفنية” (1855، 3.61/5.98) الفنان كوربيه أمام لوحته محاطا بأصدقائه على يمينه: الفيلسوف برودون Proudhon، وألفريد برياس Bruyas مجمع الأعمال الفنية، وشانفلوري Champfleury الناقد الفني، وأحد مناصري الواقعية، والشاعر بودلير مستغرقا في القراءة والروائي والشاعر ماكس Max Buchon بوشون. هؤلاء وغيرهم جميعهم غارقون في جو معتم، وإضاءة موزعة تذكرنا بأجواء المسرح. أما على اليسار وزير المالية، أشيل فلود Achille Fould وزير مالية نابوليون الثالث، لويس فايو Louis Veuillot، إميل دوجيرادان Emile de Girardin صحفيان، بيرسينيي Persigny تاجر في الألبسة، صياد، وعامل، وصيني iلاء جميعهم في نظر كوربي “يعيشون بالموت” أما أولئك الذين يصطفون على اليمين ف”يعيشون بالحياة”
في “محراب التشكيل” هذه التجربة البصرية، تطالعنا صور القاص محمد معتصم -سأؤطره مؤقتا في هذه الخانة- يأخذ مكانه دائما على اليمين في صوره الفوتوغرافية، من داخل مرسم الفنان، أما على اليسار فلا يهمني الآن. هل المبدعون يصطفون دوما على اليمين؟ أي عدم الوجود على اليسار. وهذا ما استشكله الفيلسوف “دولوز” عارضا أطروحة تعزز ما أفترضه: “ماذا سيعني عدمُ الوجودِ على اليسار؟
عدم الوجود على اليسار … إنه يشبه قليلا عنوانا بريديا، يمتد إلى الخارج من الشخص: الشارع الذي توجد فيه، المدينة، البلد، البلدان الأخرى أبعد وأبعد”. (l’abécédaire). إذا، فهو في وضع مريح، بحكم موقعه في صوره الفوتوغرافية برفقة الفنانين وهم في داخل مراسمهم. مصطفا ضمن زمرة أهل اليمين، الذين وصفهم غوستاف كوربي بمن يعيشون بالحياة، تاركا لفيف أهل اليسار وفيهم الصحفيون!!! الذين يعيشون بالموت.
يقترح علينا القاص محمد معتصم مقامات حوارية مع فنانين من أجيال مختلفة، من داخل مراسمهم ومحترفاتهم. والراصد الفهيم يدرك أن هذه التجربة ليست أمرا هينا لما تقتضيه من عقد ضمني؛ فهو يدخل مرسم الفنان في ضيافة آمنة واثقة.
“مرسمي هو حريمي” ورد هذا القول على لسان السارد في رواية باتريك غرينفيل Patrick Grainville “مرسم الفنان” ( l’Atelier du peintre, roman) أي ذلك المطبخ الداخلي الذي يصعب ولوجه بسلاسة. كل شيء فيه مغمور برائحة الصباغة، والزيوت، لوحة الألوان اللزجة، مناشف مبقعة، بنزين، مواد ملونة، الطلاء، لوحات معلقة وأخرى موضوعة على الأرض وثالثة في طور الإنجاز… هل اطلع الباحث الجمالي على كل مرافق المرسم؟ أترك له الجواب. لكن جوابا غيره نعثر عليه على لسان السارد في رواية “مرسم الفنان”:“عند الأصيل، أنسحب إلى مكتبي السري، إنه غرفة يفصلها عن المرسم بهو وبابان أنا وحدي من يملك المفاتيح. الدخول إلى المكتب السري من كبائر الممنوعات في المرسم” وهو في ضيافة الفنان فإن عين هذا الأخير تنظر إليه كما تنظر إليه لوحاته أو ينظران إليها معا. فماذا لو كانت هذه المعاينة تجاوزت حدود الضيافة إلى إقامة وسكن داخل المرسم؟
يذكر عبد الكبير الخطيبي في إحدى رسائله إلى غيثة الخياط: “أقمت في شقة -مرسم لصديق فنان- تقع على حدود الدائرة 13. هل سبق أن جَرَّبتِ السكن مع منجز فني؟ في نوع من الصحبة لصداقته المتوحدة، كما لو أن عين الرسام تنظر إلينا، على التوالي، من لوحة إلى أخرى.” (مراسلة مفتوحة، الرسالة 54).
لا يكتفي القاص محمد معتصم بتوثيق ما شاهده ورآه في المراسم، بل يشد الرحال إلى المعارض. إن المرسم والمعرض فضاءان في توتر بين الأصل وعرض العمل الفني (Véronique Rodriguez) في الأول يكون مشاهدا أول، وفي الثاني مشاهدا ثانيا وفي لقاء ثان من مقاماته الحوارية. في تجربة محراب التشكيل تتوارى الهوية الإعلامية أو تتعرض للخيانة قليلا؛ لأن صاحبها ينفلت من قبضة الإعلامي المكره بالزمن، الذي يفوت عليه خصلة الأناة في مقاربة العمل الفني ونقده.
تجربة يحضر فيها كثير من القاص وقليل من الإعلامي. لكن اين هو من الكتابة في الفن؟ وهل نثق في كتابته عن الفن والفنانين؟ من أين أتى إلى التشكيل؟ وهل أتى إلى التشكيل أم أن التشكيل أتى إليه؟
بالكتابة القصصية يوجد محمد معتصم في قلب الإبداع، وما يعتمل فيه من تجربة ومعاناة يشترك فيهما مع الفنان، ومن هنا يتجرد من صفته الإعلامية كثيرا لما يتخلص من الضغط المهني فيقاوم نصوصا بدون بصر. فما تخسره الممارسة النقدية مع الإعلامي تربحه مع الأديب: قاصا وروائيا (مخايل المطر، سيمفونية النوارس، نزيف العراء). إذا، فنحن نثق في ممارسته النقدية، ونطمئن إليها بقدر ما وثق فيها الفنان واطمأن إليها وهو يأويه إلى مرسمه ويحاوره. إن ممارسته الإعلامية قد تحفزه قليلا أو كثيرا على ذلك، لكن هويته السردية هي مفتاح “محراب التشكيل ومقاماته الحوارية”.
حينما نريد أن نؤطر في خانة أولئك الذين يكتبون عن الفن المعاصر، يتوالى علينا ضجيج من التوصيفات لهذا الكاتب أو ذاك: ناقد فني، مؤرخ للفن، باحث جمالي، ناقد تشكيلي، متذوق فني، سوسيولوجي للفن… بنكهة ساخرة يطرح أمبرطو إيكو كيف يصبح المرء مقدم كتالوغ فني؟ un presentatore di cataloghi d’arte PDC) ويجيب “ليس هناك ما هو أسهل من ذلك. يكفي أن يمارس مهنة فكرية…ويمتلك هاتفا باسمه، ويتمتع ببعض الشهرة.” ثمة ثلاثة اختيارات أمام المقدم حسب إيكو: الصرامة، والتساهل، والمراوغة (ويمكن أن أضيف الصداقة المفكرة). والمراوغة يعدها إيكو “مفتاح قبة الكتالوغات، إذا ما أراد المقدم حفظ كرامته وصداقته للفنان” (السفر مع سَلْمون ص 117) Come viaggiare con un salmone إذا أخذنا هزل أمبرطو إيكو مأخذ الجد في معارضاته ومستَعاراته الجديدة NOUVEAUX PASTICHES ET POSTICHES فإن صاحب “في محراب التشكيل” يملك مهنة فكرية هي الكتابة القصصية، وهي جوازه للمرور إلى الجمالية، وبها يكتسب ما شاء من الصفات والأسماء ذات الصلة بالفن المعاصر. ورغم كل ما تقدم فإن بول فاليري يقول: “علينا دوما الاعتذار عن الحديث عن التشكيل” فمعذرة للقاص محمد معتصم.