بين.. بين .. محمد الموجي وبليغ حمدي
بين إبداع الأصيل وإبداع المجدد
بقلم ذ: عبد المجيد شكير
محمد الموجي وبليغ حمدي ملحنان بصما الأغنية العربية، وحجزا مقعدين رفيعين داخل رياض أنغامها، فالأول لمع اسممه في بداية الخمسينات ولاسيما مع عبد الحليم حافظ في قطعة (صافيني مرة) ومع فايزة احمد في أغنية (أنا قلبي لي ك ميال) لتعانق أوتاره صوت كوكب الشرق (للصبر حدود ـ اسأل روحك…) وتشيع ألحانه الجميلة بأصوات نجوم الغناء، وأما الثاني فدخل عالم الشهرة بداية من سنة 1960 وذلك عندما لحن لأم كلثوم و بعد تزكية من الفنا نم حمد فوزي قطعتي (حب إيه ـ أنساك) ليصبح أحد فرسان النغم الخالد، لدرجة أنه يصعب على الباحث أن يجد مطربا أومطربة لم يغن من ألحانه .
بدأ الاثنان بالغناء أولا، فالموجي كان يغني ألحانه (يا عيني عا للي بحبه ـ داري جمالك ـ أكتب لك جوابات ـ اللي بتسألني عليه …) بينما كان بليغ يغني من ألحان غيره (ليل للعاشقين ـ يا قمرـ لو قلبي خالي ـ ياباكي ـ زيالي و مين دول ـ الطير العاشق ـ ما قدرت أصدقك … ) ليتفرغ تدريجيا للتلحين ويبتكر كل واحد منهما أسلوبه، ويرسم اتجاهه،ومن ثم برعا في إبداعاتهما وصنعا الروائع الخالدة، والتي لاقت النجاح والتقدير في حينها، ولازالت محفورة في وجدان المستمع.
كان الموجي ملحنا أصيلا محافظا، تذكرك ألحانه بالكبا ر والسلاطين أمثال محمد القصبجي و رياض السنباطي وزكرياء احمد وغيرهم، لم يكن الموجي يكرر السابقين، ولم يكن يستنسخ غيره، جاءت ألحانه نابعة من حناياه، مضمخة بأنفاسه، تسري فيها نعومة ترتاح لها الأذن، ويدب فيها همس عجيب يروي القلب الظمآن، ويتخللها إحساس رقيق تنقاد له فلا تستطيع منه فكاكا، ويشهد على هذا إبداعاته مثل (الرضى او النور لأم كلثوم ـ يامه القمر على الباب لفايزة احمد ـ كامل الأوصاف ـ أحبك ـ حبك نارـ قولولو الحقيقةـ جبارـ احضان الحبايب لعبد الحليم حافظ – عيون القلب لنجاة الصغيرةـ غاب القمر لشاديةـ يا حلو صبح لمحمد قنديل ـ صوت من بعيد للمطربة ليلى جمال ـ الغاوي لصباح – رمش عينه لمحرم فؤاد….).
وصدقت أم كلثوم حينما شبهته بنهر متدفق من الألحان الأصيلة لاتجد لها ما يشبهها عند غيره، وأما الموسيقار محمد عبد الوهاب فيرى أن الموجي صانع نجوم، وهو يختزن في رأسه مكتبة موسيقية، يستوحي منها جمله الرائعة التكوين، لذلك جاءت موسيقاه ثرية بالفن الراقي المتلون بالأصالة والتجديد مما أغنى موسيقانا العربية بثروة لا تقدر من الألحان.
بينما كان بليغ حمدي مجددا، مستفيدا من تراثنا الغنائي، فعمل على توظيفه في ألحانه، مركزا على الفولكلور الشعبي، ويتجلى هذا في ألحانه عموما وعلى وجه الخصوص مع شادية (خذني معاك – قولوا لعين الشمس ـ آه يا أسمراني اللون ـ الحنة يا حنةـ رنة قبقابي… ) ومع محمد رشدي (عدويةـ مغرم صبابة ـ ميتا أشوفك…) ومع عبد الحليم حافظ في (ـ أنا كلما أقول التوبة ـ سواح ـ على حسب وداد…) لقد جاءت ألحانه جذابة، مزخرفة بتلاوين نغمية لا تملك إلا أن تعجب بها، ألحانه تأسرك منذ بداية القطعة إلى نهايتها، لما فيها من فسيفساء ينسجها تناوب بين الأنغام، وانسجام صوت الغناء معها، كان بليغ يعتمد على ذكائه المتقد في صنع الجمال الذي يسحر المتلقي، ويكفي أن نتذكر له)في وسط الطريق ـ الطير المسافرـ نسي ـ سكة العاشقين ـ كلشيءراح ـ أنا باستناك لنجاة الصغيرة ـ زي العسل لصباح ـ أنا باعشقك ـ كان ياماكان ـ سيدي أنا لميادةالحناوي ـ مستنياك لعزيزة جلال –ياغزالا ـ سلامات ـ صبية لمحرم فؤاد ـ بهية لمحمد العزب ي ـ صدفة سعيدة لسعاد محمد …) ولم يجانب محمد عبد الوهاب الصواب حينما اعتبره عبقريا في ألحانه، له نبوغ لايضاهى في صنع الألحان الرشيقة .
تبنى الاثنان معا مشروعا واحدا ألا وهو اكتشاف المواهب، وذلك من أجل تطعيم المشهد الغنائي العربي بدماء جديدة، ومن أجل هذا أسس الموجي سنة 1962 في مكتبه مدرسة حملت اسم (الموجي للأصوات) ،تتلمذ فيها العديد من المطربين والمطربات، والذين احتضنهم الموجي بألحانه أمثال أحلام وأميرة سالم وعبد اللطيف التلباني وماهر العطار، ولكنها توقفت بعد فترة بسبب ضعف مواردها المادية، وأما بليغ حمدي فقد عاش كالطائر يتنقل هنا وهناك،و يسافر من بلد إلى آخر، بحثا عن المواهب لكي يمنحها فرصة الانطلاق بأحد إبداعاته، ومن أشهر الأصوات الجميلة التي قدمها، نستحضر المطربة ذات الصوت الأوبرالي عفاف راضي، والتي ظهر معها على المسرح وهي تغني لأول مرة باكورة ألحانه لها (ردوا السلام) ، لقد قاد بليغ الجوق في تلك الحفلة، وعرفت الأغنية نجاحا كبير ا جعله يستمر في التلحين لها (قضينا الليالي – المواني ـ هوى يا هوى ـ تساهيل).
كان إنتاجهما غزيرا جدا شمل جميع أنواع الغناء تقريبا وألوانه، فكلاهما كانت له تجارب مع المسرح الغنائي (أو بريت تمرحنةـ مهر العروسة ـ ياسين ولدي ـ عروسة المولد ـ ريا وسكينة ـ ست الكل ـ شقاوة كوكو …. لبليغ ـ مسرحية دنيا البيان ولاـ حمدان وبهيةـ ملك الشحاتين ـ الشاطر حسن ـ وداد الغازية ـ الخديوي ـ هدية العمر … للموجي) ولكن اللافت للنظر هو حضور القصائد في ألحان الموجي أكثر من بليغ ونتذكر له هنا ما لحنه لعبد الحليم حافظ (نداء الماضي ـ حبيبها ـ يا مالكا قلبي ـ رسالة من تحت الماء ـ قارئة الفنجان ….) وحتى في المجال الديني،كان الموجي أكثر حضورا واهتماما، فقد لحن مجموعة من الأدعية لكل من وردة، نجاة، ياسمين الخيام، عفاف راضي وعبد الحليم، علاوة على الأعمال الفردية وأشهرها (ياغائبا لا يغيب لميادة ـ طوف يا حمام لمحمد قنديل) ،إن ألمعيته في الألحان الدينية كانت عاملا قويا في المناداة عليه لتلحين المقدمات الغنائية للمسلسلات الدينية، (عمر بن عبد العزيزـ الكعبة المشرفة …) ونفس الملاحظة نسجلها حول فن الموشحات، فللموجي فيها باع طويل (ودع الصبر ـ ياعيوني ـ يا ساحر الفتنة ـ إني أضيع عهدك …) ويمكن القول إن اهتمام الموجي بالقصيدة والألحان الدينية والموشحات نابع من اتجاهه الأصيل والمحافظ، بينما نجد أن بليغ حمدي ركز جهده أكثر من الموجي على وضع الموسيقى التصويرية وخصوصا للأفلام السينمائية وتألق فيها إلى درجة أن الجمعية المصرية لفن السينما كرمته نظرا لدوره الخلاق في الموسيقى التصويرية للأفلام سنة 1990 . (احنا بتوع الأوتوبيس ـ مسافر بلا طريق ـ شيء من الخوف ـ العمر لحظة ـ أبناء الصمت ـ الأبرياء ـ شوارع من نارـ الزمارـ الأبرياءـ آه يا ليل يا زمن …) كان بليغ يحاول استعراض موهبته وكفاءته في مجال التلحين، بعيدا عن صوت المغني الذي قد يحجب عن المتلقي إبداع الملحن، ويتأكد هذا باهتمامه البالغ بالمقطوعات الموسيقية والرقصات، وفيها حرص على استثمار أفكاره الموسيقية الجديدة (أوزوريس ـ النيل ـ الليل ـ اسكندراني ـ ثومة ـ وردةـ دندش ـ راية النصر ـ رمسيس ـمن الشباك ـ مراكب ـ نورـ مصرية ـ تراتيل ـ رسالة ـ صنوبر…) لقد أبدع كل واحد منهما داخل اتجاهه، وإرضاء لقناعاته، فالموجي قدم عطاء محترما رفيعا داخل المدرسة الأصيلة، وبليغ أمتعنا وأبهرنا بروائعه داخل مدرسته التجديدية، فكان طبيعيا أن يحظى الاثنان بالحب الشعبي والجماهيري وينالا أيضا التقدير الرسمي، فمحمد الموجي نال الميدالية البرونزية سنة 1965 ،ووسام العلم ووسام الاستحقاق سنة 1975 ،ومنحته جمعية المؤلفين والملحنين بباريس الميدالية الفضية اعتبارا لإبداعاته المتميزة، علاوة على شهادات تقدير وأوسمة ونياشين من معظم ملوك ورؤساء الدول العربية، كما أقيم له حفل ضخم تكريم ا لفنه ولعطائه على مدى عقود طويلة، وأما بليغ حمدي فقد نال هو الآخر جائزة في عيد العلم سنة 1965، وميدالية في العيد الذهبي للإذاعة المصرية سنة 1984 ،وشهادة تقدير من البيت الفني للفنون الشعبية بوزارة الثقافة سنة 1985 .